العري والغضب (2)
اليوْم لا يدرى إن كان أصاب أم أخطأ، ولكنه
وقع في أسْر القضيّة ، فوكّل المحامي، وتبـارى المحـامـون، وتكلّم الـشـهـود، ولم
يعـد في الإمكان تغيير الخطّة، وها هو عارٍ مُلقى على فراشٍ عارٍ على حين ينتظر
المحامي ويتعجّب!، ولكن ألم تغب الفتاة في الحمّام أكثر مما يجب؟!، أي مظهرٍ خدّاع
. وأي آمالٍ قد تبدّدت، يبدو أن الدنيا تتغيّر بأسرع مما يدرك، وقـد ينزلق في
هاويةٍ مـخـيـفـةٍ بسبب رغـبـتـه الملحّة في الزواج والاستقرار، وفضلاً عن ذلك
فعليه أن يؤجّل مشروع الزواج حتى يتم الفَصْل في القضيّة، وإلّا فما جدوى أن يتزوّج
اليـوْم ثم يشهر إفلاسه غداً؟!
-
هل تلجأ للقضاء لأنك
متعلّمٌ حقّاً أو لأنك ضعيف؟
-
إنّك تتكلّم يا عمّي
بلغةٍ هيروغليفية.
-
ابصقْ على ذقني إن
نجحتْ في ذلك السبيل مقاصدُك.
-
نحن نتفاهم بلغةٍ حيّةٍ
جديدة.
لا بد للحق أن ينتـصـر ولو طال الزمن، ولكـن
مـا بـال المرأة قـد تأخّرت؟ ماذا تفعل في الحمّام؟، وبَرِمَ بالانتظار (سَئِمَ من
الانتظار) فغادر الفِراش، فتح البـاب نصف فتحة، أخـرج رأسـه فـرأى الصالة غارقةً
في الظلام إلا شـعـاعـاً يـتـرامي من منعطفٍ جـانبي خمّن أنّه الحمّام، تنحنح فلم
يرد أحد، صفّق فلم يرد أحد، سار على أطراف أصابعه نحو الضـوء حتى وجد نفسه في الحمّام
ولكنه وجده خالياً، أدرك أنها اغتسلت ثم ذهبت إلى مكانٍ ما – لعله المطبخ – فقرّر
أن يأخذ دُشّاً.
وتحت سيال الماء المتدفّق انتعشت روحه وخَفَّ
شعوره بالذنب حيال المحامي، أَجَل سيرميه (سيتهمه) بالإهمال فهذا دأبه كلّما قَعَدَ
(تكاسل) عن الاتصال به عذر، ومع ذلك فعندما واظب على ملاحقته في الشهر الماضي ضاق
به وقال له:
-
يلزمك أعصابٌ من
حديدٍ لكي تواجه حياة العصر.
وقال له أيْضاً مازحاً:
-
إنّى أتوقّع أن
تجيئني المرة القادمة حافي القدميْن مُرْسَل شعر اللحية (شعر ذقنه مطلوقٌ دون
حِلاقة) والرأس مسطولاً كما يفعل شباب العالم الحر.
والمسألة في حقيقتها أن القضيّة هي حياته أمّا
بالنسبة للمحامي فهي النشـاط رقـم كـذا فـي جـدول أعـمـالـه الحافل بأمـورٍ لا
نهـائيـّة، وهو – المحامي – رغم رسـوخـه في العلم وقدرته الفائقة على الإنجاز،
ورغم عطفه الشديد عليه، فإنه لا يَكِنُّ له احتراماً كافياً، وفي ساعة صفاءٍ وهما
يتناولان الغداء معاً قال له:
-
لولا اندفاعك
الجنوني لما كان للقضيّة وجودٌ أصلاً.
فقال له بإصرار:
-
إنها مسألة كرامة.
-
ولكن حتى الاندفاع
الجنوني يجب أن يقوم على أساسٍ من العقل.
-
الحقيقة أنك لا
تفهمني.
-
حقّاً! .. أأنت لغز؟
-
إنّى أحترم أموراً
تعتبرها أنت بكل بساطةٍ خرافاتٍ وأباطيل.
-
لقد تأخرتَ يوْماً
عن موْعدٍ هامٍ لتشهدَ صلاة العيد .. فما معنى ذلك؟
-
قصصتُ عليك عشرات
القصص ولكنك لا تصدّق.
-
حقّاً؟ .. فماذا
يعني جَرْيَك وراء النسوان وتقلّبك في الحانات؟
عند ذاك قال بانفعال:
-
أأنت محامٍ أم مربٍّ؟
وغادر الحمّام عائداً إلى الحجرة وهو يضمر
لها – المرأة – عتاباً على طول اخـتـفـائـهـا ولكنّها لم تكن قد رجعت بعـد، وذَرَعَ
الحجـرة (سار فيها بسرعة وقطعها كأنه يقيسها) ذهاباً وجـيـئـةً ثـُمَّ قـرّر أن
يرتدي ملابسه، اتجه نحو المشجب (الشمّاعة التي تُعَلَّق عليها الملابس) ولكنّه لم
يجـد لملابسـه أثراً، ذُهِل، أجال بصره في أنحاء الغرفة ولكنه لم يعثر على شيء،
أية مداعبةٍ سخيفة، "ربّاه" .. نَدَتْ عنه في ذهولٍ أشـد عنـدمـا تبيّن
له أيْضـاً أن ملابس المرأة غـيـر موْجودة، تفحّص أنحاء الحجرة بغضب، نظر أسفل
السرير، مضى نحو الباب وصفّق بشدّة، ولم يكن عرف لها اسماً فصاح: "یا سِت"،
وبنبرةٍ أشد: "يا هووه"، واندفع يفتّش الشقة الصغيرة، الحمّام مرّةً
أخرى والمطبخ ولكنّه لم يجد أثراً لإنسان، ومضى نحو باب الشقّة فوجده مغلقاً
بإحكام فرجع إلى الحجرة وهو يتـمـيّـز غيْظاً وحنقاً، واضحٌ أن المرأة قـد ذهبت،
من السهل تصوُّر أنها كانت مختفيةً في ظلام الصالة عندما دخل الحمّام، ثم ارتدت
ملابسها بسرعةٍ وأخذت ملابسه وذهبت، ما معنى ذلك؟، هل أرادت سرقته مع منعه من
اللحاق بها؟، افتراضٌ غيْر مطمئِن، وثـَمَّةُ سؤالٌ آخر: بيْت مَن هذا؟ .. وأي
علاقةٍ للمرأة به؟، وكيْف تتركه عارياً في هذه الشقّة الجرْداء؟!