الجزء الرابع
في جزيرة "مونت كريستو"
قضي "دانتيس"
شهريْن ونِصف شهر يعمل بحّاراً في سفينة المهرِّبين، ويمر بجزيرة "مونت کریستو"
ذهاباً وإياباً بدون أن يجد الفرصة الملائمة للهبوط فيها وأخيراً اقترح الرُبّان
الوقوف عندها للراحة، وكانت مهجورةً تماماً بحيث بدت مكاناً نموذجيّاً لتجارة
التهريب.
وفي اليوْم التالي لم
يرتَب أحـدٌ في نوايا "دانتيس" حين أعلن عزمه على اصطياد بعض الوعول
البريّة التي تقفز بين الصخور، ثم تظاهر بأنه سقط من صخرةٍ وأصيب في ركبته إصابةً
تُعجِزه عن الحركة، واقترح عليه زملاؤه أن يحملوه إلى السفينة فأبى قائلاً إنه يفضِّل
الموْت على آلام التحـرُّك، ثم طلب إلى إخوانه أن يتركوا له بعض المؤن ويعودوا إليه
بعد يوميْن أو ثلاثة، أو يُرسِلوا إليه أى زوْرق صيْدٍ يصادفونه في البحر، فلم يسَعهم
إلّا إجابته إلى طلبه.
ولم تكَد سفينتهم تبحر
حتى هب من مرقده في خِفَّة الغزال حاملاً معه بندقيّته وفأسه، وهُرِعَ نحو المكان
الذي حدَّدته خريطـة الراهب مكاناً للكنز، وهناك لمح آثاراً على الصخور تؤدّي إلى أُخدودٍ
صغيرٍ يكفي اتساعه وعمقه لمرور زوْرقٍ صغير وإخفائه عن العيون، فرجَّح أن يكون الكاردينال
"سبادا" قد أحضر كنزه إلى هذا المكان في زوْرقٍ أخفاه في الأخدود ثم دفن
كنزه في نهايته عند صخرةٍ ضخمةٍ تغطّي تلك النهاية.
وتمشياً مع هذه النظريّة
راح يحفر بفأسه مجرىً صغيراً بين الصخرة العُليا والتي تحتها، ثم ملأه بالبارود
وأشعل طرف الفتيل وانسحب، فلمّا حدت الانفجار رفع الصخرة العُليا من قاعدتها وحطَّم
السُفلي تحطيماً، وفَرَّ من شقوقها آلاف الحشرات، يتبعها ثعبانٌ ضخمٌ كان كأنه
شيطان الكنز الحارس، لكنه لم يلبث أن تسلَّل إلى الظُلمات واختفى.
واقترب "دانتيس"
من الصخرة العُليا التي مالت نحو البحر .. ثم وضع جذر شجرة زيْتونٍ في أحد الشقوق
وبذل كل قواه وأجهد كل أعصاب جسمه کي يزحزح الحجر، وأخيراً تداعت الصخرة وانزلقت
تتدحرج من قمّةٍ إلى قمّة حتى اختفت آخر الأمر في جوْف البحر.
وكانت البُقعة التي تغطّيها
الصخرة مستديرة الشكل، تكشف عن حلقةٍ حديديّةٍ مثبَّتةٍ في بلاطةٍ مربَّعة، فوضع
عتلة شجرة الزيْتون في الحلقة وجذبها بكل قوّته، فانكشفت البلاطة عن سُلَّمٍ يؤدّي
إلى كهفٍ عميقٍ تحت الأرض.
وهبط "دانتيس"
السُلَّم، لكنه بدلاً من أن يجد ظُلمةً في قاع الكهف وجد ضوْءاً خافتاً يتسرَّب من
شقوق الصخور، وتذكَّر أن وصية الكاردينال حدَّدت مكان الكنز بأنه في "أبعد
زاويةٍ من الفتحة الثانية"، وإذن فعليه أن يبحث الآن عن الكهف الثاني، وخطر
له أن هذا الكهف المنشود لا بُد أن يوجد في مكانٍ أبعد من شاطىء الجزيرة، فراح يدق
الصخور ويُنصِت إلى رنينها علّه يسمع رنيناً أجوَف ينم عن وجود الكهف، وأخيراً خُيِّل
إليه أنه يسمع الرنين المطلوب، فعاد يدق الصخور ليتأكَّد من الأمر، فتهشّمت طبقةٌ
خارجيّةٌ تكسو الصخرة، وكشفت بذلك عن حجرٍ أبيض كبير.
لقد غُطيَت فتحة الكهف
بالأحجار ثم كُسيَت بتلك الطبقة وطُليَت بحيث تُشبِه ما حولها من الجرانيت.
والفأس التي كانت ثقيلةً
في البداية صارت الآن في خِفّة الريشة، فحين تم لـ"دانتيس" الكشف عن
الفتحة هبط إلى الكهف الثاني، فإذا هو أعمق وأحلك ظُلمةً من الأوّل، وإلى يسار
الفتحـة كانت توجد زاويةٌ عميقةٌ مظلمة، قدَّر الشاب من منظرها أن الكنز لو وُجِد
فلن يوجد إلّا فيها، ومن ثَمَّ تقدَّم نحوها وأهوى بفأسه على أرضها، وعند الضربة
الخامسة أو السادسة اصطدمت الفأس بسطحٍ ذي رنينٍ يُشبِه الحديد، وسرعان ما رأى
الشاب خِزانةً من خشب البلّوط مثبَّتـةً بأحزمةٍ من الفولاذ وفى وسط غطائها لوحةٌ
فضيّةٌ حُفِر عليها شعار أُسرة "سبادا".
وأمسك الصندوق من مقبضه
وحاول أن يرفعه فلم يفلح، فحوّل هَمّه إلى محاولة فتحه، وبعد جهودٍ جبّارةٍ بمختلَف
الوسائل لانت الأقفال وانكسرت، ولكنه أُصيب بدوار، فأغمض عيْنيْه وفتحهما ليستوثق
من أنه لا يحلُم؟
كان الصندوق مقسَّماً
إلى ثلاثة أقسام: لمعت في الأوّل منها أكوامٌ من العُملة الذهبيّة البرّاقة؛ وكان
القسم الثاني يحوي كُتَلاً من الذهب غير المصقول؛ أمّا الثالث فقد اغترف الشاب منه
بيديْه حفناتٍ من الجواهر الخلّابة من ماسٍ ولؤلؤٍ وياقوت.
وحين استرد هدوءه
وأطربته فرحته عكف على إحصاء محتویات کنزه: كانت هناك ألف سبيكةٍ من الذهب الخالص
زنة كُلٍّ منهـا من رطلين إلى ثلاثة؛ ثم خمسةٌ وعشرون ألف ريال يساوي كُلٌ منهـا
نحو ثمانين فرنكاً من العملة المتداوَلة ويحمل رسم البابا "ألكسندر السادس"
وأسلافه؛ وعشرون حفنةٍ من الماس واللآلىء النادرة.
وكان النهار قد أوْشك
أن ينقضي فخشی "دانتيس" أن يفاجئه أحدٌ في الكهف فغادره وبندقيّته في
يده، وفي تلك الليْلة تناول عشاءه بضع قطعٍ من البسكويت وكأساً من الروم، ثم اختلس
من الليْل بضع ساعاتٍ نامها فوق فوهة الكهف نوْماً متقطِّعاً تتخلَّله مشاعرٌ مختلِطةٌ
من الفرح والفزع.
ولمّا أشرق النهار
التالي - بعد أن انتظره "دانتيس" بفارغ الصبر - هبط إلی مكان الكنز حيث
ملأ جيوبه بالجواهر ثم أغلق الصندوق بإحكام وأعاد كل شيءٍ إلى مظهره الأوّل سواء
في داخل الكهف أو خارجه، بحيث لم يترك وراءه أثراً ينم عن اقتراب إنسانٍ من المكان،
ثم ربض على الشاطئ في انتظار وصول قافلةٍ من البحّارة.
وفي اليوم السادس عاد
المهرِّبون إلى الجزيرة، فلم يكَد "دانتيس" يلمح شراع السفينة "إميليا
الشابّة" حتى خف إلى الشاطيء ليستقبل إخوانه، وحرص على أن يقول لهم إن إصابتـه
لم تُشفَ تماماً وإن خفَّت حِدَّة آلامه، وفيما هو يثرثر معهم فهم من حديثهم أنهم
يخشوْن أن تلتقى بهم سفينةٌ من سُفُن حُرّاس السواحل علموا أنهـا غادرت مينـاء "طولون"
لمطاردتهم.
ولم تُضيِّع الجماعة
وقتاً في الانتظار فأقلع الجميع بسفينتهم إلى ميناء "ليجهورن" (ميناء
يقع على الساحل الغربي لـ"إيطاليا" شمال "روما" وأصبح اسمه
الآن "ليفورنو")، وهناك عرج "دانتيس" على جوهري یهودي باع له
أربعةً من الأحجار الصغيرة التي يحملها في جيوبه بعشرين ألف فرنك، ثم عاد يقول
لزملائه البحّارة المهرِّبين أن ميراثاً قد آل إليه من عَمٍّ له، وأنه سوف يتركهم
نهائيّاً، ثم قدَّم لصديقٍ له منهم كان قد أحبّه - ويُدعى "جاکوبو" -
سفينةً شراعيّةً جديدةً على سبيل الهديّة، علاوةً على مبلغٍ من المال يعينه على
استئجار بحّارةٍ لحسابه والاستقلال بالعمـل، مقابل شرطٍ واحدٍ اشترطه "دانتيس"
عليه، هو أن يذهب من فوْره إلى "مارسيليا" ويستقصي أنباء شيْخٍ مُسِنٍ يُدعى
"لويس دانتيس" يقطن حارة "دي ميان"، وفتاةٍ شابّةٍ تُدعى "مرسيديس"
من قاطنات قرية "کاتالان".
وفي صباح اليوْم التالي
أبحر "جاکوبو" بسفينته إلى "مارسيليا"، على أن يعود فيلتقي
بولي نعمته في جزيرة "مونت كريستو"، حيث يقدِّم له تقريراً عن المهمّة
التي أدّاها في "مارسيليا".
وبعد أن ودّع "دانتيس"
زملاءه المهرِّبين ووزّع عليهم الهِبات والهدايا بمناسبة الإرث الذي آل إليه رحل
وحده إلى "جنوة"، وعنـد وصوله كان أحد أساطين بناء السُفُن يُجري
تجربة يختٍ جدیدٍ صنعه لثر]ٍ إنجلیزي
مقابل مبلغ أربعين ألف جنيه، فعرض عليه "دانتيس" أن يبيعه إيّاه بثمنٍ
يزيد عشرين ألفاً أخرى، ووجد الصانع أن في وسعه بناء يختٍ آخر مماثل قبل موْعد
وصول الثري الإنجليزي لتسلُّمه فقبل ما عرضه عليه الشاب، وعندئذٍ قاده "دانتيس"
إلى منزل تاجرٍ يهودي حيث خلا هو أوّلاً إلى التاجر فترةً باعه خلالها عدداً من
الجواهر التي يحملها في جيوبه، ثم خرج فدفع إلى صاحب اليخت الثمن المُتَّفَق عليه وطلب
إليه أن يصنع خِزانةً سريّةً توضَع في مخبأٍ غير منظورٍ في كابينته الخاصّة باليخت،
فأتم الصانع المهمّة المطلوبة منه في اليوم التالي.
وبعد ساعتين أبحر "دانتيس"
باليخت من ميناء "جنوة" بين حشـدٍ من المتفرِّجين الذين تجمهروا ليروا ذلك
النبيل "الأسباني" الذي يقود يختـه بنفسه، وعند غروب شمس اليوْم التالي
رسا "دانتيس" بيخته في أحد خِلجان جزيرة "مونت كريستو"، ولم
يكد يُشرِق النهار حتى عكف على نقل كنزه الضخم إلى المخبأ السري الذي في كابينته،
ففرغ من مهمّته قبيْل الغروب.
ثم قضى "دانتيس"
أسبوعاً آخر يتجوَّل بيخته حوْل الجزيرة - في انتظار عودة "جاكوبو" -
ويدرس معالمها بعناية الفارس البارع الذي يدرس مؤهّلات جواده الجديد الذي يُعِدُّه
للاشتراك في سباقٍ حاسم.
وفي اليوْم الثامن لمح
سفينة "جاكوبو" الصغيرة تدنو من الجزيرة، وحين رسا بها صاحبها إلى جوار
يخت مولاه حمل إليـه نتيجـة أبحاثه بصدد المهمّتيْن اللتيْن عهد بهما إليه، وكانت
نتيجـةً غير سارة: فإن "لويس دانتيس" قد مات؛ أمّا "مرسيديس"
فاختفت ولا يعلم أحدٌ عنها شيئاً.
أصغى الشاب إلى هذه
الأنباء بهدوءٍ متكلَّف، ثم قفز نحو الشاطيء في خِفّةٍ مُعرباً عن رغبته في أن يُترَك
وحده بعض الوقت، وحين عاد بعد بضع ساعاتٍ أمر اثنيْن من بحّارة "جاكوبو"
بإعداد اليخت للمسير في اتجـاه "مارسيليا"، لقد كان "دانتيس"
متأهِّباً لنبأ موْت أبيه أمّا اختفاء خطيبته الغامض فلم يدرِ كيف يعلِّله.
ولم يكُن في وسعه أن
يزوِّد أحداً من رجاله بتعليماتٍ واضحةٍ بصدد المستقبل، بغير أن يُفشي سِرّه، إلّا
أن بعض المعلومات التي كان يريد الوصول إليها لم تكن تصلح بطبيعتها لأن يستقصيها
سواه، وكانت المرآة قد دلَّته عند وصوله إلى "ليجهورن" على أن هيْئته قد
تغيَّرت بحيث لم يعُد في إمكان أحدٍ أن يعرف حقيقة شخصيّته، هذا إلى كوْنه يملك
الآن من وسائل التنكُّر ما يكفل اتخاذه أي اسمٍ وأيّة شخصيّة يقع اختياره عليها.
وهكذا رسا بيخته ذات
صباحٍ جميلٍ في ميناء "مارسيليا"، تتبعه سفينة "جاكوبو"
الصغيرة، واختار لرسوِّه الرصيف المواجه لذاك الذي حُمِل منه إلى القارب الذي أقلّه
إلى سجن "قصر إيف" الرهيب في تلك الليْلة الليْلاء التي لا تُنسَى.
وبرغم أنه كان يرتجف
رجفةً غير إراديّة كلما وقع بصره على أحد رجال الشرطة إلّا أنه تذرَّع بقدرته على
تمالُك نفسه، وكان قد تعوَّد ذلك أثناء معاشرته للراهب العلّامة "فاريا"
في السجن، فلم يبدُ عليه أدني انفعالٍ وهـو يقدَّم إلى شرطة الميناء جواز سفره الإنجليزي
الذي حصل عليه من "ليجهورن"، وبفضل ذلك الجواز الأجنبي - الذي يُحتَرَم
في "فرنسا" أكثر من الجوازات الفرنسيّة نفسها - استطاع أن ينزل إلى البَر
بلا صعوبةٍ تُذكَر.
وكان أوّل مَن لفت نظره
على أرصفة الميناء بحارٌ من مرؤوسيه القَدامي في السفينة "فرعون" فخطر
له أن يمتحن تنكُّره بالتحدُّث إلى الرجل، فاتجه إليه وراح يُلقى عليه بعض الأسئلة
المختلفة وهو يرقب تعبير وجهه بعناية، لكن البحّار لم تصدر عنه كلمةً أو نظرةً تنم
عن أنه قد رأى محدِّثه يوماً من الأيّام من قبل، وفى النهاية منحه "دانتيس"
قطعةً من النقود جزاءً له على شهامته وانصرف.
وكانت كل خطوةٍ يخطوها
تقبض قلبه وتثير في نفسه عواطف وذكريات، فلما بلغ نهاية شارع "دي نواي"
ولمح حارة "دي ميسان" اهتزّت ركبتاه لفرط تأثُّره حتى كاد يسقط تحت
عجلات عربةٍ عابرة، وأخيراً بلغ المنزل المتواضع الذي كان يقطنه أبوه.
كان المسكن الصغير الذي
عاش فيه الأب يقع في الطابق الخامس، حيث يسكن الآن شابٌ وعروسٌ لم يمضِ على
زواجهما أسبوع، ولم يكن قد بقي من مظهر المسكن القديم غير جُدرانه، فالتمس الزائر
رؤية المسكن، ولاحظ الزوْجان عليه علائم التأثُّر العميق آثرا أن يحترما قداسة حزنه
فلم يسألاه عن سببه وملابساته وتركاه يتأمّل المكان كما يشاء، فلمّا انسحب آخر
الأمر من موْطن ذكرياته رافقاه حتى الباب ووجَّها إليه الدعوة کي يعود لزيارة المكان
في الوقت الذي يروقه.
وأثناء نزول "دانتيس"
السُلَّم توقَّف في الطابق الرابع ليستفسر عمّا إذا كان "الترزي" المدعو
"كادروس" ما يزال يقطن مسكنه القديم؟، فقيل له أن الرجل قد أصيب بضائقةٍ
ماليّة جعلته يهجر مهنتـه، وأنه الآن يدير حانةً صغيرةً على الطريق بين "بيلجارد"
و"بوكیر"، ثم استفسر عن مالك المنزل، فلمّا عرف عنوانه وَكَّل مُسَجِلاً
للعقود فابتاعه له من مالكه باسم اللورد "ويلمور" - وهو الاسم المثبت في
جواز سفره الإنجليزي - مقابل مبلغ خمسةٍ وعشرين ألف فرنك، وهو مبلغٌ يساوى عشرة أضعاف
قيمته الحقيقيّة، ولو طلب المالك نصف مليونٍ من الفرنكات ثمناً له لحصل عليها، وفي
اليوم نفسه أخطر مُسَجِّل العقود قاطني الطابق الخامس أن المالك الجديد يعرض
عليهما أن يختارا أي مسكنٍ آخر في المنزل بالإيجار الزهيد نفسه ويُخليا مسكنهما
الصغير.
وقد أثارت هذه القِصّة
الغربية اهتمام أهل الحي وفضولهم، فراحوا يعلِّلونها بشَتّى التعليلات، لكن تعليلاً
واحداً منها لم يقترب من الحقيقة الخفيّة أو يحوم حوْلها.
جزاء الوفاء
لعل الذين طافوا بجنوب "فرنسا"
مرّوا خلال الطريق بين مدينة "بوكير" وقرية "بيلجارد" بحانةٍ
صغيرةٍ يؤرجح الهواء على واجهتها لافتتها المصنوعة من الصفيح، وقد أشرف على
إدارتها خلال السنوات السبع الأخيرة رجلٌ وزوْجته يعاونهما اثنان من الخدم، أمّا
الرجل فكان صاحبنا الترزي القديم "جاسبار کادروس"، وأمّا زوْجته فكانت
امرأةً شاحبةً يبـدو عليها المرض لا تكاد تبرح مخدعها في الطابق الثاني، بينما يُشْرِف
زوْجها على استقبال الرُوّاد وإجابة طلباتهم.
وفي ذات يوْم رأي "كادروس"
رجلاً يرتدي مسوح رجال الدين السوداء ويمتطي جواداً، مُقبِلاً من جهة "بيلجارد"
وعلى رأسة قُبَّعةٌ مثلَّثة الأركان، فلمّا ترجَّل أمام باب الحانة استقبله صاحبها
مُرَحِّباً، فألقي عليه القَس نظرةً طويلةً فاحصة، ثم قال يسأله في لهجةٍ إيطاليّةٍ
قويّة:
- أنت مسيو "کادروس"؟ .. أظن ذلك
.. أمّا أنا فأُدعى القَس "بوزوني" .. هل عرفت في سنة 1814 أو 1815 بحّاراً
شابّاً يُدعی "دانتیس"؟
فأجابه "کادروس"
وقد احمرَّ وجهه تحت نظرة القَس الصافية الهادئة:
- "دانتیس"؟ .. نعم .. لقد كان "إدمون
دانتيس" من أعز أصدقائي.
ثم استطرد بعد حين
قائلاً:
- أخبرني إذا سمحت أيها الأب: ماذا جرى لـ"إدمون"
التَعِس؟ .. هل تعرفه؟ .. هل هو حَيٌ مطلق السراح؟ .. هل هو موسرٌ وسعيد؟
- بل أنه مات سجيناً تَعِساً محطَّم القلب
فريسةً لليأس المرير.
عندئذٍ غامت على وجه "كادروس"
سحابةٌ من الشحوب الشبيه بشحوب الموْتى، ثم أدار وجهه بعيداً، ورآه القَس يمسح
الدموع عن عيْنيْه بطرف المنديل الأحمر المربوط حول رأسه ثم أردف
"كادروس":
- هل كنت تعرف الفتى المسكين إذن؟
- لقد استُدعيت لأراه على فراش الموْت، كي
أُدخِل على نفسه عزاء الدين .. ولقد أقسم "دانتيس" في حضرة الموْت أنه
يجهل كل شيءٍ عن سبب سجنه.
فغمغم
"كادروس":
- هذا صحیح .. آهٍ یا سیّدي .. إن الفتى
المسكين قد ذكر لك الحقيقة.
فقال القَس:
- ولهذا السبب ناشـدني أن أكشف الستار عن
لغزٍ لم يستطِع يوْماً أن يحلَّه .. وأن أُنقّي ذكراه من أيّة وَصْمةٍ أو شائبةٍ
تكون قد علقت بها.
وهنا استراحت نظرات القَس
على وجه "كادروس" الذي تَمَشَّتْ فيه كآبةٌ وانقباضٌ شديدان، ثم استطرد
قائلاً:
- لقد عرف دانتيس في سجنه ثريّاً إنجليزيّاً
أُطلِق سراحه في عهد الإمبراطوريّة الثانية .. كان يملك ماسةً كبيرة القيمة أهداها
يوم خروجه من السجن إلى "دانتيس" إعراباً عن امتنانه وشكره له على
العناية والعطف اللذيْن أظهرهما الشاب نحوه وهو يُمَرِّضه أثناء إصابته بمرضٍ خطيرٍ
في سجنه .. وتُقَدَّر الماسة بنحو خمسين ألف فرنك.
وأخرج القَس من جيْبه
علبةً صغيرةً فتحها فبَهَرَتْ الماسة التي في داخلها عيْنيْ "کادروس"
الذي سأله ملهوفاً:
- ولكن كيف وصلت الماسة إلى حيازتك يا سيّدي؟
.. هل أوْصى لك "إدمون" بها؟
فقال القَس:
- كلّا .. بل جعلني مُنَفِّذاً لوصيّته ..
وقد ذكر لي أنه كان يوماً له أربعة أصدقاءٍ أوْفياء إلى جانب العذراء التي كان
خطيبها .. وقد شعر بأنهم جميعاً تألمّوا لغيابه أشد الألم .. أحدهم يُدعى "كادروس"
....
وهنا ارتجف صاحب الحانة
لذِكْر اسمه، بينما استطرد محدِّثه يروي على لسان "دانتيس" متظاهراً
بأنه لا يلحظ ارتباك "كادروس":
- .... والصديق الثاني يُدعى "دانجلر"
والثالث كان - برغم أنه غريمه - يحبُّه أخلص الحب وكان اسمه "فيرناند"
.. أمّا خطيبته فاسمها "مرسيديس" .. وقد كلّفني أن أذهب إلى "مارسيليا"
لأبيع الماسة وأُقسِّم ثمنها إلى خمسة أنصبةٍ متساوية .. ثم أُعطي كُلاً من هؤلاء
الأصدقاء الأوْفياء نصيباً منها .. فهم وحدهم الذين أحبّوه على الأرض.
- ولكنك لم تذكر غير أربعة أسماءٍ فـمَـن الخامس؟
- الخامس هو والد "دانتيس" ..
وقد علمت أنه توفّي.
- صحیحٌ یا سیّدي .. إن الشيْخ المسكين قد
مات.
وكادت تخنق القَس
"بوزوني" غُصَّةٌ وانفعالٌ مكتوم بينما استطرد قائلاً وهو يبذل جهداً
كبيراً كي يُخفي تأثُّره:
- لقد وقفت من أبحاثي في "مارسيليا"
على معلوماتٍ كثيرة .. لكنني عجزت عن الاهتداء إلى مَن يصف لي كيف كانت نهاية والد
"دانتيس" .. فهل تعرف شيئاً في هذا الصدد؟
- ومَن يعرف إذا لم أعرف أنا؟ .. لقد كنت
أعيش في المسكن الذي يقع أسفل مسكن الأب مباشرةً .. لقد مات "لويس دانتيس"
بعد نحو عامٍ من اختفاء ولده .. والناس يقولون أنه مات من الحُزن .. أمّا أنا الذي
رأيته في ساعات احتضاره فأقول لك أنه مات من الجوع.
فهتف القَس وهو يهبُّ
من مقعده:
- مات من الجوع؟! .. إن شَرَّ الحيوانات لا
تموت هذه الميتة البشعة .. هذا مستحيل .. مستحیل.
فاستطرد "کادروس"
مستدركاً:
- لست أعني أن الجميع قد هجروه أو نبذوه
تماماً .. فإن "مرسيديس" ومسيو "موريل" كانا يعطفان عليـه ..
ولكن لسببٍ ما ظل الشيْخ التَعِس يَكِنُّ كراهيةً شديدةً للمدعو "فيرناند"
الذي ذكرتَ اسمه منذ حين بين أصدقاء "دانتيس" الأوْفياء.
- أَوَلَمْ يكن كذلك في الواقع؟
- وهل يمكن أن يكون الرجل وفيّاً لغريمه
الذي ينافسه على الحظوة بالمرأة التي يحبُّها ويريدها لنفسه؟ .. مسكينٌ "إدمون"
.. لقد خدعوه بقسوة .. لكنه لحسن الحظ لم يعرف .. وإلّا لتعذّر عليه وهو على فراش
الموت أن يصفح عن أعدائه .. والواقع أن هبة "إدمون" المسكين لا يستحقُّها
الخَوَنة أمثـال "فيرناند" و"دانجلر" اللذيْن وَشيا به
باعتباره من عملاء "نابوليون" .. لقد كنت حاضراً ذلك الحادث.
- ولماذا لم تحتج أو تعترض على هذا الإثم؟ ..
إنك إذا كنت لم تفعل فقد كنت شريكاً فيه.
- سیّدي .. إنهما قد سقياني من الخمر ما
أفقدني كل وعيٍ تقريباً بحيث لم أعُد أشعر بما يجري حوْلي إلا شعوراً مُبهماً غير
واضح .. وقد قُلتُ كل ما كان في استطاعة مَن في مثل حالتي تلك أن يقول .. لكن
اللعينيْن أكّدا لي أنهما يمزحان ولا ضرر من مزاحهما البَتّة .. ومع ذلك فإن وخز
الضمير يطاردني ليل نهار.
- لقد أشرت إلى شخصٍ يُدعى مسيو "موريل"
.. فمَن يكون؟
- إنه صاحب السفينة "فرعون"
ورئيس "دانتيس" .. وقد توسَّط من أجله عشرين مرّة .. وحين عاد الإمبراطور
إلى عرشه طالب بالإفراج عن السجين بحماسةٍ جعلت القوْم يضطهدونه فيما بعد باعتباره
من أنصار "بونابرت" .. وقد ذهب لزيارة والد "دانتيس" عشر مرّات
.. ودعاه کي يزوره في بيتـه .. وقبل وفاة الرجل بيوْمٍ أو اثنيْن ترك مسيو "موريل"
كیس نقوده فوق رف المدفأة .. فدُفِعَتْ منه ديون الميّت وأُنفِقَ على دفنه بالمظهر
اللائق .. وهكذا مات والد "إدمون" كما عاش دون أن يؤذي أحداً .. وما زِلْتُ
أحتفظ بكيس النقود المذكور .. إنه كبيرٌ ومصنوعٌ من الحرير الأحمر.
- وهل ما يزال مسيو "موريل" على
قيْد الحياة؟ .. لا ريْب أنه الآن ثريٌ سعيد؟