الفصل السادس (3)
شهادة التاريخ
نلاحظ أن الحق - سبحانه وتعالى - عندما يذكر
في القرآن الكريم شيئاً عن حاكم "مصر" في عصر "موسى" عليه
السلام كان يسمّيه "فرعوْن" .. أي أن الذين حكموا "مصر" أطلق
عليهم القرآن اسم "الفراعنة" .. فيقول تعالى: "قَالَ يَا قَوْمِ
أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا
تُبْصِرُون" (الآية 51 من سورة "الزُخْرُف") .. وهذا يتّفق مع
التاريخ في أن الذين حكموا "مصر" في العصور القديمة هم الفراعنة .. إذن
حكام مصر القدامى فراعنة .. والقرآن سمّاهم "فراعنة".
فإذا أتيْنا إلى سورة "يوسف" - عليه
السلام - وجدنا أن الله - سبحانه وتعالى وهو يروي لنا في القرآن الكريم قصة "يوسف"
في "مصر" - لم يُلَقِّب حاكم مصر بـ"فرعوْن" .. بل لَقَّبَه بـ"الملك"
فقال تعالى: "وقالَ المَلِكُ ائْتوني بِهِ أَسْتَخْلِصُهُ لِنَفْسي"
(الآية 54 من سورة "يوسف") .. وقوْله تعالى: "وَقالَ المَلِكُ
إِنّي أَرَى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجاف" (من الآية 43
من سورة "يوسف") .. إذن فثابتٌ من القرآن الكريم أن "يوسُف"
عاش في "مِصر" وأنه خلال وجوده في "مـصـر" اختلف في القرآن
الكريم اسم حاكم "مصر" .. فلم يكن يُلَقَّبُ بـ"فرعوْن" .. بل لُقِّبَ باسم "الملك"
.. ويمضي الزمن ويُكتَشَف حجر "رشيد" ثم تُحَل رموز اللغة المصريّة
القديمة .. ويثبُت أن "يوسف" - عليه السلام - عاش في "مصر" في
الفترة التي احتلّها فيها الهكسوس .. وأن هؤلاء لم يكونوا من الفراعنة .. وأن
حـاكـمـهم كـان يُطلَق عليه اسم "الملك" .. ولم يكن يُطلَق عليه اسم "فرعون"
.. وأن المصريّين طردوا الهكسوس وعاد الفراعنة إلى الحُكـم مـرةً أخـرى.
مَن الذي أنبأ "مـحـمـداً" - عليه
الصلاة والسلام - بهذه الحقائق التاريخيّة التي لم يعرفها العالم إلّا في الفترة
الأخيرة بعد اكتشاف حجر "رشيد"؟! .. وكيف عَلِمَ أن "يوسُف"
كان في عهد الهكسوس .. وأن "موسى" كان في عهد الفراعنة.
وهكذا يأبي الحق - سـبـحـانه وتعالى - إلّا
أن يعطينا الدليل المادي والتاريخي على إعـجـاز هـذا القرآن .. وعلى أن الله يعلم
ما في الدنيا والآخـرة .. وأنه بكل شيءٍ عليم .. وحتى يُظهِر ذلك لعباده وبالدليل
المادي جاء بحقيقةٍ تاريخيّةٍ لم يكن يعلمها أحدٌ من البشر وقت نزول القرآن وذكرها
في كتابه العزيز .. حتى إذا تقدَّم الزمن وكشف الله لخلقه ما شاء من علمه ظهرت لهم
هذه الحقيقة لتكون عطاءً وإعجازاً جديداً للقرآن الكريم .. في الوقت الذي تظهر فيه
هذه الحقيقة وتخرج إلى علم البشر حتى تكون معجزةً من معجزات القرآن يُظهِرها الله
بعد نزول القرآن الكريم بقرون عديدة.
على أن الله - سبحانه تعالى - قد أعطى من
أسرار مُلْكه ما شاء لمَن يشاء وكشف عمّا شاء مِن علمه لمَن شاء .. ولكنه احتفظ
لنفسه بعلم بدء الحياة أو الخلق .. وبعوامل استمرار الحياة .. وبنهاية الحياة وهي
الموْت .. فمهما تقدَّم العِلم وازدهر .. وكشف الله من أسـرار كـوْنه .. فـإن الله
هو الذي يُحيي ويُميت ..
وسيظل يُحيي ويُميت إلى أن تأتي الآخرة ويتم الحساب .. وتُقبَض روح مَلَك الموِت
.. فلا يصبح هناك موْت ولكن خلود .. إمّا في الجنّة وإمّا في النار.
الحياة والمؤثر من الله
تأمّل قوْل الحق - سبحانه وتعالى: "الذي
خَلَقَني فَهُوَ يَهْدِين، والذي هُوَ يُطْعِمُني ويَسْقِين، وإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ
يَشْفين، والذي يُميتُني وَهُوَ يُحيين" (الآيات من 78 - 81 من سورة "الشعراء").
وإذا أردنا أن نتأمّل ما جاء في هذه الآيات ـ
ونستعرض الإعجاز فيها بإيجاز - نجد أن قضية الخلق محسومةٌ لله سبحانه وتعالى ..
فهو وحده الخالق .. والكل عاجز .. ولا أحد يستطيع أن يدّعي أنه يقدر على خَلْق شيء
.. ولكن قضية الموْت فيها جدل .. فإذا قرأت قوْله تعالى: "إِذْ قالَ إِبْراهيمُ
رَبّي الذي ٌيحْيي وَيُميت، قالَ أَنا أُحي وأُميت" (من الآية 258 من سورة "البقرة").
والآية تروي قصّة الحوار بين مِن آتاه الله
المُلْكَ و"إبراهيم" عليه السلام .. فلمّا قال له "إبراهيم": "ربّي
يُحيي ويُميت" .. أخذت مَن أتاه الله الُملك العِزة بالإثم فقال: "أنا أُحيى
وأُميت" .. وجاء برجلٍ من رعيّته فحكم عليه بالإعدام وقال: هو ميِّت .. ثم
عفا عنه وقال: أحييْته .. نقول: إن الناس لا تتنبّه للفرق بين القتل والموْت ..
فالقتل هو إفسادٌ لجسد الإنسان يجعل الجسد غير صالحٍ لبقاء الروح فيه فتغادره ..
ولكن الموْت هو إخراج الروح من الجسد دون هدمٍ أو إفسادٍ للجسد .. ولذلك فرّق الله
بين الاثنيْن في القرآن الكريم فقال: "وَما مُحَمَّدٌ إلّا رَسولٌ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُسُل، أفإيْنَ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُم"
(الآية 144 من سورة "آل عمران") .. وقال جل جلاله: "وَلَئِنْ مُتٌّمْ
أَوْ قُتِلْتُمْ لّإلى اللهِ تُحْشَرون" (الآية 158 من سورة "آل عمران").
إذن الموْت لله وحده، هو الذي يُميت، ولكن
القتل - وهو غير الموت - يمكن أن يتم على يد عباد الله.
ولأن الله هو الذي يُميت فلا أحد ينجو من
الموْت أبداً .. لأن أمر الله نافذٌ على كُل خلقه .. ولأن الإنسان يمكن أن يتم على
يده القتل فهناك مَن ينجو مِن القتل مرّةً ومرّات .. لأن أمر الإنسان غير نافذٍ في
الكوْن .. ثم تقول الآية الكريمة: "والذي هُوَ يُطْعِمُني ويَسْقين" ..
ويلاحظ في الآية الأولى أن الحق - سبحانه وتعالى - لم يستخدم أسلوب التأكيـد
فـقـال: "الذي خَلَقَني" .. ولم يقُل: "هو الذي خلقني" لأنه
لا أحـد ينازع الله في الخلق ولكن الطعام والشراب جعلهما الله أسباباً للإنسان
فجاء التأكيد هنا ليلفتنا إلى أن هذه الأسباب ليست هي الأصل .. وإنما كل شيءٍ من
الله .. فالحبّة في أي نباتٍ خلقها الله - سبحانه وتعالى - ووضع فيها خصائصها وخزَّن
فيها الغذاء الذي يلزمها حتى تستطيع جذورها أن تضرب في الأرض لتأخذ منها عناصر
الحياة .. وهو الذي أعطاها خصائصها .. وخلق لها الأرض التي تُزْرَع فيها .. وأنت تضع
الحبّة في الأرض فتظل تتغذّى على المخزون فيها من الغذاء الذي وُجِدَ فيها بقُدرة
الله .. ثم بعد ذلك تمتص من عناصر الأرض ما يلزمها فقط وتترك الباقي .. ثم تظل
تنمو وتنمو حتى تُثمِر بقُدرة الله وليس بجهد بشر .. فكأن الطعام كله من الله
سبحانه وتعالى.
والشراب أيضاً من الله
فإذا جئنا للشراب نجد أن كل ما يشربه الإنسان
هو من الله سبحانه وتعالى .. فالماء ينزل من السماء عذباً سائغاً بقُدرة الله ..
واللبن نأخذه من الحيوان وهو مخلوقٌ بقُدرة الله.
ولقـد حـاول العلم أن يصنع اللبن فجاء باللبن
الطبيعي وحلّله إلى عناصـره .. ثم جاء بهذه العناصر وخلطها مع بعضها البعض بنفس
النِسَب الموْجودة في اللبن الطبيعي .. ثم جاء بعشرين فأراً سقى عشرةً منها اللبن
الطبيعي .. والعشرة الباقية سقاها اللبن المصنوع من نفس عناصر اللبن الطبيعي ..
فنمت الفئران التي سُقيَت اللبن الطبيعي وماتت الفئران التي أُعطِيَت اللبن
الصناعي.
ومازال العلم حتى الآن عاجزاً عن أن يصنع
نقطة لبنٍ واحدة .. بل إن بعض دول العالم التي تعاني نقصاً شديداً في اللبن لا
تستطيع أن تحل الأزمة .. فتُحَرِّم اللبن على الكبار ليكون متوفّراً للأطفال ..
ومنها "روسيا" و"الصين" و"كوريا الشماليّة" وغيرها
من دول العالم .. ومن الإعجاز الإلهي أن هذا اللبن تعطيه لنا حيواناتٌ يجري في
عروقها الدم .. فلا يختلط اللبن والدم أبداً .. وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: "نُّسْقِيكُم
مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَائِغًا
لِّلشَّارِبِين" (الآية 66 من سورة "النحل").
على أن العلم البشري كله عاجزٌ حتى الآن عن
أن يسقي الناس الماء أو اللبن .. فالإنسان الذي وصل إلى القـمـر عـاجـزٌ عن أن
يصنع ترعةً صغيرة .. أو كوباً من اللبن .. أمّا باقي الإشياء الأخرى التي يشربها
الإنسان فهي ممّا أوْجدها فيها من ثمرٍ يضاف إليها الماء أو لا يضاف.
الشفاء والمرض بين القُدرة والطِب
فإذا جئنا إلى قوْله تعالى: "وإذا مَرِضْتُ
فَهُوَ يَشْفين" نجد أن هناك جدلاً كثيراً حوْل هذه الآية .. فالناس تقول إن
الطبيب هو الذي يشفي ولكن الحقيقة هي أن الشفاء بيد الله وحـده .. وأن الطبيب
يعالج فقط .. وقد يأتي على يده الشفاء وقد يُخطئ في العلاج فيكون على يده الموْت.
والله - سبحانه وتعالى - جعل لكل داءٍ أجلاً
في الشفاء .. ولذلك يحدث كثيراً أن طبيباً مبتدئاً يكتب الدواء الصحيح لمريضٍ عرض
نفسه على أكبر الأطباء فلم يعرفوا لدائه دواء .. وفي هذه الحالة قد يتعجّب الناس
ويقولون: إن هذا الطبيب حديث التخرّج أعلم من أساتذته .. نقول لهم: هذا تفسيرٌ
خاطئ .. فالأستاذ قطعاً أعلم من تلميذه وهو الذي علّمه .. ولكن قدر الله - سبحانه
وتعالى - بالشفاء جاء فكشف الله عن الداء لهذا الطبيب المبتدئ .. فكتب الدواء وتم
الشفاء.
وليس معنى أن الله هو الشافي ألّا نلتمس
الوسيلة للعلاج فنحن - في هذه الدنيا - أَمَرَنا الحق - سبحانه وتعالى - أن نأخذ
بالأسباب .. ثم بعد ذلك نتوكّل على الله في النتائج .. والآية الكريمة تقول بعد
ذلك: "والذي يُميتُني ثُمَّ يُحيين" .. ونلاحظ هنا أن الحق - سبحانه
وتعالى - لم يستخدم أسلوب التأكيد فيقول: "وهو الذي يميتني ثم يحيين" ..
لأنه لا أحد يستطيع أن ينازع الله في الموْت أو البعث .. فإذا جاء الموْت فلا أحد
يستطيع أن يتأبّى عليه أو يقول: لن أموت .. وإذا جاء البعث فالله وحده القادر على
بعث الموْتى وبذلك نكون قد أثبتنا بالدليل المادّي أن بداية الحياة واستمرار
الحياة ونهاية الحياة هي من قدرات الله - سبحانه وتعالى - وحده.
وإذا كنّا قد جئنا إلى نهاية هذا الكتاب
فنرجو من الله - سبحانه وتعالى - أن يكون قد هدانا إلى ما يُثَبِّت الإيمان في
القلوب .. وما يرد على أولئك الملحدين الذين يدّعون أنه لا توجد أدلةٌ ماديّةٌ في
الكوْن على وجود الله .. ونرجو من الحق - جل جلاله - أن يتقبّل مِنّا .. إنه هو
السميع العليم.