الفصل السادس (2)
لفظ الجلالة وإعجاز التحدي
وإذا كنا نريد أن نمضي في هذا الإعجاز
فـأمامنا مجالاتٌ كثيرة .. لفظ الجلالة .. كلمـة: "الله" سبحانه وتعالى
.. من أين جاءت؟ .. إن الثابت لُغويّاً أن المعنى لا بُد أن يوجد أوّلاً ثم يوجد
اللفظ أو الاسم .. فإذا لم يوجد المعنى لا يوجد اللفظ في اللغة .. وكل الاختراعات
الحديثة التي لم تكن البشريّة تعرف عنها شيئاً .. لم توجد لها أسماءٌ إلّا بعد أن
وُجِدَت وعرفناها .. والإنسان لا يستطيع أن يفهم الكلام إلّا إذا كان المعنى
موجوداً في عقله .. ولذلك فإن المجامع اللغويّة في العالم تضيف كل فترة ألفاظاً
لمعانٍ لم تكُن موجودةً ثم وُجِدَت .. فكان لابد أن توجد لها ألفاظاً تعبِّر عنها.
وعلى أية حال فإن العقل البشري يعجز عن فهم
أي لفظٍ إذا لم يوجد في عقولنا المعنى أوّلاً .. حتى أنك إذا حدّثت أي إنسانٍ بلفظٍ
لا يفهمه .. فلابد أن يعرف المعنى أوّلاً ثم بعد ذلك يفهم اللفظ .. ولكن الله - سبحانه
وتعالى - غيْبٌ عنّا .. لم يره أحد .. ومع ذلك فإن لفظ الجلالة موجودٌ في كل لغات
العالم .. والعقول كلها تفهمه .. فكيف يمكن أن يحدث هذا إلّا إذا كان في داخلنا
الإيمان الفِطري الذي يُعرِّفنا معنى لفظ الجلالة.
وهنا تأتي الآية الكريمة لتبيِّن لنا هذا
الإعجاز فـيـقـول الله سبحانه وتعالى: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي
آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَى ۛ شَهِدْنَا" (من الآية 172 من سورة "الأعراف")
.. إذن فلابد أن الله قـد أشـهـدنا على نفسه، وعندما ذكر لفظ الجلالة فهمناه ..
ولابد أنه - سبحانه وتعالى - أشهد البشريّة كلها لأنه لا توجد لغةٌ في العالم ليس
فيها لفظ الجلالة .. بل إن التحدي والإعجاز الإلهي يمضي أكثر من ذلك .. فيقول الله
- سبحانه وتعالى - في كتابه الكريم: "رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا"
(الآية 65 من سورة "مريم").
وهكذا أخبرنا الحق - سبحانه وتعالى - أن لفظ
الجلالة لن يُطلَق على أحدٍ غيْر ذاته الكريمة .. وهكذا تحدّى الله البشريّة كلها
في أمرٍ اختياري .. فالاسم هو شيءٌ من اختيار الإنسان .. ويوجد في هذا الكون
الكفـرة والملحدون وشياطين الإنس وغيرهم .. فهل سمعت عن واحدٍ سمّى نفسه "الله"؟
.. أو أسمى ابنه "الله"؟ .. لم يحدث ولن يحدث .. لأن الحق - سبحانه
وتعالى – اختص نفسه بهذا الاسم ذاته الكريمـة .. فلا يمكن لبشرٍ أن يتخطّى مراد
الله ليُطلِق لفظ الجلالة على نفسه أو أحد أولاده .. بل إن الذين ادعوا الألوهيّة
مثل فرعوْن وغيره ونصّبوا أنفسهم آلهةً يُعبَدون من دون الله لم يجرؤ واحدٌ منهم
ولم يخطر على باله أن يسمّي نفسه "الله".
وهكذا جاء التحدي للبشر جميعاً في أمرٍ
اختياري ليؤكِّد للدنيا كلها أن أحداً لا يستطيع أن يخالف مـراد الله في كـوْنه ..
ولو كانت هذه المخالفة في منطقة الاختيار للإنسان، ولو كانت هذه المخالفة من ملحدٍ
محاربٍ لدين الله يريد الإضلال في الأرض .. أيوجد دليلٌ ماديٌ أكبر من هذا؟
التعداد السكّاني دليلٌ مع القرآن
فإذا تركنا الأدلة اللُغويّة فإننا نجد هناك
دليلاً إحصائيّاً على وجود الحق سبحانه وتعالى .. فالله - سبحانه وتعالى - يقول: "يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير" (الآية 13 من سورة "الحجرات").
الحق - سبحانه وتعالى - يخبرنا أن الخلق بدأ
من ذكرٍ وأنثى وهما "آدم" و"حـوّاء" ثم جاء منهما كل هذا
الخلق الذي نراه .. الدليل الإيماني على ذلك أن الله هو الذي قال .. والدليل المادّي
على ذلك هو أن علم الإحصاء يقول ذلك .. فإذا تتبّعنا البشر في الكوْن نجد أن تعداد
الناس في العالم اليوْم يصل إلى كذا ألف مليون نسمة .. فإذا فرضنا مثلاً أن تعداد
سكان العالم اليوم خمسة آلاف مليون .. فكم كان عدد سكان العالم منذ قرنٍ مضى؟ ..
سنجد أن تعدادهم كان أقل .. مثلاً أربعة آلاف مليون .. ومنذ ثلاثة قرونٍ مثلاً كم
كان عدد سكان العالم؟ .. طبعاً كانوا أقل.
ومنذ عشرين قرناً من الزمان كم كان عدد سكان
العالم؟ .. نقول إنهم كانوا بضـعـة مـلايين .. ومنذ ثلاثين قرناً من الزمان كم كان
عدد سكان العالم؟ .. نقول كانوا مليونيْن أو ثلاثة .. إذن كلما عُدنا بالزمان إلى
الوراء نجد أن عدد البشريّة يتناقص .. وكلّما تقدّمنا بالزمن نجد أن عدد البشريّة
يتزايد .. أليست هذه حقيقةً إحصائيّة؟
أيستطيع أحدٌ من الماديّين أو غير المؤمنين
أن ينكر أنه كلّمـا عُـدنا بالزمن إلى الوراء فـإن عدد البـشـر يتناقص؟ .. وإذا
كانت هذه هي القاعدة المعترَف بها .. فمعنى ذلك أنه كلّما عُدنا إلى الماضي تناقص
عدد البشر .. ويظل عدد البشر يتناقص ويتناقص حتى نصل إلى نقطة البداية التي بدأت
عندها حياة البشر .. فتكون هذه النقطة من ذكرٍ وأنثي .. إذن التناقص في عدد البشريّة
الذي عرفناه وسجّلناه بالإحصاءات لابد أن ينتهي إلى البداية التي بدأ منهـا تكاثُر
هذا الخَلْق وهـمـا الذكر والأنثى .. وكلمـا مـر الزمن زادت أعداد البـشـر حـتى
وصلنا إلى تعداد العالم الآن.
فلو حدث العكس أي أن تعـداد البـشـر كـان
يتناقص مع الزمن .. أي أن الدنيـا بدأت بألف مليون إنسان وانتهت في عصرنا هذا
بمائة مليون .. لكان ذلك يؤكّد لنا أنه من المستحيل أن تكون البشريّة قد بدأت بذكرٍ
وأنثى .. لأن الدليل العلمي سيكون في هذه الحالة شاهداً على أن ذلك لا يمكن أن
يحدث.
ولكن كوْن البشر يتزايد عددهم مع مرور الزمن
ويتناقص عددهم كلما عُدنا إلى الوراء في الماضي .. حـتى أنه في العصور الأولى لم
تكن إلّا أجزاءً صغيرةً من الأرض يعيش فيها الناس والباقي لا يوجد فيه أحد فهذا
يعطينا الدليل على أن البداية كانت من ذكرٍ وأنثى.
معجزة جيش "أبرهة"
فإذا ذهبنا إلى التاريخ فنحن نجد فيه الدليل
المادّي على وجـود الله سبحانه وتعالى .. وعلى علمه وعلى معجزاته .. إقرا قوْله – تعالى
- في هذه السورة الكريمة: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ
الْفِيل، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيل، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً
أَبَابِيل، تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّنْ سِجِّيل، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ
مَّأْكُول" (سورة "الفيل") .. هذه معجزةٌ لم يأتِ بها رسول .. ولم
تنزل لتثبيت الإيمان على قوْم نبيٍ كان يدعو قوْمه للإيمان وهم لا يؤمنون ..
ولكنها حدثت لإثبات القدسيّة والحماية لبيت الله الحرام.
ولقد وُلِدَ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم
- في عام الفيل .. وكانت هذه المعجزة علامةً على أن دين الله الذي سينزل على هذا
الرسول - إذا تخلّى عنه البشر جميعاً – سيحميه ويحفظه الله جل جلاله.
والقِصّة معروفةٌ وبطلها ملك الحبشة في ذلك
الوقت "أبرهة" الذي بني بيتاً ليحج إليه الناس بدلاً من الكعبة .. وجاء
بعض الأعراب وألقوا فيه قاذورات فصمَّم "أبرهة" أن ينتقم بهدم الكعبة ..
وأخذ جيشاً ضخماً وعدداً كبيراً من الأفيال وذهب إلى "مكّة" .. فلمّا
رأى أهل "مكّة" هذا الجيش هربوا وفرّوا .. فجاء الطيْر وألقى عليهم
بحجارةٍ من جهنّم قضت على "أبرهة" وجيشه وأفياله في دقائق.
القصّة يرفض تصـديقـهـا العقل غير المؤمن ..
إذ كيف يمكن لطيـْرٍ صغيرٍ أن يقضي على جيْشٍ من الأفيال .. بينما لو وقفت مئاتٌ
من الطيْر على جسد فيلٍ واحدٍ لا يحس بها .. ولقد توقّف بعض العلماء عند هذه
السورة الكريمة فقالوا: إن الله أرسل جراثيم لتقضي على "أبرهة" وجيْشه
.. وكأنهم يريدون أن يسهِّلوا الأمر على الله، مع أن الله على كل شيءٍ قدير ..
نقول: لقد وُلِدَ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم" في عام الفيل وبُعِثَ في
الأربعين من عمره .. ونزلت هذه السورة في "مكّة" في بداية الدعوة
الإسلاميّة .. وكان الكُفّـار هـم القـوّة والعِزّة .. والمسلمون هـم القِلّة والضعف
.. وكان الكُفّار يبحثون عن أي شيءٍ للطعن في الدين الإسلامي .. وقد نزلت هذه
السورة في "مكّة" .. والرسول - صلّى الله عليه وسلّم" كلّفه الله
بالرسالة وعمره أربعون سنة .. أي أن هناك مِن أهل "مكّة" مَن كان يبلغ
الخامسة والخمسين والستين والخامسة والستين والسبعين وهم قد شهدوا هذه المعجزة،
ورأوها رؤية العيْن .. ولوْ أن الطيْر لم تأتِ وجيش "أبرهة" لم يتم
إفناؤه في لحظات لقـال هؤلاء الناس: إن هذا الكلام غير صحيح ولقد كنّا موْجودين في
"مكة" في هذا الوقت ولم نرَ طيْراً جاءت ولا جيْشاً أُفني .. ولطعنوا
بذلك في الإسلام وفي القرآن وفي أنه كلام الله ولكن كوْن الطيـْر جـاء وكوْن
المعجزة تمّت لم يجرؤ أحـدٌ من أعـداء الإسلام أن يطعن فيه.
وهكذا يعطينا الحق - سبحانه وتعالى - دليلاً
من التاريخ لمعجزةٍ مشهودةٍ حدثت .. ويعطينا معها الدليل على صِدق حدوثها .. فإذا
أضفنا إلى ذلك ما ذكرناه سابقاً عن قوْله تعالى: "ألم، غُلِبَتِ الرُّومُ،
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُون" لوجدنا دليلاً تاريخيّاً آخر .. ثم يأتي بعد
ذلك دليلٌ ثالثٌ يُضاف إلى هذه الأدلة التاريخيّة.