1984 (4)
كتب ونستون في مذكراته:
«كان ذلك منذ ثلاث سنوات مضت، وكان الوقت
مساء والظلام مخيماً، وفي شارع جانبي ضيق قرب إحدى محطات القطار الكبيرة. إلى جانب
باب عند حائط، تحت ضوء قنديل ينبعث منه نور ضئيل، كانت تقف امرأة ذات وجه صغيرعليه
طلاء كثيف من النوع الذي يروقني في بياضه الذي يشبه القناع وبشفتين حمراوين
لامعتين - نساء الحزب كنّ لا يطلين وجوههن أبدا - وكانت الشوارع آنذاك خاوية من
المارة ومن شاشات الرصد. مدت يدها وقالت: «دولارين ... »
توقف ونستون قليلاً، فقد صعُبَ عليه مواصلة
الكتابة. أطبق جفنيه وضغط عليهما بأصابعه محاولاً أن يمحو ذلك المنظر الذي ظل
مطبوعاً في مخيلته. وطغت عليه رغبة جامحة في أن يصيح بأعلى صوته متفوهاً بكلام
بذيء أو أن يضرب رأسه بالحائط، ويركل الطاولة ويلقي بالمحبرة خارج النافذة... أو
أن يأتي بأي عمل من شأنه أن يولّد عنفاً أو يُحدث ضوضاء او يسبب ألماً، عسى أن
يطمس ذلك تلك الذكرى التي كانت تؤلمه.
ثم أخذ يردد بينه وبين نفسه: «إن ألد أعدائك
هو جهازك العصبي. وما يعتمل في نفسك من توتر قد يورّطك في عمل لا تحمد عقباه».
تذكر رجلاً مر به في الشارع منذ أسابيع قليلة مضت. كان مظهره عادياً تماماً، عضو
في الحزب يبلغ من العمر ما بين الخامسة والثلاثين والأربعين، طويل القامة نحيفها
ولحمل حقيبة صغيرة. لم يكن يفصل بينهما سوى بضعة أمتار عندما رأى الجانب الأيسر لوجه
الرجل ينقبض في تشنج فجائي. وتكرر ذلك ثانية عندما مر كل منهما بالآخر. كانت تلك
الحركة عبارة عن رجفة أو ارتعاشة سريعة كطقة مصراع الكاميرا وكان من الواضح أن تلك
الحركة عادة عنده. ودار بخلده حينذاك أن ذلك الرجل المسكين قد انتهى أمره. فقد كان
المخيف قي الأمر أنه من الجائز جداً أن تكون تلك الحركة لا إرادية. أمّا الأشد
خطراً فهو أن يتكلم أثناء نومه، إذ لم تكن هنالك من وسيلة للاحتراس من ذلك على حد
علمه.
استجمع شجاعته ثم عاد إلى الكتابة:
«مضيت معها عبر البوابة ثم اجتزنا الساحة
الخلفية إلى مطبخ في قبو حيث كان هنالك سرير قرب الحائط وعلى الطاولة قنديل خفض
نوره إلى أدنى درجة وهي...»
وصر بأسنانه وودّ لو استطاع أن يبصق. وفي تلك
اللحظة ذاتها وفيما هو مع المرأة في المطبخ خطرت على باله زوجته كاترين. فقد كان
ونستون متزوجاً في وقت ما، ومن المحتمل أنه كان لا في يزال متزوجاً فعلى حدّ علمه
أن زوجته لم تكن قد ماتت بعد. وبدا أنه يستنشق ثانية الرائحة الساخنة المنبعثة من
المطبخ، وهي رائحة تختلط برائحة البق والملابس القذرة والعطر الرخيص الرديء الذي
مع ذلك، كان مغرياً لأنه ما من امرأة في الحزب تستعمل عطراً على الاطلاق، وحتى لم
يكن ممكناً تصور أنها تفعل ذلك، بل كان ذلك التصرف مقتصراً على عامة الشسب. وكانت
تلك الرائحة تستدعي في ذهنه رغبة ممارسة الجنس دون أن يدرك لذلك سبباً.
كانت مجامعته لتلك المرأة هي زلته الأولى منذ
سنتين أو يزيد. فبكل تأكيد كانت معاشرة المومسات أمراً محظوراً. ولكن ذلك كان من
بين المحظورات التي يمكنك أن تستجمع شجاعتك لمخالفتها من حين لأخر. لقد كانت مسألة
محفوفة بالأخطار لكنها ليست مسألة حياة أو موت. فإذا تم إلقاء القبض عليك مع
إحداهن قد يحكم عليك بقضاء خمس سنوات في معتقل الأشغال الشاقة، لا أكثر من ذلك، إن
لم يكن عليك جرم آخر. وليس ذلك بالأمر الصعب، شريطة ألا يتم القبض عليك متلبساً
بالجرم المشهود. وكانت الأحياء الفقيرة تغص بالنساء اللواتي كن على استعداد لأن
يبعن أنفسهن. فبعضهن يمكن شراؤه لقاء قنينة من الخمر الذي كان يُحظر شربه على عامة
الشعب. كان الحزب يميل لتشجيع الدعارة، ولكن بصورة غير معلنة، باعتبارها متنفساً
لغرائز لا يمكن كبتها كلية. فالدعارة في حد ذاتها لم تكن تهم الحزب كثيراً ما دامت
تتم مع نساء الطبقة المحتقرة والمسحوقة في الخفاء ومجردة من أي شعور حقيقي باللذة،
أما الجريمة التي لا تُغتفر فهي ممارستها بين أعضاء الحزب. وبالرغم من أن المتهمين
في حملات التطهير الكبرى كانوا يجبرون، دون استثناء، على الاعتراف بهذا الجرم، فقد
كان من الصعب تخيّل أن مثل هذا الأمر قد حدث فعلاً.
لم يكن هدف الحزب مجرد منع الرجال والنساء من
تكوين ولاءات فيما بينهم، قد يتعذر السيطرة عليها. لقد كان هدفه الحقيقي غير
المعلن هو تجريد العملية الجنسية من كل لذّة. إذ ليس الحب هو العدو بقدر ما هي
الشهوانية، سواء كانت في إطار الزواج أو خارجه. وكل الزيجات بين أعضاء الحزب كان
يجب، لكي تتم، أن تحصل على موافقة لجنة تشكلت خصيصاً لهذا الغرض. وبالرغم من أنه
لم يُنص صراحة على ذلك المبدأ أبداً، فإن الإذن بالزواج كان يُحجب دائماً إذا ما
أظهر الشخصان المعنيان أي ميول جنسية متبادلة فيما بينهما. فالغاية الوحيدة
المعترف بها للزواج هي إنجاب الأطفال لخدمة الحزب. وكان يُنظر إلى العملية الجنسية
على أنها عملية تافهة تدعو للاشمئزاز والتقزز، تمامًا كتعاطي حقنة شرجية. ولم يكن
يُعَبَّر عن ذلك بكلمات صريحة، وإنما بطريقة غير مباشرة حيث كان ذلك يُغرس في كل
عضو في الحزب منذ طفولته المبكرة. ولذلك أيضاً أُنشِئَت منظمات مثل رابطة الشباب
المناهض للغريرة الجنسية، التي كلنت تدعو للعزوبة الكاملة لكلا الجنسين. فكل
الأطفال يجب إنجابهم عبر التلقيح الصناعي (وتسمى هذه العملية في اللغة الجديدة
أرتسيم) على أن يعهد بهم بعد ذلك لمعاهد عامة.
كان ونستون يعي أن هذا لم يكن مقصودا بشكل
جدي وكلي ولكنه يتماشى مع أيديولوجية الحزب الذي كان يحاول وأد الغريزة الجنسية،
وإذا تعذر ذلك، فعلى الأقل تشويهها وتحقيرها. لم يكن ونستون يعلم لماذا كل ذلك،
لكن كان يبدو أن ذلك طبيعي. فبقدر تعلق أي أمر بالنساء، فإن جهود الحزب كانت تحقق
نجاحات كبيرة.
مرة ثانية لمعت في ذاكرته كاترين. لابد أنه
انقضت تسع أو عشر أو ربما إحدى عشرة سنة على انفصالهما، وعجب لنفسه كيف لا تخطر
على باله إلا نادراً. بل إنه ولأيام متصلة كان يستطيع نسيان كونه متزوجاً بها،
فالحزب لم يكن يسمح بالطلاق وإن كان بدلا من ذلك يشجع الانفصال في حال عدم
الإنجاب.
كانت كاترين فتاة طويلة القامة ناعمة الشعر
هيفاء القد رشيقة الحركة ذات وجه لا يتأثر بشيء وأنف معقوف، كان وجهها يوحي بالنبل
لأوّل وهلة، لكن إذا حدّقت فيه لا تجد شيئاً. بُعيد زواجه بها ومعرفتها عن قرب،
أدرك أن عقلها هو الأكثر بلادة وجهلاً وتفاهة إلى حد لم يعرف له مثيلاً. فلم يكن
في عقلها سوى الشعارات، ما من حماقة واحدة على الإطلاق ليست بقادرة على ابتلاعها
ما دام الحزب هو الذي يقدمها. «الكاسيت البشري» هكذا كان يلقبها بينه وبين نفسه.
ومع ذلك كان بمقدوره أن يتجشم العيش معها لولا علّة واحدة هي الجنس.
كان يخيل إليه أنها تفزع منه ويتيبس جسدها
كلما اقترب منها، فإذا احتضنها فكأنما يحتضن تمثالاً خشبياً شُدَّ بمفاصل. والغريب
أنه كان يشعر وهي تشدّه إليها أنها تدفعه بعيداً عنها في الوقت نفسه بكل قوتها،
وكانت صلابة عضلاتها تساعد على نقل ذلك الانطباع إليه. وأخيراً تستلقي مغمضة
العينين فلا تقاوم ولا تتجاوب بل تستسلم، وهو الأمر الذي كان قي أوله مربكاً له
بشدة ثم تحول بعد فترة إلى شيء فظيع. لو أنها فضلت العزوف عن الجنس، لكان ونستون
رضي بنصيبه وتحمّل العيش معها، لكن العجيب أن كاترين هي التي رفضت ذلك بنفسها
متعللة بالرغبة في إنجاب طفل إذا استطاعا لذلك سبيلا. ومن ثم استمرت العملية تتكرر
بانتظام مرة كل أسبوع كلما كان ذلك ممكناً، كما أنها اعتادت أن تذكره بها في
الصباح كشيء يتعين القيام به في المساء ولا يجوز نسيانه. وكانت تطلق على هذه
العملية اسمين: أولهما «صناعة طفل» والثاني «واجبنا تجاه الحزب». وإنه لحقّ أنها
استعملت هاتين العبارتين. وسرعان ما بات ينتابه شعور بالرعب الشديد كلما حان الوقت
المضروب لذلك. لكن من حسن الحظ لم تثمر علاقتهما طفلاً ولذا فقد كفّت عن المحاولة،
وسرعان ما انفصلا بعد ذلك.
تنهد ونستون، وتناول قلمه مرة أخرى وراح
يكتب:
«وألقت بنفسها على الفراش، وفي الحال، وبدون
أي نوع من المداعبات وبطريقة في منتهى اللامبالاة والخشونة رفعت تنورتها. وأنا..»
ووجد نفسه واقفاً هناك في ضوء المصباح الخافت
وقد امتلأت خياشيمه برائحة البق والعطر الرخيص وفي قلبه شعور بالانهزام والنفور،
ممزوجاً بالتفكير في جسد كاترين الأبيض الذي تجمد إلى الأبد تحت تأثير قوة الحزب
التخديرية. وتساءل لماذا يضطر إلى ذلك؟ لماذا لا تكون له امرأة تخصه، بدلاً من تلك
النزوات القذرة التي تنتابه على فترات متباعدة؟ لقد كان وجود علاقة حب حقيقية
أمراً لا يمكن الطموح إليه إذ كانت نساء الحزب كلهن متشابهات. كانت العفة متجذرة
فيهن تجذّر ولائهن للحزب. فبفضل إعدادهن الباكر وممارستهن للرياضة واستعمالهن
الماء البارد والتفاهات التي كانت تُحشى بها عقولهن في المدارس وفي رابطة الجواسيس
ورابطة الشباب، والمحاضرات والعروض والأناشيد والشعارات والموسيقى العسكرية، بفضل
كل ذلك كان يُنتَزَع منهن كل شعور طبيعي. كان عقله يخبره بأنه لا بد أن هناك
استثناءات لذلك، ولكن قلبه لم يصدقه، إذ كن جميعاً محصنات مثلما أرادهن الحزب.
وكانت غاية آماله أن يسقط حصن الفضيلة ولو لمرة واحدة في حياته. ولمّا كانت ممارسة
العملية الجنسية على طبيعتها تعتبر عصياناً، فإن مجرد الرغبة الجنسية تصبح جريمة
فكر. وحتى إذا أمكنه إيقاظ كاترين من سباتها العاطفي، لكان ذلك اعتبر إغواء لها
رغم أنها زوجته.
وإذا كان لا بدّ من كتابة القصة فقد أخذ
القلم وكتب:
«رفعت فتيلة القنديل لمزيد من النور. وعندما
وقعت عيناي عليها في الضوء...»
بسبب الظلام المخيّم بدا ضوء المصباح الزيتي
الضعيف كأنما ازداد توهجاً. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يرأها فيها بوضوح.
تقدم نحوها خطوة ثم توقف وقد تملكته رغبة فيها يشوبها الرعب. إذ كان يدرك تماماً
المجازفة التي أقدم عليها بمجيئه إلى هنا، فمن الجائز تماماً أن يقبض عليه أثناء
خروجه، وربما يكون رجال الدورية في انتظاره أمام الباب الآن. بل وربما هم بانتظاره
خارج الباب في هذه اللحظة للقبض عليه حتى لو غادر المكان دون أن يقربها.
لا بد من كتابة ما جرى، يجب الاعتراف به.
اكتشف على ضوء المصباح أن المرأة كانت عجوزاً التصقت بوجهها طبقة سميكة من طلاء
الزينة إلى حد بدا كأنه سينهار عند أول ملامسة كقناع كرتوني. كما كان الشيب قد خط
شعرها. وعندما فغرت فاها قليلاً لم يكشف إلا عن فراغ كفراغ الكهف يبعث على الخوف
إذ كانت بلا أسنان.
وأخذ يكتب بسرعة بخط غير منتظم:
«وعندما رأيتها في ضوء القنديل وجدتها
عجوزاً، لا يقل عمرها عن الخمسين، لكني مضيت قدماً وباشعرتها كالمعتاد.»
وضغط بأصابعه على جفنيه ثانية. لقد أتم كتابة
الحكاية أخيراً، ولكن دونما أن يشعر بأي فارق، فذلك العلاج يخلّصه من تلك الرغبة
الجامحة في الصياح بأعلى صوته مطلقاً أقذر الكلمات.
وكتب ونستون: «إن كان هنالك من أمل، فالأمل
يكمن في عامة الشعب».
لابد أن الأمل يكمن في عامة الشعب، فمن هذه
الكتلة البشرية التي لا يُلتفت إليها والمهمشة وتمثل 85 بالمائة من تعداد شعب
أوقيانيا، يمكن أن تنبعث القوة التي تدمر الحزب. لا يمكن إسقاط الحزب من داخله.
فأعداؤه، إن كان له أعداء أصلاً، لا يمكنهم أن يجمعوا صفوفهم أو حتى أن يتعارفوا.
وحتى إذا كانت أسطورة حركة «الأخوة» موجودة، وهو أمر جائز، فقد كان من غير المتصور
أن يتمكن أعضاؤها من التجمع بأعداد تزيد على الاثنين أو الثلاثة. وأمر الانتفاضة
يُعرَف من نظرة في العيون أو نبرة في الصوت أو في الغالب بكلمة يُهمس بها من وقت لآخر.
لذلك لو أمكن لعامة الشعب أن يدركوا مدى قوتهم لما كانت هنالك حاجة للتآمر، فكل ما
يحتاجه الأمر أن ينتفضوا مثلما ينتفض الحصان لإزاحة الذباب بعيداً عنه. ولو شاءوا
لمزّقوا وأحالوا الحزب هشيماً تذروه الرياح بين عشية وضحاها. ولا بد أن يخطر ذلك
لهم إن عاجلاً أو آجلاً؟ ومع ذلك... !
وتذكر كيف كان يسير ذات مرة في شارع مزدحم
عندما انبعث صياح مدوّ لمئات الأصوات (أصوات نساء) من شارع جانبي على مقربة منه.
لقد كانت صرخة غضب ويأس قوية وعميقة وعالية أخذت تدوي كأنها صدى أجراس تدق. وشعر
بقلبه يثب من الفرح. لقد حانت اللحظة! هكذا ظنّ. إنه الهيجان! لقد انفكت عامة
الشعب من عقالها أخيراً. وما إن وصل ذلك المكان حتى رأى حشداً من الغوغاء يبلغ
عدده حوالي المائتين أو الثلاثمائة امرأة وقد تجمهرن حول أكشاك سوق الشارع وبدت
وجوههن ملتاعة كوجوه ركاب سفينة تغرق. غير أنه في هذه اللحظة استحال ذلك القنوط
الجماعي إلى مشاجرات فردية نشبت بين المتجمهرات. واتضح أن أحد هذه الأكشاك كان
يبيع قدوراً من الصفيح ذات نوعية رديئة ورخيصة في حين كان من الصعب دائماً الحصول
على أوعية للطهي من أي نوع. إذ كان المخزون منها قد نفد على نحو مفاجى، فكانت بعض
النسوة يحاولن الابتعاد بما فزن به من أوعية ويتعرضن للضرب والدفع أثناء ذلك، فيما
راحت عشرات أخريات يصحن حول الكشك متهمات البائع بالتحيّز وبإخفاء الأوعية. ومن
جديد تعالت الصيحات حينما ظهرت امرأتان منتفختان، إحداهما منسدلة الشعر، تمسكان
بقدر واحدة وتتنازعان عليها وتحاول كل منهما تخليصه من يد الأخرى حتى انخلع مقبض
القدر. كان ونستون يراقب المنظر باشمئزاز. وتعجب للحظة من تلك القوة المرعبة التي
تبدت في تلك الصرخة التي انطلقت من بضع مئات من الحناجر! لماذا لا يصرخن مثل هذه
الصرخات من أجل شيء له قيمته؟
وهنا عاد إلى مذكراته ومضى يكتب:
"لن يثوروا حتى يعوا ولن يعوا إلا بعد
أن يثوروا.»
وغلب على ظنه أنه لا بد أن يكون ذلك مأخوذاً
عن أحد كتب النصوص التي وضعها الحزب. كان الحزب يزعم، بالطبع، أنه حرر العامة من
أغلال العبودية، فقبل الثورة كانوا يلاقون أبشع أنواع الاضطهاد على أيدي الرأسماليين،
كما يُضربون بالسياط ويتضورون جوعاً، وكانت النساء يُكرهن على العمل في مناجم
الفحم (والحقيقة أن النساء ما زلن يعملن في مناجم الفحم)، وكان الأطفال يباعون إلى
المصانع في سن السادسة. ولكن في الوقت نفسه ومما يتوافق مع ازدواجية التفكير، كان
الحزب في أدبياته يؤكد على أن عامة الشعب طبقة وضيعة بالفطرة وأنه يجب إبقاؤهم
مذعنين كالحيوانات. في الحقيقة كان ما يُعرف عن العامة قليل، ولم يكن ثمة ما يدعو
لمعرفة المزيد عنهم. فما داموا يعملون ويتكاثرون فتصرفاتهم الأخرى غير ذات أهمية،
ولذلك فقد ترك لهم الحبل على الغارب كقطيع من الأبقار تُرِكَ طليقاً على مراعي
الأرجنتين، يعيشون نمطاً من الحياة يتناسب مع طبائعهم. كانوا يولدون ويكبرون في
الأزقة الفقيرة ثم يذهبون إلى العمل في سن الثانية عشرة ويمرون مروراً عابراً في
مرحلة تمثل ذروة الجمال والرغبة الجنسية، وبعدئذ يتزوجون في العشرين ويبلغون أواسط
العمر في الثلاثين، ويموت معظمهم في الستين. كل ما يشغل بالهم العمل الجسدي الشاق
ورعاية الأطفال والعناية بالمنزل والمشاجرات التافهة مع الجيران، ومشاهدة الأفلام
ولعب الكرة واحتساء الجعة، وفوق كل ذلك كانت المقامرة تملأ أفق عقولهم. ومن ثم لم
تكن السيطرة عليهم أمراً عسيراً؛ إذ يكفي أن تندس ثلة قليلة من عملاء شرطة الفكر
بينهم، ينشرون الإشاعات المغرضة، حتى يتعرفوا على القلة منهم التي يُعتقد أنها
مكمن الخطر فيستأصلون شأفتهم. ولم تسجل أية محاولة لغرس أيديولوجية الحزب فيهم؛ إذ
لم يكن من المرغوب فيه أن يكون لدى عامة الشعب وعي سياسي قوي؛ فكل ما هو مطلوب
منهم وطنية بدائية يمكن اللجوء إليها حينما يستلزم الأمر، إقناعهم بقبول ساعات عمل
أطول أو حصص أقل من السلع التموينية. بل وحتى عندما كان ينتابهم شعور بالسخط، كلما
يحدث أحياناً، فإن سخطهم لم يكن ليفضي إلى شيء كونهم يعيشون بلا مبادئ عامة، ولذلك
كانوا يركزون غضبهم على تظلمات خاصة وقليلة الأهمية. فالأخطار الكبرى لا تسترعي
انتباههم، وليس لدى الغالبية العظمى منهم شاشات رصد في بيوتهم، بل وحتى الشرطة
المدنية كانت قليلاً ما تتدخل في شؤونهم. لقد كانت لندن تغص بالجرائم، فكان فيها
عالم كامل من اللصوص وقطاع الطرق ومحترفي الدعارة وتجار المخدرات والمحتالين من كل
صنف ولون، ولكن ليس لذلك أي اعتبار ما دام يجري بين عامة الشعب. وفي كافة المسائل
الأخلاقية كان يُسمَحُ لهم أن يتبعوا تقاليد أسلافهم الموروثة. ولم يكن التزمت
الحزبي فيما يخص الحياة الجنسية يفرض عليهم، والفحشاء كانت تمر دون عقاب والطلاق
كان مسموحاً به. ولذلك كان يسمح لهم بممارسة الشعائر الدينية وإذا ما أبدوا حاجة
أو رغبة في ذلك فهم ليسوا موضع شك. وفي ذلك كان شعار الحزب يقول: (عامة الشعب
والحيوانات أحرار).
انحنى ونستون وحك دواليه بحذر بعدما شعر
بأنها تؤلمه مرة ثانية. والشيء الذي كان يتردد في رأسه هو أنه من المستحيل معرفة
الصورة الحقيقية للحياة قبل الثورة. وأخرج من الدرج نسخة من نصوص التاريخ الخاص
بالأطفال والذي استعاره من مسز بارصون، وأخذ ينسخ قطعة منه إلى مذكراته:
«في الأيام الغابرة قبل الثورة المباركة، لم
تكن لندن جميلة كما نعرفها اليوم. لقد كانت مكاناً مظلماً قذراً بائساً لا يوجد
فيه المرء ما يسد رمقه، مئات بل ألوف من الفقراء يسيرون حفاة وبلا مأوى، وكان
الأطفال الذين في مثل أعماركم يُكرهون على العمل لاثنتي عشرة ساعة في اليوم لحساب
سادة قساة يجلدونهم بالسياط إذا أبطأوا في عملهم ولا يطعمونهم إلا فتات الخبز
والماء. ووسط ذلك الفقر المدقع، كانت هناك بضعة بيوت كبيرة ورائعة يسكنها رجال
أثرياء لدى كل منهم ثلاثون خادماً على الأقل يقومون على خدمتهم. وهؤلاء كانوا
يُسمون بالرأسماليين. وهم رجال سمان ذوو وجوه قبيحة كصورة أحدهم التي ترونها على
الصفحة المقابلة. وباستطاعتك عزيزي الطفل أن تراه وهو يرتدي معطفا طويلاً أسود
اللون وقبعة كريبة لامعة تشبه مدخنة الموقد وكانت تسمى «القبعة العالية». ذلك هو
الزي الرسمي للرأسماليين ولم يكن يُسمح لأحد سواهم بلبسه. وكان هؤلاء يملكون كل
شيء في العالم فيما كان الآخرون جميعاً عبيداً لهم. أجل كانوا يملكون الأراضي
والمنازل والمصانع والأموال. وإذا ما خرج أحد عن طاعتهم فقد كان بمقدورهم أن يلقوا
به في السجن أو يجردوه من وظيفته ليهلك جوعاً. وإذا ما رغب أي شخص عادي في التحدث
إلى رأسمالي كان عليه أن يجمع أطراف ثوبه ولنحني ولخلع قبعته ويخاطبه بكلمة
«سيدي». وكان رئيس كل هؤلاء الرأسماليين يسمى الملك، و....»
وكان ونستون يعرف بقية ما يحتويه ذلك الكتاب.
إذ فيه إشارة إلى الأساقفة في أرديتهم ذات الأكمام الواسعة، والقضاة في معاطفهم
الفاخرة، وآلات التعذيب باختلاف أنواعها ومآدب السادة رؤساء البلديات، وعادة تقبيل
أقدام البابا. وكان هنالك أيضاً ما يجب عدم ذكره في كتب الأطفال. إنه القانون الذي
كان يعطي الحق لكل رأسمالي أن ينام مع أية امرأة تعمل في أحد مصانعه.
كيف كان يمكنك أن تعرف مقدار ما في ذلك من
أكاذيب؟ فقد يكون الإنسان العادي حقاً أفضل حالاً الآن مما كان عليه قبل الثورة.
غير أن البرهان الوحيد على نقيض ذلك كان ذاك الاحتجاج الصامت الذي تشعر به في
قرارة نفسك، فضلاً عن الشعور الغريزي بأن الأوضاع التي تعيشها لا تطاق وبأنها لا
بد كانت في وقت سابق مغايرة لما هي عليه الآن. وفكّر أن ما يميز حقاً الحياة
العصرية لم يكن قسوتها أو انعدام الطمأنينة، وإنما هو العري والانحطاط
واللامبالاة.
ولو أمعنت النظر في ما حولك لتبين لك أن
الحياة لا تشبه في شيء تلك الأكاذيب المتدفقة من شاشات الرصد، ولا تلك المُثُل
التي كان الحزب يسعى إلى إرسائها. وكانت هذه المُثُل في معظمها، حتى لدى عضو
الحزب، غير مؤثّرة ولا سيأسية، يشهد على ذلك الانخراط في أعمال حقيرة والتزاحم
للحصول على موطئ قدم في قطار الأنفاق أو رتق جورب مهترئ أو تسوّل قطعة سكر أو
ادخار عقب سيجارة. أما المُثُل التي كان يروِّج لها في الحزب فقد كانت شيئاً ضخماً
مخيفاً وبراقاً، وتُشعرك بأنك وسط عالم من الفولاذ والقوة، والآلات الضخمة
والأسلحة المخيفة، وتوحي لك بأنك وسط أمة من المحاربين والمتعصبين الذين يمضون
قدماً كبنيان مرصوص ويفكرون تفكيراً واحداً متماثلاً ويهتفون بشعارات واحدة
ويعملون بلا كلل ويقاتلون وينتصرون ويعتدون، ويبلغ تعدادهم ثلاثمائة مليون من
الأنفس ذوي الوجوه المتماثلة. أما الحقيقة فهي في المدن القذرة الكئيبة والآيلة
للسقوط، يروح ويجيء فيها بشر جياعُ، يعانون من سوء التغذية، بأحذية بالية وثياب
مهلهلة، ويقطنون بيوتًا متداعية تعود للقرن التاسع عشر تفوح منها رائحة الملفوف
المسلوق ممزوجة بروائح قذرة.
كان يبدو له أن ما يراه هو صورة للندن،
المدينة الكبيرة المتداعية ذات المليون سلة نفايات، تختلط بصورة السيدة بارصون ذات
الوجه المغضن بالتجاعيد والشعر المنفوش وهي تحاول عبثاً فتح بالوعة مسدودة.
انحنى صاحبنا وحك كاحله مرة أخرى. ثم سار مع
أفكاره بين هذه الحياة البائسة وما يدعيه الحزب من أكاذيب. فليلاً نهاراً كانت
شاشات الرصد تصم أذنيك بالإحصائيات التي تبرهن على أن الشعب اليوم لديه طعام أكثر
وثياب أوفر وبيوت ووسائل راحة أفضل، وأنهم أصبحوا يعيشون أطول، ويعملون ساعات أقل،
وأنهم أكبر وأصح وأقوى وأسعد وأذكى وأكثر ثقافة من أولئك الذين كانوا على قيد
الحياة منذ خمسين سنة خلت. هذا ولم يكن من الممكن أبداً التدليل على صدق أو كذب
كلمة واحدة من ذلك. فمثلاً كان الحزب يزعم أن 45 في المائة بين البالغين من عامة
الشعب متعلمون أما قبل الثورة فقد كانت النسبة 15 في المائة فقط. ويزعم كذلك أن
نسبة وفيات الأطفال بلغت 160 بالألف فقط، في حين كانت قبل الثورة 300 بالألف. وعلى
هذا المنوال كانت الإحصاءات تجري شبيهة بمعادلة بسيطة مجهولة. فمن الجائز جداً أن
تكون كل كلمة في كتب التاريخ، بل حتى الأمور التي يعتبرها المرء مسلّمات، هي محض
خيال. وربما لم يكن هنالك أبدًا ذلك القانون الذي يبيح للرأسمالي مجامعة أي امرأة
تعمل في مصانعه، أو مخلوق مثل الرأسمالي أو قبعة مثل قبعته العالية.
كل شيء كان يلفّه الضباب، فالماضي امْحى من
الوجود وما تم محوه بات طي النسيان فصارت الكذبة حقيقة. مرة واحدة في حياته عثر
على دليل مادي لا يرقى إليه شك، على عملية تزييف وأمسك به بين أصابعه لثلاثين
ثانية فقط. لابد أن ذلك كان في عام 1973. وعلى أية حال كان ذلك في الفترة التي
انفصل فيها عن كاترين. ولكن التاريخ الحقيقي لتلك الحادثة كان أبكر بسبع أو ثماني
سنوات.
بدأت القصة فعلاً في منتصف الستينات إبان
موجات التطهير الكبرى التي جرى فيها تصفية الزعماء الأصليين للثورة دفعة واحدة
وإلى الأبد. وبحلول عام 1970 لم يكن قد تبقى منهم أحد، ما عدا الأخ الكبير. أما
الباقون فقد وُصموا بالخيانة واعتبروا مناوئين للثورة. وفرّ غولدشتاين إلى حيث لا
يعرف أحد، فيما توزع الآخرون. قلة منهم اختفت، وأغلبية تم إعدامها بعد محاكمات
علنية صورية اعترفوا خلالها بم نُسب إليهم من جرائم. وكان من ضمن من بقي على قيد
الحياة ثلاثة رجال هم جونز وآرونسون وراذرفورد. وكان هؤلاء الثلاثة قد ألقي القبض
عليهم عام 1965. وكما يحدث غالباً، فقد اختفوا لمدة سنة أو أكثر، لا يُعرف إن
كانوا أحياء أم أموات، بعدئذ وعلى نحو مفاجى جيء بهم ليجرِّموا أنفسهم بالطريقة
المعهودة، بحيث اعترفوا بالتجسس لصالح الأعداء (وفي ذلك الوقت كان العدو هو
أوراسيا أيضاً)، وباختلاس المال العام، وبقتل العديد من أعضاء الحزب الخلّص، كما
بتدبير الدسائس ضد زعامة الأخ الكبير للثورة، وذلك حتى قبل قيام الثورة، كذلك
اعترفوا بعمليات تخريبية أفضت إلى مقتل مئات الألوف من الناس. لكن وبعد اعترافهم
بهذه الجرائم صدر أمر بالعفو عنهم وأعيدوا إلى الحزب ومُنحوا مناصب بألقاب رنّانة
لكنها خاوية من الصلاحيات. وكتب ثلاثتهم مقالات مطولة وخسيسة يشرحون فيها الأسباب
التي دفعتهم للانشقاق عن الحزب سابقاً وقطعوا العهود على إصلاح أنفسهم.
وبعد فترة من إطلاق سراحهم رآهم ونستون
بالفعل في مقهى شجرة الكستناء. وهو يذكر ذلك الشعور بالافتتان الممزوج بالخوف الذي
انتابه وهو يراقبهم بطرف عينيه. كانوا يكبرونه سناً. بقايا من العالم القديم،
وتقريباً آخر قادة الحزب العظماء الباقين من الأيام المجيدة الأولى للحزب. كان عبق
النضال السري والحرب الأهلية ما زال عالقاً بهم على نحو خافت. انتابه شعور آنذاك،
رغم أن التواريخ والحقائق في ذلك الوقت كانت عرضة للعبث بها، بأنه سمع بأسمائهم
قبل سنوات من سماعه بالأخ الكبير. لكنهم الآن خارجون على القانون وأعداء ومنبوذون
ومحكوم عليهم بالزوال في غضون سنة أو سنتين. إذ لم يحدث أن سقط أحد في قبضة شرطة
الفكر ثم كتبت له النجاة في النهاية، لقد كانوا جثثاً في انتظار من يعيدها إلى
قبورها.
لم يكن من الحكمة أن يُرى أحد بجوار مثل
هؤلاء الناس، لذلك خلت أقرب الموائد إليهم من رواد المقهى. وكانوا يجلسون وقد خيم
عليهم السكون وأمامهم كؤوس الخمر المعطرة بالقرنفل التي يشتهر بها هذا المقهى. ومن
بين الثلاثة كان راذرفورد وحده هو الذي ترك أثراً خاصاً في ونستون. فهذا الرجل كان
رساماً كاريكاتورياً شهيراً في يوم من الأيام ألهبت رسومه الهزلية القاسية الرأي
العام الشعبي قبل وأثناء الثورة.
وحتى الآن، وعلى فترات متباعدة كانت صوره
الهزلية تظهر في جريدة التايمز، مجرد محاكاة لأسلوبه الأول ولكنها عديمة الروح ولا
تبعث على الإقناع. فهي دائماً بمثابة اجترار لموضوعات قديمة وُضعت في قوالب جديدة،
حيث يصور الأحياء الفقيرة والأطفال يتضورون جوعاً، وشجار الشوارع، والرأسماليين
ذوي القبعات العالية - حتى وهم في الشرفات كانوا يتعلقون بقبعاتهم الأنيقة - في
محاولة بائسة لا تنتهي للعودة إلى الماضي. كان راذرفورد رجلاً ضخم الجثة ذا غرّة
من شعر دهني رمادي، ووجه منتفخ مجعّد وشفتين سميكتين مكتنزتين. ويبدو أنه كان في
الماضي رجلاً قوياً جداً، أما الآن فجسده الكبير يترهل وتهدل في كل اتجاه. كان
يبدو أنه يتحطم كجبل يتداعى.
ولم يستطع ونستون أن يتذكر الآن كيف أتى إلى
المقهى في مثل هذا الوقت إذ كانت الساعة السادسة مساء، وكان المكان شبه خاوٍ وثمة
موسيقى خفيفة تنساب من شاشة الرصد بينما جلس الرجال الثلاثة في زاويتهم صامتين
وبلا حراك. ودون أن يطلبوا شيئاً من النادل، أحضر كؤوساً إضافية من الخمر، وعلى
المائدة المجاورة رقعة شطرنج صُفّت عليها القطع دون أن يبتدى أحد اللعب. وبعدئذ
وربما لنصف دقيقة من الزمن، طرأ تغير ما على الشاشة إذ تغير اللحن وتغيرت معه
الموسيقى. كان شيئاً يصعب وصفه. كانت النغمة الجديدة نغمة ناهقة متكسرة مزعجة،
نغمة أسماها ونستون في عقله «نغمة صفراء»، وبعد ذلك صدح صوت من الشاشة بما يلي:
تحت شجرة الكستناء الوارفة
بعتك وبعتني
وها هم يرقدون هناك ونحن نرقد هنا
تحت شجرة الكستناء الوارفة
لم يحرك الرجال الثلاثة ساكناً. ولكن عندما
تطلّع ونستون إلى وجه راذرفورد المحطم مرة ثانية رأى عينيه وقد اغرورقتا بالدموع.
ولاحظ وللمرة الأولى، وقد استولت عليه رعشة داخلية لم يعرف مبعثها، لاحظ أن كل من
آرونسون وراذرفورد كان أنفه مكسوراً.
وبعد ذلك بوقت قليل ألقي القبض على ثلاثتهم
من جديد، فقد ظهر أنهم كانوا قد انخرطوا في مؤامرات جديدة بعدما أطلق سراحهم،
واعترفوا أثناء محاكمتهم الثانية بجميع جرائمهم القديمة مرة أخرى إضافة إلى سلسلة
من الجرائم الجديدة، ثم أعدموا وجرى تسجيل ما أُنزل بهم من عقاب في تاريخيات الحزب
ليكونوا عبرة للأجيال القادمة. وبعد خمس سنوات من ذلك التاريخ أي في عام 1973، كان
ونستون يقلّب ملف مستندات، كان الأنبوب الهوائي قد قذف به إليه، فعثر على قصاصة
ورق كان من الواضح أنها انزلقت بين الأوراق الأخرى ثم نُسيت. وما إن دقق فيها حتى
أدرك أهميتها. إنها نصف صفحة قُطعت من جريدة (التايمز) الصادرة منذ عشر سنوات، نصف
الصحيفة الأعلى ولذلك تضمّن التاريخ، كما تضمّن صورة لمندوبي الحزب في فرع
نيويورك. وكان يتوسط هذه المجموعة بشكل بارز هؤلاء الثلاثة. ولم يكن أحد ليخطئهم،
فأسماؤهم كانت تظهر أسفل الصورة.
المهم في الموضوع هو اعترافهم أثناء محاكمتهم
الأولى والثانية بأنهم كانوا في ذلك التاريخ، تاريخ الجريدة، في أوراسيا. وأنهم
طاروا من مطار سرّي في كندا إلى موعد ضُرب لهم في مكان ما من سيبيريا، وهناك
التقوا أعضاء من القيادة العامة لأوراسيا، وأفضوا إليهم بأسرار عسكرية هامة، وكان
هذا التاريخ قد علق في ذاكرة ونستون لأنه كان يصادف عيد منتصف الصيف ولا بد أن
القصة كلها مسجلة في أماكن أخرى لا حصر لها أيضاً. وخلص ونستون من ذلك إلى نتيجة
وحيدة مفادها أن الاعترافات كانت كاذبة وملفّقة.
ومن الطبيعي أن ذلك لم يكن يُعَدّ في حد ذاته
اكتشافاً. فحتى في ذلك الوقت، لم يكن ونستون يتخيل أن الناس الذين تطالهم حملات
التطهير قد ارتكبوا فعلاً ما يُتهمون به من جرائم. ولكنه كان دليلاً مادياً، إنه
قطعة من الماضي الذي تم محوه، مثل عظام الحفريات، تظهر في طبقة غير طبقتها فتقوض
نظرية جيولوجية. إنه دليلٌ كان يكفي لإحالة الحزب إلى هشيم تذروه الرياح فيما لو
تم عرضه أمام العالم وكشف مغزاه.
استمر ونستون في عمله عندما رأى الصورة وأدرك
ما تعنيه، ثم غطاها بورقة أخرى. ولحسن الحظ كان اتجاه الصورة بعكس شاشة الرصد
حينما بسطها أمامه.
تناول ونستون دفتر الكتابة ووضعه على ركبتيه
ودفع بالكرسي إلى الوراء حتى يصبح بعيداً قدر المستطاع عن شاشة الرصد. لم يكن من
الصعب أن تجعل وجهك خالياً من أي تعبير، بل وحتى أنفاسك يمكن حبسها ببعض الجهد.
لكن لم يكن بامكانك التحكم في ضربات قلبك التي كانت شاشة الرصد شديدة الحساسية
إزائها وقادرة على التقاطها. انقضت عشر دقائق كان يتمنى انقضاءها، يعذبه خلالها
شعور بالخوف من أن ينكشف سره بفعل حادثة ما كنفخة هواء تهبّ على مقعده مثلاً.
بعدئذ ودون أن يكشفها ثانية قذف بها إلى مقبرة الذاكرة مع أوراق أخرى لا لزوم لها.
في خلال دقيقة ستصبح رماداً.
كان ذلك منذ عشرة أعوام أو أحد عشر عاماً
خلت، ولو أن ذلك حدث اليوم لكان من المحتمل أن يحتفط بتلك الصورة. والعجيب أن مجرد
إمساكه بها بين أصابعه أثار فيه إحساساً مغايراً لما كان عليه من قبل، رغم أن
الصورة نفسها، وكذلك الحادثة التي سجلتها، كانت مجرد ذكرى. وتساءل: «ترى هل أصبحت
عندي قبضة الحزب على الماضي أقل قوة بسبب دليل تافه لم يعد له وجود وكان قائماً في
الماضي؟»
لكن في هذه الأيام وعلى افتراض أن الصورة
بُعثت من رمادها بطريقة ما، فإنها لا يمكن أن يعتد بها كدليل. ففي زمن اكتشافه
لهذا الدليل، لم تكن أوقيانيا قد دخلت بعد في حرب مع أوراسيا. ولا بد أن الرجال
الثلاثة قد أفشوا أسرار بلادهم لعملاء شرقاسيا. وبعد ذلك الوقت ظهرت اتهامات أخرى
لم يكن يستطيع تذكر عددها، كما أنه من المحتمل جداً أن الاعترافات قد أعيد تنقيحها
مرات ومرات إلى أن أصبحت الحقائق والتواريخ الأصلية بلا معنى على الإطلاق. فالماضي
لم يكن قد تغير فحسب، بل كان في تغيُّر دائم. وأشد ما كان يربض على صدره مثل
الكابوس أنه لم يفهم أبداً لماذا يمارسون علينا الخداع والدجل. فالفوائد المباشرة
لتزييف الماضي واضحة لكن الغاية البعيدة من ورائها كانت غامضة. فأخذ قلمه ثانية
وكتب:
«إنني أفهم (كيف)، لكن لا أدرك (لماذا)؟»
ثم تساءل، كما تساءل مراراً وتكراراً من قبل،
عما إذا كان هو نفسه مصاباً بمسّ من الجنون. فالجنون ربما هو، بكل بساطة، أن تخالف
الآخرين. ففي زمن من الأزمان كان من الجنون أن تعتقد أن الأرض تدور حول الشمس، أما
اليوم فالجنون هو أن تعتقد أن الماضي غير قابل للتبديل. ولعل ونستون هو الوحيد في
تمسكه بهذا الاعتقاد، وإذا كان وحيداً في ذلك فهذا يعني أنه مجنون. بيد أن فكرة
الجنون لم تكن تقلقه كثيراً، بل ما كان يُرعبه هو احتمال أن يكون على خطأ.
التقط كتاب التاريخ الخاص بالأطفال ثم تطلّع
إلى صورة الأخ الكبير التي تغطي الغلاف حيث العينان المغناطيسيتان تحدقان فيه،
وكأنما كانت هنالك قوة هائلة تجثم عليك. شيء يخترق الجمجمة ويدخل إلى دماغك فيزعزع
معتقداتك ويحملك على أن تنكر على حواسك ما تشعر به. فمن الممكن في نهاية المطاف أن
يعلن الحزب أن اثنين واثنين يساويان خمسة وعليك أن تصدق ذلك. وعاجلاً أم آجلاً
سيحصل ذلك. إن منطقه يتطلب مثل هذا. ففي الحزب لم تلن فلسفتهم تنكر صلاحية التجربة
فحسب وإنما كانت تنكر أيضاً، بكياسة، وجود الحقيقة الظاهرة.
كذلك كانوا يعتبرون ضلال الضالين هو عين
العقل. والمرعب في ذلك ليس احتمال قتلك بجريرة التفكير بطريقة مغايرة، بل احتمال
أن يكونوا على صواب. إذ كيف يمكنك بعدها أن تعرف ان اثنين واثنين يساولان أربعة؟
أو أن قوة الجاذبية موجودة؟ أو أن الماضي لا يمكن تغييره؟ فإذا كان كل من الماضي والعالم
الخارجي لا يوجدان إلا في أذهاننا، وإذا كانت أذهاننا نفسها يمكن التحكم فيها -
فماذا تكون نتيجة ذلك؟
لكن لا! فكّر ونستون، وكأن شجاعته اشتدت
وقويت فجأة من تلقاء نفسها. وقد خطر أوبراين على بال ونستون، دونما داع. كان يعرف،
بيقين أقوى مما سبق، أن أوبراين في صفه. فقد كان يكتب مذكراته من أجله وإليه، كانت
أشبه برسالة لامتناهية لن يقرأها احد، لكنها موجهة إلى شخص بعينه، وهذا ما يعطيها
قيمتها.
لقد كان الحزب يوصي بأن ترفض تصديق ما تراه
عيناك وما تسمعه أذناك. كان هذا هو توجيهه النهائي والأكثر أهمية. وغاص قلبه بين
ضلوعه وهو يفكر في القوة الهائلة الموجَّهة ضده، وفي السهولة التي يستطيع بها أي
مفكر من مفكري الحزب أن يكتشف بها أمره في نقاش أو مناظرة تعتمد على الدهاء، لن
يكون قادراً على فهمها أو حتى الرد عليها. ومع ذلك فقد كان متيقناً أنه على صواب
وهم على ضلال، وأن عليه الدفاع عن البسيط والواضح والحقيقي. فالبديهيات الواضحة
عليك أن تتمسك بها! إن العالم المادي موجود، وله قوانين لا تتغيّر، فالحجارة صلبة
والماء سائل والأشياء التي لا ترتكز على شيء تهوي نحو الأرض. وتحت تأثير شعوره
بأنه يتحدث إلى أوبراين وبأنه كان يرسي مسلّمة هامة كتب ونستون:
الحرية هي حرية القول إن اثنين واثنين
يساويان أربعة، فاذا سُّلم بذلك سار كل شيء آخر في مساره السليم.