"أرواح بلا قبور" | أمواتٌ للبيْع (2)
وبعد أن تناول
"السيّد" طعامه على عجل حضر مساعده "جبر" ليبلغه أن قبر مسجد
"العمري" قد أصبح جاهزاً لدفن آخر المتوفّين اليوم والذي حضر موكب
جنازته على باب القرافة في طريقه لإتمام مراسم الدفن ؛ فأمره "السيّد"
بأن يأخذ صناديق الثلّاجات الخاصّة بالأعضاء وشنطة العُدّة ويضعها في عربة نقل
الموْتى التي يملكها وينقل بها الجثث حيث يشاء.
وبعد أن انتهى
"السيّد" من آخر عمليّة دفن هذا اليوْم وأغلق على المتوفّى فتحة القبر
بثلاث صخورٍ متوازية المستطيلات ثمّ انهال عليْها بالرمال ورشّها بالماء ثمّ دكّها
دكّاً فسوّاها وسط نحيب الحاضرين ودعائهم للميّت بالثبات وقت السؤال ؛ انفرد
"السيّد" بأقارب المتوفّى وعزّاهم في مصابهم الأليم وأخذ يتجادل معهم في
تكاليف الدفن حتّى استطاع أن يتقاضى منهم ثمانِ مائة جنيه فوق الألف أخرج منهم
مائيْن "لجبر" وثلاثمائة أخرى لباقي المساعدين وأوْدع الباقي خزينة
جيْبه الممتليء، وحانت وقتها صلاة المغرب فذهب للجامِع وأدّى الفرض والنافلة ودعا
وابتهل في حركاتٍ آليّةٍ لا تخلو من نفاق، ثمّ اصطحب "جبر" للمقهى وطفقا
يشربان الشاي ويدخّنان النرجيلة في سكون حتّى وجبت صلاة العشاء فأدّياها في
الجامِع أيْضاً وانتظرا قليلاً حتّى تهدأ الأمور ويتفرّق الناس بعيداً عن المقابر
ليستطيعا ممارسة عملهما الإضافي بعيداً عن أعين المتطفّلين.
وقاد
"السيّد" عربته حيث القبريْن اللذيْن حدّدهما لنبشهما واستخراج ما بهما
من جثّتيْن حديثتيْن ثمّ وضع الجثّتيْن ومعه "جبر" داخل السيّارة وأسرع
في الذهاب "لمدينة نصر" حيث قام بتسليمهما سرّاً للدكتور
"جمال" المدرّس بكليّة الطب في فيللّته الفاخرة وتسلّم ثمنهما : عشرين
ألف جنيه بعد أن أفهم الدكتور أنّه يكرمه في السعر حبّاً فيه وفي طلب العلم وبعد
أن نفح "جبر" ألفاً منها غادر الفيللا وآب للمقابر مرةً أخرى قبيْل
منتصف الليْل حين لفّ السكون ظلام المقابر في غلالةٍ من رهبةٍ وغموض، وكان
"السيّد" قد انتقى ثلاثة قبور ممكن الاستفادة من جثامين سكّانها :
الأوّل والثاني لسيّدتيْن عجوزيْن قد تكونا قد دُفِنتا وهما ترتديان بعضاً من
الحلي الذهبيّة والثالث لذاك الشاب، أمّا باقي القبور الثمانية فقد باع منها
جثّتيْن وبقيت القبور الثلاثة الأخرى غير ذات قيمة لإن متوفّيها من الرجال
المسنّين، وجلس "السيّد" يدخّن سيجارةً حتّى انتهى "جبر" من
فتح القبر الأوّل فنزل فيه "السيّد" ومعه كشّافاً منيراً وحقيبة العُدّة
في حين بقي "جبر" واقفاً فوْق رأس القبر متنبّهاً ومراقباً لما حوْله
حتّى يستطيع تحذير رئيسه إذا ما اقترب منهما أحد، وكشف "السيّد" الكفن
وظلّ يفتّش في جثمان السيّدة فلم يجد بها أي حلي ثمينة، وتكرّرت نفس الطريقة في
القبر الثاني ولكنّ "السيّد" استطاع العثور على دُبلة زواجٍ ذهبيّة في
إصبعها البنصر الأيمن وخاتمٍ ذهبى صغير في أصبعها الخنصر المجاور فحاول أن
يسلِتهما ويخلعهما من صابعيْها إلّا أنّه فشل فأخرج ساطوراً من حقيبة العُدّة وهوى
به على هذيْن الإصبعين فقطعهما وأخذ الدُبلة والخاتم كما اقتلع ضرساً ذهبيّاً من
فم المتوفّاة بواسطة الكمّاشة، أمّا في القبر الثالث فقد كانت جثّة الشاب غنيمةً
قيّمة "للسيّد" إذ استطاع أن يحصل منها على كرتيْ العيْن اللتيْن تصلحان
أن تؤخذ منهما القرنيّة وذلك بعد أن اقتلعهما بواسطة المشرط ووضعهما بكيسيْن في
إحدى صناديق الثلّاجات وسط مكعّبات الثلج، كذلك حصل على الكليتيْن بعد أن قلب
الجثّة على وجهها وأعمل الأزميل والشاكوش ومقص الصاج بحرص ليفصل عظام الضلوع
والفقرات عن كل كليّة ليستأصلها من منبعها ثمّ وضع كل واحدةٍ بكيسٍ منفصل وصندوق
ثلّاجةٍ واحد ليحفظهما عسى أن يصلحا لعمليّة الزرع، أمّا الكبد فلم يستطِع الحصول
عليّه نظراً لتهتّكه الشديد جرّاء الحادِث الذي وقع للشاب، واكتفى
"السيّد" بهذه الأعضاء فأعاد لف الكفن حول الجثمان وصعد على سطح الأرض
وانتظر حتّى أغلق "جبر" القبر كما كان ومنحه خمسمائة جنيه وأكّد عليْه
بالحضور في الغد وهو يعلم أنّه - "جبر" - لن يظهر قبل أن ينفق هذه
الأموال الكثيرة التي اكتسبها اليوْم، وانصرف "السيّد" لمنزله فوجد في
انتظاره مفاجأةً كبيرة ؛ فقد كسر ابنه الوحيد "حمزة" صندوق الأريكة وسرق
ما به من مال عندما علم أن أباه لا يعتزم إعطاءه النقود التي طلبها لشراء الدرّاجة
الناريّة التي يريدها، وقالت أمّه "للسيّد" وسط دموعها وعبراتها التي
سكبتها حزناً على ولدها أنّه رحل بلا رجعة وأخذت تلطم على خديْها وتنهال بيديْها
على رأسها في حين صُدِم "السيّد" صدمةً هائلة فقد ضاع ولده وماله في
لحظةٍ خاطفة فلم يحتمل ما حدث فـخـرّ مشلولاً من فوْره.