أمثال صعيدية عبقرية مهجورة | خلاصة الحكمة والخبرة

"أرواح بلا قبور" | بئر الجحيم (3)

 

 

وعاش العشيقان الخاطئان معاً في هذه الدار النائية بعد أن أفهما الجيران بأنّهما زوْجان من "القاهرة" وأنّهما عادا إلى أحضان بلد الزوْج الأصليّة، ومضت بهما الحياة هادئةً في البداية ولكن سرعان ما نغّصت حياتهما ظواهر غريبة غير طبيعيّة أفقدتهما أعصابهما وحوّلت حياتهما إلى رعبٍ وجحيم :

# كان العشيقان يتحاشيان التواجد بالفناء الخلفي ويتجنّبان المرور من أمام البئر التي شهدت جريمتهما كي لا يتذكّراها وكي يتفاديا الرعب الذي يصيبهما كلّما اقتربا من هناك فقد كانا يسمعان ليْلاً صوْت طرقاتٍ وخبطاتٍ عالية على الصاج المحيط بالبئر وصوتٍ كصوْت الزوْج المقتول وهو يصرخ ويصيح طلباً لمَن ينجده وكأنّه ما زال على قيْد الحياة ؛ بل كانا يسمعان أحياناً صوت حشرجته كما سمعاه عندما كان يلفظ أنفاسه الأخيرة وكأنّه يحتضر من جديد، والغريب أنّ أحد أقارب "حسّان" كان يزورهما ذات مساء ولكنه لم يسمع تلك الأصوات بالمرّة حتّى عندما طلبا منه أن يقترب من البئر ويصغي السمع ؛ فأيقنا أنّهما فقط من يسمع هذه الأصوات المخيفة.

# كانا يسمعان دبيب قدميْن أو صوْت شخشخة القش المتخزّن فوْق سقف الدار دون وجود أحدٍ هناك ؛ بل حدث عدّة مرّاتٍ أن نشبت النيران بهذا القش من غير سببٍ واضح ثمّ تخمد وحدها بعد فترةٍ وجيزة من غير سببٍ واضحٍ أيْضاً.

# كانا يشاهدان خيالاً أو شبحاً أسود يظهر أحياناً وهو يجري يميناً ويساراً بالفناء الخلفي للدار وكأنّه جثّة الزوْج المحروقة تحاول الهرب.

# كان التلفاز أو المذياع ينفتحان فجأةً في أي وقت عند آية سورة "البقرة" التي تقول : " ولَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، ثم ينغلقان فجأة من تلقاء نفسيْهما.

# كان التيّار الكهربائي ينقطع كثيراً في دارهما دون أن ينقطع في باقي دور القرية، وعندما كان أحدهما يشعل مصباح الكيروسين (لمبة الجاز) كان ضوْؤه يخبو وحده شيْئاً فشيْئاً حتّى ينطفئ تماماً وعندما كان يحاول أحدهما الاقتراب من المصباح ليزيد نوره كان يلمح أنّ ما بداخل المصباح ليس لهباً عادياً بل عيناً تشع ضوءاً خافتاً وتنزف دماً حتّى تغمض جفنيْها فينطفئ الضوْء.

# عندما كانت الزوْجة الخائنة تغسل الملابس المتّسخة تفاجأ أحياناً بأن الماء في وعاء الغسيل قد أصبح لوْنه أحمر قاني كالدم فتظنّ أنّ قطعة ملابسٍ حمراء قد أُزيلت عنها صبغتها فاختلطت الصبغة الحمراء بالماء وعندما كانت تستخرج الغسيل من تحت هذه المياه الحمراء كانت تجد أنّ الملابس الخاصّة بعشيقها قد اختفت وتحوّلت بغتةً إلى ملابسٍ خاصّة بالزوْج القتيل.

# حدث ذات مرّة أثناء طهيها لطعام الغداء أن كانت الزوْجة تفتح القِدر وهو على النار لتتذوّق حساء الدجاجة التي تسلقها وبعد أن ارتشفت القليل منه بالمغرفة وجدت طعمه كالدم الذفر وبعد أن وضعت المزيد من الحبّهان والمستكة والملح على الحساء وعادت لتقلّبه فإذا بالدجاجة قد تبخّرت وحلّ محلّها رأس الزوْج المحروق غاطسةً تحت الحساء، فارتعبت الزوْجة وأطاحت بالقدر الساخن من فوْق الموْقد فأُصيبت بحروقٍ شديدة بعد أن انسكب الحساء فوقها ووقعت عليْها الدجاجة التي رجعت مرّةً أخرى كهيْئة باقي الدجاج.

# عندما كانت الزوْجة الخائنة تقبّل عشيقها كانت تفتح عيْنيْها فتجد ملامح العشيق تنقلب إلى ملامح الزوج القتيل فتدفعه بعيداً عنها وينتابها صراخٌ وعويل لفتراتٍ طويلة حتّى قرّرت الابتعاد تماماً عن أيّة لحظاتٍ حميمة مع العشيق ممّا ساهم في فتور الحياة بيْنهما وجمود علاقتهما الآثمة.

وظلّت العيشة على هذا المنوال : رعبٌ وفزعٌ وخوْف حتّى جافاهما النوْم والرقاد ولازمهما السهر والسهاد فأدمنا تجرّع الحبوب المهدِّئة والمنوِّمة ليستطيعا السيْطرة على أعصابهما الثائرة ونفسيّتهما المريضة وينتشلا روحهما المعنويّة التي أصبحت في الحضيض ؛ وزاد شجارهما وخلافهما خاصةً بعد أن رفض العشيق طلب عشيقته بالرحيل عن هذه الدار المشؤومة بسبب ضيق ذات يده ورغبته في عدم كشف جريمتهما التي سترتها نفس الدار.

وذات ليْلة لم تستطع "صفيّة" أن تنام بعد أن تراءى لها شبح الزوْج جليّاً كالعادة وأخذ يلومها على فعلتها رغم حبّه لها ويهدّدها بالقصاص والانتقام ففقدت أعصابها وقرّرت التخلّص من هذا العذاب فقامت من فوْرها وهي منقادة تحت تأثير قوّةٍ مجهولة وأحضرت حبلاً أوثقت به عشيقها وهو غارق في نوْمه على فراشهما من أثر المنوِّم الذي ابتلعه ثم أحضرت الكيروسين وأغدقت في إراقته على نفسها وفراشها وعشيقها الذي لم يكد يتململ ويشعر بما يحدث حتّى أشعلت "صفيّة" عود ثقاب وألقته على نفسها بعد أن رقدت بجوار "حسّان" فأمسكت بهما النار كلّياً، وفي الوقت القصير الذي كان "حسّان" يصرخ فيه دون أن يستطيع الفرار من الفراش المتّقد لهيباً كانت "صفيّة" جامدةً في مكانها بجواره وقد تسمّرت عيْناها محملقةً في السقف وهي ترى شبح زوْجها المحروق وكأنّه يصبّ عليْهما المزيد من الكيروسين والمزيد من لعناته، وكانت آخر جملةٍ تسمعها من الشبح قبل أن تموت هى : "ولكم في القصاص حياة......".            

(تمّت)