الجريمة (3)
ومضى إلى سبيله تاركاً إيّاي في حيرة، فتّشتُ
بعيْنيَّ عن المرأة ولكنّهـا كـانـت قـد ذابت في الزحام، ورجح لديَّ أنني أواجـه
تدبيـراً محكماً لا صُدْفةً عمياء، وأن عليَّ أن أضاعف من الحذر، وتفرّغت لعملي
كسوّاق تاكسي أيّاماً متتابعة، وكَلّفْتُ خاطبةً أن تبحث لي عن عـروسٍ مناسـبـة،
ثم تسلّلتُ ذات ليلة، عند منتصف الليل، إلى الحانة الموجودة عند مـشـارف السـوق،
وجـدتُـهـا مكتظةً بالشاربين، تضج بالنِكات والأغاني، حارّةً بالأنفاس والدخان والهـواء
الفـاسـد، شربتُ قليلاً ولكنّي تظاهرتُ بالنشوة والمرح، وأرهفتُ حواسي لتصيُّد الفَلَتات
والشوارد، وكالعادة تَطَعُّم (تَصَيُّد)كل حديث ، كل مزاح ، بحديث الجريمة، قلتُ
لنفسي متعجّباً:
-
كأنّهم جميعاً
مجرمون أو ضحايا أو الاثنان معاً.
وسمعتُ ضِمن الأحاديث حواراً ذا دلالةٍ فيما
أعتقد، قال الرجل محتجّاً:
-
نحن ضعفاء.
فأجابه آخر بحدّة:
-
بل جبناء.
-
ماذا تفعل إذا اعترض
سبيلك سياجٌ من النيران؟
-
أرمى بنفسي فيها.
-
ارم بنفسك وأرِنا
شجاعتك.
وعربدوا ضاحكين، وانثال (انهال) عليَّ نثارٌ (بقايا
فتاتٌ متناثرةٌ) من الكلمات صالحٌ لدى ربطه وإعادة تكوينه لإعطاء اعترافاتٍ خطيرة
أو ما يشبه ذلك (يقصد الكاتب أن كلماتٍ متناثرةً صدرت من الرجليْن يمكن – إذا
إعيدت صياغتها – أن تكون صالحةً لاعتبارها بمثابة اعترافٍ صريـحٍ منهما أنهما
يعرفان – كبقيّة سُكّان الضاحية – تفاصيل وملابسات الجريمة ويعلمان شخصية القتيلة
صاحبة الجثّة ومَن قتلها ولكنهما يخشون البوْح بأي معلومةٍ خوْفاً من أن ينتقم
منهما القاتل ويصيبهما ما أصاب القتيلة)، تابعت ذلك وأنا ألهثُ من شِدّة الانفعال،
وشيءٌ جذب رأسي نحو مدخل الحانة كما يقع لدى توارُد الخواطر فرأيتُ الضابط يتسلّل
خارجاً، أفقتُ من نشوَتي وانفعالي، وتنبّهتُ في غريزة المهنة فأدركتُ فداحة الخطر
الذي يحدق بي (لأنه عرف الحقيقة التي يكتمها أهل الضاحية)، امتلاك سرٍ خطيرٍ من
هذا النوْع يعني الهلاك، وأنا خبيرٌ بأساليب مهنتي، ولذلك فعليَّ أن أفكّرَ بصفاء
ذِهن، يجب مغادرة الحانة قبل أن تُفْتَعَل معركةٌ من أجل القضاء عليَّ قضاءً وقدراً،
يجب تجنُّب السيْر في الشوارع الخاليـة، لا تسـتـقـل التـاكـسـي حـَذَراً مـن
انـفـجـاره لأسـبـابٍ مجهولة، لا ترجع إلى حجرتك حتى لا يغتالك كائنٌ جاثمٌ في ركنٍ
منها، إلى المحطّة رأساً عن طريق شارع "المسلّة"، وهناك تتعدّد الوسائل للوصول
إلى العاصمة.
وفي صحن المحطّة شعرتُ بيدٍ توضَع على كتفي
فالتفتُّ متوثّباً فرأيْتُ الضابط، وقفنا نترامق مَليّاً حتّى ابتسم قائلاً:
-
جئتُ لأودّعك بما
تقضي به أصول الزمالة.
عَدَلْتُ عن المكابرة وتمتمت ساخراً:
-
شُكراً.
فقال وهو يضحك:
-
ولِـمَ تترك التاكسي
وراءك بلا سائق؟
فقلتُ ساخراً أيْضاً:
-
أتركه في أيدٍ أمينة.
فَرَدَّ وهو يعاود الضحك:
-
تُرى ما الملاحظات
التي تمضى بها؟
ففكّرتُ غيْر قليلٍ ثم قلت:
-
إنكم لا تؤدّون
واجبكم.
-
الناس لا يتكلّمون.
-
أعلَمُ أن أرزاق
البعض بيد البعض الآخر ولكن الغضب يتجمّع في الأعماق وللصبر حدود.
فهز رأسه باستهانةٍ وتساءل:
-
ما واجبنا في رأيك؟
-
أن تحقّقوا العدالة.
-
كلّا.
-
کلّا؟!
-
واجبنا هو المحافظة
على الأمن.
-
وهل يُحْفَظ الأمن
بإهدار العدالة؟
-
وربما بإهدار جميع
القيم.
-
تفكيرك هو اللعنة.
-
هل تخيّلت ما يمكن
أن يقع لو حقّقنا العدالة؟
-
سيقع عاجلاً أو آجلاً.
-
فكّر طويلاً .. بلا
مـثـاليـّةٍ كـاذبة .. قبل أن تكتب تـقـريرك .. مـاذا ستكتب؟
فقلت بامتعاض:
-
سأكتب أن جميع القيم
مهدرةٌ ولكن الأمن مستتب!
(تمّت ..... ولكن هناك تعقيبٌ هام من "ابن أبي صادق" بالأسفل)
تعقيبٌ واجب:
كتب "نجيب محفوظ" هذه القصة الرمزية
العبثيّة للإسقاط على الأحوال الكارثيّة الهزليّة في المجتمعات الشرقية (وبالأخص
العربيّة) وللتدليل على أن هذه البلاد العربيّة تدار دون عدل وأن الأنظمة السياسيّة
(وأغلبها عسكريّة) التي تحكمها هي أنظمة ديكتاتوريّة لا تهتم سوى بالوضع المستقر
وبالأمن المستتب على حساب الحريّة والعدالة الاجتماعيّة، ولكي أستطيع تقريب ما
يقصده الكاتب اسمح لي – عزيزي القارئ – أن أعرض عليك الرموز والمعاني الخفيّة التي
وردت بتلك القصّة:
o
الحيْ الشَرقي: يقصد
به البلاد الشرقيّة (العربيّة) التي لا زالت تعاني من التخلّف والرجعيّة والظلم في
صمتٍ مطبق دون أن تملك الحريّة حتّى في الكلام.
o
الحيْ الغَربي : يقصد
به البلاد الغربيّة (أوروبا وأميريكا) التي تنعم بالعيْش في حريّة وعدالة وتمارس
حقوقها الدستوريّة الطبيعيّة ولكن حكّامها الغربيّين يعاونون الحكّام الشرقيّين في
ظلمهم وفي إخفاء جرائمهم رغم التناقضات بين الجانبيْن لتحقيق مصالحهم المشتركة.
o
المرأة الجميلة المقتولة
التي عُثِر على جثّتها: يقصد بها الحريّة المسفوحة التي قتلها الحكّام الطواغيت
وأزلامهم .. وكذلك يقصد بها العدالة المدفونة التي غيّبتها هذه العصابة من الظَلَمة
في غياهب السجون والمعتقلات.
o
أهل الضاحية: يقصد
بهم الشعوب العربيّة الضحيّة التي تتستّر على جريمة قتل الحريّة وتغييب العدالة إما
عن ضعفٍ أو خوفٍ (أو كلاهما) ويكتفون بالثرثرة الفارغة فيما لا يفيد.
o
ميْدان المحطّة
باتساعه ومبانيه الحديثة: يقصد به الوطن الذي تطوّر شكلاً ومنظراً فقط دون أن
يتغيّر جوْهراً وموْضوعاً فظلَّ على
تخلّفه وتراجعه.
o
تمثال الفلّاحة
الناهضة: يقصد به تمثال نهضة "مصر" الذي نحته "محمود مختار "عندما
كان "سعد زغلول" ورفاقه يطالبون باستقلال البلاد وحريّتها وكان موضوعاً
في ميْدان "باب الحديد" حتى تم نقله أمام حديقة الحيوان بـ"الجيزة".
o
المسلّة: يقصد بها
رمز الحضارة الفرعونيّة المندثرة التي أفلت شمسها منذ آلاف السنين.
o
بطل القصّة وراويها:
يقصد به الباحث عن الحقيقة وأي صوتٍ يطالب بالحرية وينادي بالعدالة.
o
ضابط مكتب الأمن: هو
النظام الحاكم في "مصر" والبلاد العربيّة الذي يعتقد ان مهمته الرئيسة
هي حفظ الأمن فقط ولوْ حتّى في مقابل إهدار جميع قيم العدل والتحرّر.
والملاحظ أن الكاتب توقّع قبيْل نهاية قصّته
أن ينفجر الغضب ويثور الشعب المنسحق المظلوم على هذه الأوضاع المجحفة وهو ما حدث
بالفعل في ثورة يناير 2011 وربما يتكرّر مرّةً أخرى في المستقبل.
هذا ما أمكنني قراءته بين السطور حسبما تكهّنت بالرموز والمعاني وعلى قدر ما استطعت أن أستشفه من قراءتي المتواضعة لتلك القصّة ذات التوْريات العديدة .. وربما استطعت أنت - عزيزي القارئ - أن تستخلص ما هو أكثر من استيعابي المحدود إذا أعدت قراءتها وترجمت طلاسمها برؤيةٍ متأنيةٍ ثاقبة.