الفصل الرابع (3)
ثم يأتي الحق - سبحانه وتعالى - ليؤكِّد
المعنى في هذه الحقيقة الكونيّة لأنه - سبحانه وتعالى - يريد أن يرى خَلْقُهُ أياتِهِ
فيقول عز وجل: "خَلَقَ السَماواتِ والأَرْضَ بالحَق، يُكَوِّرُ اللَيْلَ عَلى
النَّهارِ ويُكَوِّرُ النَّهارَ عَلى اللَيْل، وسَخَّرَ الشَّمْسَ والقَمَرَ كُلٌ
يَجْري لأَجَلٍ مُسَمَّى، ألَا هُوَ العَزيزُ الغَفّار" (الآية 5 من سورة "الزمر").
وهكذا يصف الحق - سبحانه وتعالى - بأن الليل
والنهار خُلِقا على هيْئة التكوير .. وبما أن الليْل والنهار وُجِدا على سطح الأرض
معاً فلا يمكن أن يكونا على هيئة التكوير إلا إذا كانت الأرض نفسـهـا كروية .. بحيث
يكون نصف الكرة مظلماً والنصف الآخر مضيئاً وهذه حقيقةٌ قرآنيّةٌ أخرى تذكر لنا أن
نصف الأرض يكون مضيئاً والنصف الآخر مظلماً.
فلو أن الليل والنهار وُجِـدا على سطح الأرض
غـيـر مـتـسـاوييْن في المساحة .. بحيث كان أحدهما يبدو شريطاً رفيعاً .. في حين
يغطي الآخر معظم المساحة ما كان الاثنان معاً على هيئة كرة .. لأن الشريط الرفيع
في هذه الحالة سيكون في شكلٍ مستطيلٍ أو مثلّث ٍأو مربّع أو أي شكلٍ هندسيٍ آخر
حسب المساحة التي يحتلّها فوق سطح الأرض .. وكان من الممكن أن يكون الوضع كذلك
باختلاف مساحة الليل والنهار ولكن قوله تعالى: "يكوِّر الليْل على النهار
ويكوِّر النهار على الليْل" دليلٌ على أن نصف الكرة الأرضيّة يكون ليْلاً
والنصف الآخر نهاراً .. وعندما تقدّم العِلم وصعد الإنسان إلى الفضاء ورأى الأرض
وصوَّرها وجدنا فعلاً أن نصفها مضيءٌ ونصفها مظلم كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى.
فإذا أردنا دليلاً آخر على دوران الأرض حول
نفسها لابد أن نلتفت إلى الآية الكريمة في قوله تعالى: "وتَرَى الجِبالَ تَحْسَبُها
جامِدَةً وهي تَمُرُّ مَرَّ السَّحاب، صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء"
(الآية 88 من سورة "النمل").
عندما نقرأ هذه الآية ونحن نرى أمامنا الجبال
ثابتةً جامدةً لا تتحرّك نتعجّب .. لأن الله سبحانه وتعالى يقول: "تحسبها
جامدة" .. ومعنى ذلك أن رؤيتنا للجبال ليست رؤيةً يقينيّة .. ولكن هناك شيئاً
خلقه الله - سبحانه وتعالى - وخفى عن أبصارنا .. فما دمنا نحسب فليست هذه هي
الحقيقة .. أي أن مانراه من ثبات الجبال وعدم حركتها .. ليس حقيقةً كونيّة ..
وإنما إتقانٌ من الله - سبحانه وتعالى - وطلاقة قُدرةٍ منه بأنه خلق شيئاً جَعَلَنا
نراه على غير حقيقته وتلك طلاقة قدرة الخالق .. لأن الجبل ضخمٌ كبيرٌ بحيث لا يخفى
عن أي عين .. فلوْ كان حجم الجبل دقيقاً لقلنا: لم تدركه أبصارنا كما يجب .. أو
أننا لدِقّة حجمه لم نلتفت إليه هل هـو مـتـحـركٌ أم ثابت .. ولكن الله خلق الجبل
ضخماً يراه أقل الناس إبصاراً حتى لا يتحجّج أحدٌ بأن بصره ضعيف لا يدرك الأشياء
الدقيقة .. وفي نفس الوقت قال لنا: أن هذه الجبال الثابتة تمر أمامكم مر السحاب.
ولماذا استخدم الحق - سبحانه وتعالى - حركة
السُحُب وهو يصف لنا تحرُّك الجبال؟ .. لأن السُحُب ليست لها ذاتيّة الحركة .. فهي
لا تتحرّك من مكانٍ إلى آخر بقدرتها الذاتيّة .. بل لابد أن تتحرّك بقوّة تحرُّك
الرياح .. ولو سكنت الريح لبقيت السُحُب في مكانها بلا حركة .. وكذلك الجبال.
الله - سبحانه وتعالى - يريدنا أن نعرف أن
الجبال ليست لها حركةٌ ذاتيّة .. أي أنها لا تنتقل بذاتيّتها من مكانٍ إلى آخر ..
فلا يكون هناك جبلٌ في أوروبا ثم نجده بعد ذلك في أمريكا أو آسيا .. ولكن تحرُّكها
يتم بقوّةٍ خارجةٍ عنها هي التي تحرِّكها .. وبما أن الجبال موجودة فوق الأرض ..
فلا توجد قوةٌ تحرِّك الجبال إلّا إذا كانت الأرض نفسها تتحرّك ومعها الجبال التي
فوق سطحها.
وهكذا تبدو الجبال أمامنا ثابتةً لأنها لا
تغيّر مكانها .. ولكنها في نفس الوقت تتحرّك لأن الأرض تدور حوْل نفسها والجـبـال
جزءٌ من الأرض، فهي تدور معها تماماً كما تحرِّك الريح السَحاب .. ونحن لا نحس بدوران
الأرض حـول نـفـسـهـا .. ولذلك لا نحس أيضـا بحـركـة الجـبـال.
وقوله تعالى: "وهي تمر مر السحاب"
معناها أن هناك فترةً زمنيّةً بين كل فترةٍ تمر فيها .. ذلك لأن السحاب لا يبقى
دائماً بل تأتى فتراتٌ ممطرةٌ وفتراتٌ جافّةٌ وفتراتٌ تسطع فيها الشمس .. وكذلك
حركة الجبال تدور وتعود إلى نفس المكان كل فترة.
وإذا أردنا أن نضرب أمثالاً أكثر فالأرض
مليئةٌ بالآيات .. ولكننا نحن الذين لا نتنبه .. وإذا نبّهنا أحدٌ فإن الكُفّار يُعْرِضون
عن آيات الله .. تماماً كما حدث مع رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم حين قال له
الكُفّار في قوْله تعالى: "وقالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ
الأَرْضِ يَنْبوعا، أَوْ تَكونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَخيلٍ وعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهارَ
خِلالَها تَفْجيرا، أَوْ تُسْقِطَ السَماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتيَ
بِاللهِ والمَلائِكَةِ قَبيلا" (من الآيتين 90 و 91 من سورة "الإسراء").
وكان كل هذا معاندةً منهم .. لأن الآيات التي
نزلت في القرآن الكريم فيها من المعجزات الكثير الذي يجعلهم يؤمنون.
السـيْر فـى الأرض
والحقائق الكوْنيّة في القرآن الكريم تتوالى
.. والآيات تِلو الآيات .. تُرينا إعجاز الخلق ودقة إخبار الخالق لنا عن أسرار
السماوات والأرض .. الله - سبحانه وتعالى - يقول: "قُلْ سيروا في الأَرْضِ ثُمَّ
انْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُكَذِّبين" (الآية 11 من سورة "الأنعام").
عندما نزلت هذه الآية الكريمة أخذنا معناها
على أننا نسير في أنحاء الأرض .. ولم نتنبّه إلى الحقيقة وهي أننا نسير على الأرض
.. أي فوق سطحها وليس في بطنها فكيف يقول لنا الحق: "سيروا في الأرض"
ولماذا لم يقل سيروا على الأرض؟ .. ثم تأتي الحقيقة العلميّة وهي أننا فعلاً نسير
في الأرض .. وليس على الأرض .. لأن هناك غلافاً جوّيّاً يحيط بالأرض وهو جزءٌ منها
.. ونحن لا نخرج من الأرض إلّا إذا خرجنا من هذا الغلاف الجوّي.
فالطائرات التي تطير على ارتفاعاتٍ مختلفةٍ
تطير في الأرض وليس خارج الأرض .. ولكن الذي يخرج من الأرض هي سُـفُن الفضاء التي
تتجاوز الغلاف الجوّي للأرض .. وبدون تجاوز هذا الغلاف لا تستطيع أن ترى صورة
الأرض كاملة .. لأنك ما دمت قد أصبحت خارج الشيء تتّضح أمامك الصورة .. فأنت خارج
عمارةٍ مثلاً تستطيع أن تعرف شكل العمارة ولكنك من داخلها ومن أي مكان فيها لا
تستطيع أن ترى الصورة كاملة.
وعلى أية حال .. فإنه علمياً أنت لا تكون
خارج الأرض إلّا إذا خرجت من الغلاف الجوّي المحيط بها .. لأن الأرض والغلاف الجوي
شيءٌ واحد.
وقوله تعالى: "سيروا في الأرض"
يجعلنا نتساءل أين نسير؟ .. نحن نسير حقيقةً على سطح الأرض ولكننا نسير في الأرض
.. أي بيْن سطح الأرض والغلاف الجوّي .. فما تحتنا هو أرض وما فوقنا هـو جزءٌ مَكَمِّلٌ
للأرض، وهو الغلاف الجوّي .. وهكذا نرى دقة تعبير القرآن الكريم في وصـفـه لحـركـة
الإنسان في الأرض.
وإذا كان هذا الوصف يعطينا معجزة .. فإن
الأرض نفسها تعطينا معجزةً أخرى: نحن نرى ونمشي في مزارع الأرض وحـدائقـهـا ..
ونرى أمـامنا الأشجار المختلفة والنباتات المختلفة .. ولكن هل يفكِّر أحدٌ مِنّا
في معجزة الخلق في هذه النباتات التي نراها كل يوْم؟ .. نحن نعرف أن النباتات تحصل
على غذائها بواسطة جذورها الشعريّة الدقيقة التي تضرب في الأرض فتأخذ منها عناصر
الغِذاء التي تعطيها النمو والثمـر .. هذه الأشجار كيف تتغذّى؟! .. يقول العلماء:
إن الغذاء يصعد من جذور النباتات إلى الساق والأوراق والثمار ليغذّيها .. بواسطة
مـا يُسَمّى بالضغط الأُسـمـوزي، أو نظريّة الأنابيب الشعريّة .. ويدلِّلون على صحّة
نظريّتهم بأنهم يأتون بإناءٍ واسعٍ ويضعون فيه أنابيب شعريّة .. فنرى الماء يصعد
فيها .. وهكذا أراد العِلم أن يفهمنا أن العمليّة فيها ميكانيكيّة الغِذاء .. دون
أن يكون فيها آيات الخلق وإعجاز الخالق.
نقول: إن هذا التفسير العلمي قد أوضح شيئاً
وغابت عنه أشياء .. فالماء يصعد فعلاً في هذه الأنابيب الشعريّة .. ولكنه يصعد بكل
محتوياته فالأنابيب الشعريّة لا تميّز بين عناصر الماء فـتـأخـذ عنصراً وتترك عنصراً
.. ولكن في النبات الأمر يختلف تماماً.
الشـجـر .. ومعجزة الخلق
فالغذاء في الأرض – بعناصره - كله واحـدٌ
مـتـجـانس .. ولكننا نرى كل شجرةٍ تأخذ من هذا الغذاء ما يناسب ثمارها .. أي أنها
تختار العناصر اللازمة لها وتترك الباقي ولا تأخذه .. ولذلك نرى الزرع ينبت في
مكانٍ واحـد ويُسْقى بماءٍ واحـد .. ولكن كل ثمرةٍ لها طعمٌ وشكلٌ ولوْنٌ ورائحةٌ
وحجمٌ يختلف عن الأخرى .. فهذه حلوة .. وهذه مُرّة .. وهذه صغيرة وهذه كبيرة ..
وهذه لونها أحمر وتلك لونها أصفر .. والثالثة لونها أبيض وهذه لها رائحةٌ نفّاذة
وتلك ليس لها رائحة .. أشكالٌ وألوانٌ مختلفة .. وكل شجرةٍ من هذه الأشجار تأخذ من
الأرض ما يناسبها من عناصر التكوين الدقيق لها بكل تفاصيله وتترك الباقي .. ونرى
شجرة التفاح ثمرها حلو ورائحتها نفّاذة .. وبجانبها الليمون طعمه حامض وبجانبها الحنظل
طعمه مر .. وثمرةٌ نأكلها ونترك ما بداخلها مثل المشمش والخوخ والبلح .. وثمرة
ننزع غلافها ولا نأكله ولكننا نرميه كالبرتقال والبطّيخ .. وثمرةٌ لهـا غـلافٌ هَشٌّ
كـالبـرقـوق مـثـلاً .. وثمرةٌ غـلافـهـا جـامـد قـوي لا تستطيع أن تنزعـه بيـدك
كـالجـوز واللوز والبندق وجوز الهند .. وثمـرةٌ صالحةٌ للتخزين أيّاماً أو أسابيع
كأنواعٍ من البطيخ .. وثمرةٌ صالحةٌ للتخزين شهوراً طويلة كالجوز واللوز.
وأستطيع أن أمضي بلا نهاية في وصف أنواع
الثمر المختلفة التي تُنبِتها الأشجار .. ولكنني أُفضِّل أن أذكر الآية الكريمة التي
يقول فيها الحق سبحانه وتعالى: "وَفي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنّاتٌ
مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ ونَخيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ وَاحِدٍ
ونُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ في الأُكُل، إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلون"
(الاية 4 من سورة "الرعد") .. ونحن نمر على الجنّات الموجودة في كل أنحـاء
الأرض ونرى هذه الآيات .. ثم بعد ذلك نتساءل: أين الدليل المادي على أن الله هو الخالق؟
.. سبحانك يا ربي القائل: "وَما تَأْتيهِمْ
مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إلّا كانوا عَنها مُعْرِضين" (الآية 4 من
سورة "الأنعام") .. وصدق الله العظيم في قوْله تعالى: * قُتِلَ الإنْسانُ
ما أَكْفَرَه" (الآية 17 من سورة "عبس")؟.