الفصل الرابع (1)
الله - سبحانه وتعالى - له آياتٌ تملأ الأرض
والسماء ولكننا غافلون عنها .. ومن الإعجاز الإلهي أن آيات الله لا تنتـهي ..
فـإذا مشيت في الطريق فهناك آيات .. وإذا صعدت إلى الجبل فهناك آيات .. وإذا نزلت
إلى قـاع البـحـر وجـدت آيات .. وإذا صعدت إلى السماء كانت هناك أكثـر مـن آيـة.
وإذا نزلت إلى باطن الأرض فهناك آياتٌ وآيات
.. هناك آيةٌ في تلك الشجيْرة الصغيرة التي تراها تنبت في سطح الجبل .. ساقها هشّةٌ
ليّنة .. ربما لا تحـتـمـل قـبـضـة يدك ومع هذا فـقـد فـتّتت الصـخـر ونبتت فـيـه
واستطاعت الشجيْرة الرقيقة الرفيعة أن تمتد وتضرب في باطن الجبل وتحصل على الغِذاء.
وتتعجّب أنت كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ .. مع أنك
لو أردت أن تضع ثقباً في سطح الجبل لاحتجت إلى آلاتٍ حادّةٍ وقوىً كثيرة .. وتعرف
أن الله - سبحانه وتعالى - الذي خلقـهـا قـد ألان لها الصخر فنبتت فيه .. وألان
لجذورها صخور الجبل فامتدّت حتى وصلت إلى المصدر الذي يعطيها الغذاء هذه الآيات لا
تحتاج إلى بحثٍ ولا إلى ميكروسكوب .. ولكنها تحتاج لمجرد التأمّل .. وفي الأرض
آياتٌ كثيرةٌ لا تحتاج منّا أكثر من أن نتأمّلها لنعرف قُدرة الله وعظمته ونؤمن به
.. ولذلك قال الله - سبحانه وتعالى - في كتابه العزيز: "إنّما يَخْشَى اللهَ
مِنْ عِبادِهِ العُلَماء" (الآية 28 من سورة "فاطر").
لماذا خَصَّ الله العلماء بالخشية؟ .. لأنهم
وهم يبحثون في مخلوقات الله في الأرض يرون أسـراراً ودِقّـة خَلْـق وإبداع تكوينٍ
كـان يجب أن يجعلهم أوّل السـاجـدين لله .. أوّل العابدين لله .. ولكن هؤلاء
العلمـاء الماديّين بدلاً من أن يفعلوا ذلك أخـذوا يحاولون النيْل من الدين ومن
الإيمان .. والإنسان يعتقد أنه وصل إلى أسرار الكوْن .. ولكنه في الحقيقة لم يصل
حتى إلى أسرار نفسه .. بل إنه ينتقل من قانونٍ إلى قانون ولا يعرف كيْف ينتقل ..
ولا ما هو سر هذا الانتقال.
فالإنسان وهو مستيْقظٌ له قوانين ربما عرفنا
بعضها .. ولكنه إذا نام انتقل إلى قانونٍ مـخـتلفٍ تمامـاً مـجـهـولٍ له حيث هو
يخرج من الزمن .. فالإنسان وهو نائمٌ لا يحس بالزمن .. فإذا استيْقظ فهو لا يعرف
كم ساعةً نامها ولابد أن ينظر إلى ساعته ليعرف كم ساعةً قضاها وهو غائبٌ عمّا حوْله.
إذن قانون الزمن لا يسري على النائم فـلا يحس
بالوقت .. لماذا؟ .. لأن الزمن هو قياسٌ للأحداث .. فنحن نقيس الأحداث بالزمن ..
والنائم هو خارجٌ عن هذه الأحداث .. والإنسان إذا نام رأى وعيناه مغمضتان .. ومشى
وجرى وقدماه لا تتحرّكان من فوْق السرير .. وتحدّث ولسانه لم يتحرّك .. ورأى وتكلّم
مع أناسٍ انتقلوا إلى العالم الآخـر منذ سنوات .. ومع ذلك فـهـو يـحـدّثهم ويسمعهم
وهم يكلّمونه ويفهم ما يقولون .. والعِلم خارج هذه المنطقة تماماً فلا يستطيع عالِمٌ
أن يخبرنا كيف يرى الإنسان وهو نائم .. أو يتحرّك أو يلتقي مع أناسٍ انتقلوا
للعالم الآخر .. وكل ما جاء عن هذا في محاولاتٍ أُطلِق عليها اسم العِلم .. إنما
هي تخميناتٌ بلا دليل ومعظمها من الخيال أكثر من الواقع .. ومع أن كل هذا يحدث لكل
منّا ويحدث كل يوم تجد هناك مَن يعلن بوقاحة ويقـول انتهى عصر الدين وجاء عصر
العلم .. وهؤلاء إنما يقولون بُهتاناً .. فالله هو الكاشف لعباده عن العلم .. هو
القائل في كتابه الكريم: "اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَم، الذي عَلَّمَ بالقَلَم،
عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَم" (الآيات 3 – 5 من سورة "العَلَق").
لماذا لا يؤمنون؟
ولكن الناس لا يؤمنون .. رغم أن هناك من
الأدلة الماديّة في الكوْن - ما لا يُعَد ولا يُحصى - تهدي الناس إلى طريق الإيمان
وإلى وجـود الله وهؤلاء الذين لا يؤمنون بعضهم مُنكِرٌ للدين لأنه يريد أن يكون هو
مصدر التشريع، لأن منهج الله - سبحانه وتعالى - قائمٌ على العدل بين الناس وإعطاء
كل ذي حقٍ حقّه .. وهم يريدون أن يتـمـيـّزوا وأن يأخذوا حـقـوق غيرهم .. ولا سبيل
إلى ذلك إلّا أن يضعوا منهجاً مِن صُنعهم .. يعطيهم كل شيء ويسلب غيرهم كل شيء ..
والطريقة الوحيدة لذلك هي أن يُنكروا منهج السماء.
والقِسم الثاني فضّل أن يعيش مع النعـمـة
بدلاً من أن يعيش مع المُنعِم .. وهؤلاء الناس الذين متّعهم الله - سبحانه وتعالى
- بنعمةٍ في الدنيا لم يفكّروا كيف جاءت هذه النِعَم ولكنهم أرادوا أن يأخذوا من
النِعَم كل مـا يستطيعون .. وأعماهم الطمع الإنساني .. فلم يفكّروا إلّا في الحصول
على نِعمة المال أو نِعمة السُلطة أو غيرها من نِعَم الكوْن .. وهؤلاء شغلوا
أنفسهم بالمادّة بدلاً من أن يفكّروا فيمَن خَلَقَ المادّة .. وأخذوا النعم في
أنها حقٌ لهم دون أن يبحثوا عمَّن أوْجدها، فرغم أن قوانينهم الماديّة التي يؤمنون
بها تقول: إنه لا شيء يحدث في الدنيا بدون فاعل .. فلم نجد مثلاً عمارةً نشأت هكذا
دون أن يكون لها مهندسٌ وعمالٌ وغيْر ذلك ممَّن أقاموها .. ولم يجلسوا في بيوتهم
مثلاً ليجدوا كميّةً من المال ظهرت أمـامـهـم فـجـأة .. وكل مصالحهم لابد أن
يتـحـرّكـوا لقـضـائـهـا .. ومع أن قانون المادّة يقول إنه لا يوجد فعلٌ بدون فاعل
فإنهم لم يطبِّقوا هذا القانون على الكوْن كله .. بل ادّعوا أن الكوْن قد خُلِق
بدون فاعل .. بعضهم قال: حدث هذا بتفاعل المواد!! .. ولو أنصفوا لسألوا أنفسهم مَن
الذي أوْجد المادّة أولاً ومَن الذي حرّكها ثانياً .. ولكنهم تناسوا هذا السؤال!
وحتى إذا صدمتهم آيةٌ من آيات الله تكبّروا
عليها .. ولعل هذا واضحٌ في العالم الغربي الذي يحاول الفَصْل بين العِلم والدين
فصلاً تامّاً .. وربما كان السبب في ذلك هو المعركة الرهيبة التي قامت بين العِلم
والكنيسة واستمرت أكثر من قرنيْن .. وقد كانت الكنيسة تنكر العلم تماماً استناداً
إلى التوْراة وهي الكتاب المقدَّس لليهود، والذي تؤمن به الكنيسة .. وما جاء في
التوراة يقول إن شجرة التفاح التي أكل منها "آدم" هي شجرة المعرفة ..
وإنه حينما أكل "آدم" التفاحة .. كُشِفَت له علومٌ كثيرة فغضب الله
علـيـه وطرده من الجنة .. وكانت هذه هي المعصية الأولى التي مازالت البشريّة تعاني
منها حتى الآن .. والتي نُكَفِّر عنها بحياتنا في الأرض المليئة بالشقاء .. ولو لم
يأكل "آدم" تفاحة المعرفة لكنّا حتى الآن نعيش في الجنّة.
هذه الخرافة المُحَرَّفة هي التي أدّت إلى
المعركة بين الكنيسة والعلم .. تلك المعركة التي تعرَّض فيها العالِم الإيطالي "جاليليو
جاليلي" في القرن الخامس عشر إلى غضب الكنيسة عندما أثبت بالأدِلّة الماديّة
كرويّة الأرض وأصدرت الكنيسة حُكماً بحرقه حيّاً لأنه كفر .. واضطر العالِم الإيطالي
أن يُنكِر ما اكتشفه.
ولكن موْقف الإسلام مـخـتلف .. ذلك أن التفّاحة
التي أكلها "آدم" هي منهج الشيْطان الذي أظهر عوْراته وكشفها .. كما
يظهر تزيين الشيْطان للناس في الدنيـا عـوْراتهـم فـيـكشـفـهـا فـيـصـيـبـهم
الخـزى والعـار.
العِلم كاشفٌ لقوانين الكوْن
أما العِلم فالإسلام ينظر إليه على أنه من
الله أوّلاً .. فالله يكشف آياته في الأرض للإنسـان .. والإنسـان يكتشف ولا يخلِق
أو يضع في الكوْن قوانين جديدةً من صُنعه .. ولكن الله يكشف لمَن يشاء قوانين كوْنه
ولكل قانونٍ وكشفٍ ميلاد .. فإذا جاء ميلاد كشفٍ لقانونٍ کوْني كشفه الله لمَن
يبحث عنه من البشر فيعرفونه ويستخدمونه.
ولأن الله - سبحانه وتعالى - هو الذي قال: "عَلَّمَ
الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَم" فيجب أن نعرف أن كل عِلمٍ هو من الله .. والله - سبحانه
وتعالى - ميّز الإنسان على الملائكة بالعِلم .. فقال جل جلاله: "وعَلَّمَ آدَمَ
الأسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُم على المَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِؤني بأسْماءِ هَؤلاءِ
إنْ كُنْتُمْ صادِقين، قالوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إلّا ما عَلَّمْتَنا إنَّكَ
أَنْتَ العَليمُ الحَكيم، قالَ يا آدَمَ أَنْبِئْهُم بأَسْمائِهِمْ فَلَمّا
أَنْبَأَهُم بأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إنّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَماواتِ
والأَرْضِ وأَعْلَمُ ما تُبْدونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمون" (الآيات من 31 -
33 من سورة "البقرة").
هذا هو موقف الإسلام من العِلم .. وإن كان
للكنيسة موقفٌ آخر في معركةٍ استمرّت قرنيْن كامليْن بيْن الكنيسة والعُلماء ..
وعندما انتصر العُلماء عملوا على تضييق نفوذ الكنيسة بحيْث أصبحت لا دخل لها بالعِلم
.. وفـصلوا الدين عن الدوْلة إلى آخـر مـا يرويه التـاريخ.
والعلماء في أبحاثهم يحاولون إنكار دور الدين
إيماناً بذاتيّتهم، فهم يريدون أن يقولوا نحن فعلنا ونحن اكتشفنا .. كـمـا قـال
قـارون: "قالَ إنَّما أُوتيتُهُ عَلى عِلمٍ عِنْدي" (الآية 78 من سورة "القصص")
.. ولذلك فليس في بالهم الله وسيفاجأون بالله - سبحانه وتعالى - في الآخرة .. مِصداقاً
لقوْله تعالى: "والذينَ كَفَروا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقيعَةٍ يَحْسَبُهُ
الظَمآنُ ماءً حَتّى إذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً، وَوَجَدَ اللهُ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ
حَسابَهُ، واللهُ سَريعُ الحِساب" (الآية 39 من سورة "النور").
ولا يحسب أحدٌ أن هؤلاء الذين كـفـروا فعلوا
ذلك لأن آيات الله لم تصل إليهم .. بل الآيات أمامهم ولكنهم هم الذين يتكبّرون على
الإيمان ويقول الحق سبحانه وتعالى: "وما تَأْتيهِمْ مِنْ آيةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِم
إلّا كانوا عَنْها مُعْرِضين" (الآية 4 من سورة "الأنعام") .. ولذلك
فإن إعراضهم ليس على أن الدليل المادي على وجود الله غائبٌ عنهم ولكن لأنهم يرفضون
الإيمان .. أما ليحقّقوا مصالح ذاتيّة .. وإما لأنهم لا يؤمنون بالآخرة ..
فيحاولون أن يأخذوا كل ما تعطيهم الدنيا على أن هذا هو كل شيء .. وتكون النتيجة أنهم
يسـتـخـدمون كل الوسائل - حلالاً أو حراماً - في الوصول إلى أهدافهم .. عملاً
بمبدأ أن الغاية تبرِّر الوسيلة.
الإبصـار كيف يتم؟
ولو أنهم فكّروا قليلاً لوجدوا الآيات في
القرآن الكريم معجزات .. ولو أنهم كانوا عُلماء وباحثين فـعـلاً .. لقرأوا القرآن
الذي سـمـعـوا عنه .. ودرسوا الإسلام دراسةً غير مُغْرِضة .. ثم بعد ذلك مَن شاء
فليؤمن ومَن شاء فليكفر .. وإنهم مثلاً لو التفتوا إلى الآية الكريمة: "فَمَحَوْنا
آيةَ اللَّيْل وجَعَلْنا آيةَ النَّهارِ مُبْصِرَة" (الآية 12 من سورة "الإسراء")
لعرفوا الإعجاز في هذه الآية وحدها .. ولكان الإعجاز فيها كافياً لأن يؤمنوا ..
الله - سبحانه وتعالى - يقول: "وجَعَلْنا آيةَ النَّهارِ مُبْصِرَة" ..
وهكذا وصف الله النهار بأنه هو المبصِر .. ولكن هل النهار هو الذي يُبصِر أم العيْن
هي التي تُبصِر؟ .. الذي نفهمه من تلقائيّة الإبصار أن العيْن هي التي تُبصِر ..
ولكن الحقيقة العلميّة تختلف .. فلقد ثبت علميّاً أن ضوء الشمس ينعكس على الأشياء
ثم تدخل أشعة النور إلى العيْن فتُبصِر.