الفصل الثالث (4)
عادل: بالتأكيد بطل .. تخيّل نفسك في بئرٍ
عميقـة .. جدرانها من المرمر الأملس .. واستحـال عـلـيك الخروج بعد محاولاتٍ مضنية
.. ماذا تفعل؟! ..
الدكتور: أيأس طبعاً ..
عادل: إنه هو لم ييأس ..
الدكتور: حقّاً .. أراه يكرّر المحاولة عشرات
المرّات ..
عادل: بل مئات المرّات .. لقد جعلت همّي منذ
الصباح أن أُحصي العدد ..
الدكتور: أكنت مشغولاً بذلك منذ الصباح؟! ..
عادل: نعم .. أردت أن أعرف متى ينتهي كفاحه! ..
الدكتور (ناظراً باهتمامٍ حقیقي): حتى الآن
يبدو عليه أنه لن ينتهي قريباً ..
عادل: فعلاً .. تعبنا نحن من المشاهدة، و لم
يتعب هو من المحاولة ..
الدكتور (متابعاً النظر): أي أملٍ له في
النجاة؟! ..
عادل: لا أمل طبعاً ..
الدكتور: إلّا إذا تدخّلت أنت وأنقذته ..
عادل: وأنا لن أتدخل ..
الدكتور: ولِـمَ لا؟! .. ما دمت معجباً به ..
عادل: يجب أن أتركه لمصيره ..
الدكتور: لو أنه كان يستطيع الصياح .. وصاح
بك سائلاً معونتك .. أما كنت ترِق له وترحمه؟! ..
عادل: ربما .. ولكنه صامت لا يصيح ..
الدكتور: مَن أدراك؟! ..
عادل: ماذا تقول؟! ..
الدكتور: أقول مَن أدرانا أنه لا يصيح الآن
.. طالباً المعونة .. ولكن ذبذبات صوْته لا تلتقطها أذنك ..
عادل: جائزٌ جداً ..
الدكتور: تصوّر أنه الآن .. يصيح ويتضرّع ..
وأنت لا تسمع ولا تفهم لغته ..
عادل: هو أيضاً لا يسمعني ولا يراني ..
الدكتور: نعم .. كل اتصالٍ بينكما مقطوع ..
عادل: ليس مقطوعاً تماماً .. بدليل أني مهتمٌ
به ..
الدكتور: أنت مهتمٌ بكفاحه من أجل الحياة ..
عادل: إذن هذا هو صوْته وابتهاله ولغته التي
أستطيع أن أسمعها وأفهمها ..
الدكتور: فعلاً .. اهتمامنا بكفاحه هذا
الاهتمام ..
عادل: أليس هذا هو ما يبقيني أمام الحوْض منذ
الصباح؟ ..
الدكتور (ناظراً في الحوْض): الواقع أنها
فرجةٌ ممتعة ..
عادل (ناظراً مثله): أليس كذلك؟ ..
الدكتور: حقّاً .. لكن .. يدهشني امتناعك عن
مساعدته قليلاً .. ولو على سبيل المكافأة على الفُرجة ..
عادل: إنه فعلاً يستحق ..
الدكتور: نحن فيها .. هيّا نخرجه من ورطته! ..
عادل: نخرجه حيّاً؟ ..
الدكتور: طبعاً ..
عادل: : و"سامية" .. هل تقبل ذلك؟ ..
الدكتور: إن قلبها رحيم ..
عادل: أنا شخصيّاً أُفضِّل عدم إدخال العواطف
في حكايةٍ كهذه .. وإلّا كان موقفنا مضحكاً بالفعل ..
(تظهـر "سامية" على العتبـة تحمـل
القهوة .....)
الدكتور: بالعكس .. الموقف الآن لم يعد مضحكاً
على الإطلاق ... إنه أصبح مفهوماً ومقبولاً .. وقد بدأت أنا نفسي أجد الموضوع
جديراً بالمتابعة ..
سامية (تتقدّم بالقهوة): القهوة يا دكتور ..
الدكتور (دون أن يرفع نظره عن الحوْض): شكــراً
.. سأتناولها بعد لحظة ..
سامية: يظهر أن الصرصار شَغَلَكَ أنت أيضاً يا
دكتور! ..
الدكتور (وهو يتابع مشاهدته): الواقع أن
الأمر أصبـح يهمّني ..
سامية: لا بد أن هذا المرض أصبح معدياً! ..
عادل (يلتفت إليها): أي مرض؟! ..
سامية: الدكتور فاهم قصدي ..
الدكتور (يتنبّه): هيّا نشرب القهوة أولاً ..
(يخرجون جميعاً إلى الحجـرة .. ويجلس الدكتور
على مقعد .. وتضع "سامية" صينيّة القهوة فوق مائدةٍ صغيرةٍ بجواره .....)
سامية: انتهيْت من فحصك يا دكتور؟ ..
عادل: فحص مَن؟ .. فحصي؟! ..
سامية: لا يا "عادل" .. هذه مجرّد
كلمة للدكتور
الدكتور: أظن يستحسن الآن الكلام بصراحة .. لأنه
لم يعُد محلٌ ولا لزومٌ لإخفاء شيء .. الأستاذ "عادل" في أتم صحةٍ
وعافية .. ويستطيع أن يلبس ملابسه ويخرج من الآن إذا شاء ..
سامية: والأجازة يا دكتور؟! ..
الدكتور: هذه مسألةٌ أخرى .. لكن زوْجِك يا سيدتي
على حقٍ في كل شيء .. وأنا أؤيّد تصرّفاته كل التأييد .. وليس فيها أي ظاهرةٍ
غريبة ..
سامية: والصرصار؟! ..
الدكتور: ماله الصرصار؟! .. أنا شخصيّاً
أتمنى أن أكون مثل الصرصار ..
سامية (تغمز بعيْنيْها للدكتور): آه .. مفهوم
.. فهمت یا دکتور ..
الدكتور : لا .. بالشرف .. كلام جد ..
سامية: كلام جد؟! ..
عادل: فعلاً يا "سامية" .. كلام جد
.. الدكتور أفهّمني كل شيء .. وأطلعني على كل شيءٍ بالمفتوح .. وعلى كل حال الله
يسامحك! ..
سامية: صحيح يا دكتور؟ ..
الدكتور: الواقع أننا كنا فاهمين الموقف فهمٌ
خاطئ .. واتجهنا اتجاه غلط ..
سامية: یعني "عادل" .....
الدكتور: طبيعي مائة في المائة ..
سامية: الحمد لله .. الحمد لله .. أنا كنت في
شِدّة القلق عليك یا عادل ..
عادل: كنتِ فاهمة أن بيني وبين الصرصار صلة
نسب! ..
سامية: أنا معذورةٌ يا "عادل" .. حُبك
الشديد له .....
الدكتور: بالعكس .. اتضح أنه لا حُبٌ ولا غيْره
.. لأنه لو كان يحبّه كان رحمه وأنقذه .. أملنا كله الآن في رحمتِك أنتِ ..
سامية: رحمتي أنا؟! ..
الدكتور: نعم .. وأنا شخصيّاً .. أتقدّم إليكِ
بالرجاء .. وأتشفّع له عندِك ..
سامية: تتشفّع لـمَن يا دكتور؟! ..
الدكتور: للصرصار ..
سامية (صائحةً): دكتور .. دكتور .. "عادل"
.. ماذا جرى للدكتور؟! ..
الدكتور: لا تنزعجي .. لا تنزعجي .. أنا بخيْرٍ
وعافية ..
سامية: بخيْرٍ وعافية .. مثل زوْجي!! ..
عادل: نعم .. مثلي طبعاً ..
سامية: يا للمصيبة .. أنت والدكتور! .. لم
يبق إلّا أنا و"أم عطيّة" .. والدور علينا .. لا .. لا يمكن .. أنا
خارجةٌ حالاً .. "أم عطيّة" .. "أم عطيّة" ..
عادل: ماذا جرى يا "سامية" .. جُننتِ؟!
..
سامية: أنا التي جُننت؟! ..
الدكتور: اهدئي يا سيّدتي ودعينا نُفهِمِك ..
الطبّاخة (تظهر): ناديْتِ يا سِت؟ ..
سامية: نعم أنا خارجة .. جهِّزي الحمّام ..
الطباخة: حاضر يا سِت ..
( تدخل الحمّام بسرعة وتفتح حنفيّـة الحوْض
.....)
عادل (لا يفطن إلى ما يحدث بالحمّام ويتّجه
إلى زوْجته): اهدئي يا "سامية" .. اهدئي قليلاً .. ودعينا نُفهِمِك ..
الدكتور: أعصابِك ثائرةٌ يا سيّدتي بدون مبرر
.. لوْ سمحتِ لنا بكلمةٍ واحدة ..
سامية: لا .. لا لزوم يا دكتور ..
عادل: ألا تريدين التفاهُم؟ ..
سامية: كفاية التفاهُم بينك وبين الدكتـور ..
أنتما الآن متفاهمان ضدي ..
الدكتور : ليس ضدِك يا سيّدتي .. أهذا معقول؟!
.. أنا فقط اقتنعت بوجهة نظر الأستاذ "عادل" .. وفهمت حقيقة غرضه وتصرّفه
..
سامية: ولهذا أصبحت مثله ..
عادل: مثلي .. قصدِك صرصار؟! ..
الدكتور: هذا يشرّفني ..
سامية: أرأيْت؟! .. إنها عَدْوى ولا شك! ..
(الطبّاخة في الحمّام بعد أن فتـحت الحنفيّة
وملأت الحوْض تمد يدها وتُخرِج الصرصار ميّتاً بطرف أصابعها وتُلقي به في ركنٍ من
الحمّام .....)
الطباخة: ملأت الحوْض يا سِت! ..
عادل (متنبّهاً): ملأتِ الحوْض! .. (ويهرع
إلى الحمّام صائحاً بعد أن نظر إلى الحوْض) الحقني یا دکتور .. حدث ما كنا نخشاه ..
الدكتور (في أثره): ماذا حدث؟! ..
عادل: الصرصار مات ..
الدكتور: مات؟! ..
عادل: مات غريقاً ولا شك .. لكن أين هو؟ .. "أم
عطيّة" .. أيْن الصرصار الذي كان هنا .. في الحوْض؟ ..
الطباخة (تشير إلى ركن الحمّام)" رميْته
هُنا .. مؤقّتاً ..
(ثم تخرج الطبّاخة .....)
عادل: يا خسارة ..
الدكتور: فعلاً .. خسارة ..
سامية: نأتي لكم بندّابة .. نُحضِر لكم
موسيقى تمشي أمام جنازته! ..
عادل: كفاية سخرية من فضلِك! ..
الدكتور: اترك الموضوع يا أستاذ "عادل"
.. ما حصل قد حصل .. أنت من الأصل أردت تركه لمصيره .. وها هو مصيره ..
عادل: نعم .. كان لا بُد له أن ينتهي .. أي نهاية
.. تعال نُلقِ على جُثّته نظرةً أخيرة ..
الدكتور: أين جُثّته؟! ..
سامية: جُثّته؟! .. حتى أنت يا دكتور!!! ..
("عادل" والدكتور يبحثان عن
الصرصار في ركن الحمّام مدقِّقين النظر .....)
عادل (يصيح فجأة): انظر .. انظر يا دكتور ..
هذا النمل .. من أين أتى هذا النمل؟! ..
الدكتور (ينظر): نعم .. فصيلةٌ من النمل
تحمله ..
سامية: نمل؟! ..
عادل: نعم .. نملٌ يحمل جُثّة الصرصار ..
تعالي يا "سامية" انظري .. منظرٌ عجیبٌ حقّاً .. جماعةٌ من النمل تحمل
الصرصار وتصعد به الحائط .. انظر يا دكتور .. إنها تتّجه به نحو شقٍ من هذه الشقوق
..
الدكتور (ناظراً متابعاً): هذا ولا شك بيتها
.. أو قريتها .. أو مخزنها الذي ستخزِّن فيه هذه الغنيمة ..
عادل: خُذ بالك من هذه النملة في المقدِّمة
.. أتراها؟! ..
الدكتور: نعم .. إنها تجر الصرصار من شاربه
..
عادل: كما لوْ كان حبل مَرْكِب ..
الدكتور: وهذه الجماعة من النمل في المؤخّرة
.. تدفعه دفعاً من الخلف .. أترى؟ ..
عادل: العمل موزّعٌ بينها بنظامٍ عجيب! ..
الدكتور: والأعجب أنها تصعد بسرعة .. على
الرغم من حِمْلها الثقيل ..
عادل: لم يبقَ بينها وبين الشق أو المخزن غير
مسافةٍ ليست كبيرة .. لكن انظر يا دكتور .. يبدو أن فتحة الشق أصغر من حجم الصرصار
.. كيـف يمكـن إدخاله؟! ..