1984 (12 والأخير)
في كل مرحلة من مراحل سجنه كان ونستون يعرف،
أو يبدو كأنه يعرف، أنه موجود داخل أقبية البناية الخالية من النوافذ، فقد كان يحس
بتغييرات طفيفة في الضغط الجوي، فالزنزانة التي يضربه فيها الحراس كانت تحت سطح
الأرض والغرفة التي استجوبه فيها أوبراين كانت فوق سطح الأرض، وأما الغرفة التي
يقبع فيها حاليًا فتقع في أعماق سحيقة تحت الأرض حيث أعمق نقطة يمكن بلوغها.
كانت هذه الغرفة أكثر اتساعًا من معظم
الزنزانات التي نزل بها. وكل ما لاحظه حوله هو طاولتين صغيرتين موضوعتين أمامه
مباشرة وقد وضع على كل منهما غطاء من نسيج أخضر، تبعد إحداهما عنه متراً أو مترين
أما الأخرى فأبعد من ذلك وأقرب إلى الباب. وأما هو فكان مشدود الوثاق بإحكام إلى
مقعد يجعله عاجزاً عن تحريك أيٍّ من أطرافه فضلاً عن رأسه. كما كان ثمة ما يشبه
الكمادة التي تمسك برأسه من الخلف وتحول بينه وبين الالتفات يسرة أو يمنة.
مضت لحظة غمره فيها شعور بالوحدة، ثم فتح
الباب ليدلف منه أ وبراين.
قال له: «لقد سألتني ذات مرة ماذا في الغرفة
101 وأجبتك بأنك بالفعل تعرف الجواب عن سؤالك، فما من أحد لا يعرف أن في هذه
الغرفة أسوأ ما في العالم».
ثم فُتح الباب ثانية ليدلف منه حارس يحمل
شيئاً مصنوعاً من الأسلاك، لعله صندوق أو سلة من نوع ما. وضعه الحارس فوق الطاولة
الأبعد عن ونستون. ولأن أوبراين كان واقفاً أمامه فقد حجب عنه رؤية هذا الشيء أو
التحقق منه.
وقال أوبراين: «إن أسوأ شيء في العالم يختلف
من شخص إلى شخص، فقد يكون لدى البعض هو الدفن حياً، أو الموت حرقاً أو غرقاً أو
بواسطة الخازوق أو غير ذلك من ألوان الموت الشنيع، ومع ذلك تظل هنالك حالات يكون
فيها أسوأ ما في العالم لدى الشخص هي أشياء تافهة لا تفضي إلى الموت في أغلب
الأحوال».
وتنحى أوبراين جانباً كي يتمكن ونستون من
رؤية أفضل لذلك الشيء الموجود فوق الطاولة، لقد كان قفصاً من الأسلاك، مستطيل
الشكل وله مقبض من أعلى يمكن حمله منه، وقد ثبت في مقدمته شيء بدا مثل قناع
مبارزة. ومع أنه كان يبعد عنه متراً أو مترين فقد استطاع ونستون أن يتبين أن القفص
مقسم طولياً إلى قسمين وفي كل قسم منهما جرذ.
وقال أوبرين: «أتعلم أن أسوأ شيء في العالم
بالنسبة لحالتك هو الجرذان؟»
وسرعان ما سرت في جسد ونستون قشعريرة وتملّكه
خوف لم يعرف سببه بمجرد أن ألقى النظرة الأولى على القفص، ثم لم يكد يفطن إلى ذلك
الشيء الأشبه بقناع المبارزة والمثبت في مقدمة القفص حتى أحس بأن قلبه يغوص بين
ضلوعه وبأن أحشاءه تتقطع.
فصرخ ونستون بصوت متحشرج: «لا يمكنك أن تفعل
ذلك بي! لا يمكنك ذلك! إن هذا لمستحيل».
فقال أوبراين: «هل تذكر نوبة الهلع التي كانت
تنتابك أثناء أحلامك؟ حينما كان يتراءى لك جدار من السواد وتسمع زئيراً في أذنيك،
لقد كان هنالك شيء شنيع على الجاذب الآخر من الجدار، لا بد أنك كنت تعلم ما هو هذا
الشيء ولكنك لم تجسر على الكشف عنه. إنها الجرذان، هي التي كانت على الجانب الآخر
من الجدار».
قال ونستون وهو يحاول جاهداً السيطرة على
صوته: «أوبراين لعلك تعلم أن ما من ضرورة تدعوك لذلك. ماذا تريد مني أن أفعل؟»
لكن أوبراين لم يعطه جواباً مباشراً. وعندما
تكلم كانت لهجته هي لهجة المعلم التي كان يتحدث بها أحياناً، ثم نظر أمامه متأملاً
كما لو أنه يخاطب جمهوراً يجلس خلف ونستون.
وقال: «إن الألم وحده لا يكون دائماً علاجاً
كافياً، فهنالك حالات يمكن للإنسان أن يحتمل الألم فيها ولو أدّى ذلك إلى الموت.
بيد أن هناك شيئاً لا يمكن لأحد كائنًا من كان أن يحتمله بل لا يمكنه حتى التفكير
فيه. إنه شيء تستوي فيه الشجاعة والجبن، فإذا كنت تسقط من ارتفاع شاهق فإنه ليس
جبناً أن تتعلق بحبل، وإذا أخرجت من أعماق المياه فليس من الجبن أن تملأ رئتيك
بالهواء، فهذه الأعمال تتم بالغريزة ومن ثم لا يمكن قمعها. وهذا إنما ينطبق على الجرذان،
فهي بالنسبة إليك أمر لا يحتمل، إنها نوع من الضغط الذي لا يمكنك احتماله حتى إن
أردت ذلك. وحينئذ ستجد نفسك تفعل ما يطلب منك».
فقال ونستون: «ولكنك لم تقل لي ماذا تريد
مني؟ كيف تريدني أن أفعل شيئاً لست أدري ما هو؟»
وحمل أوبراين القفص ووضعه على الطاولة الأقرب.
كان بمقدور ونستون أن يسمع خرير الدم وهو يقرقر في أذنيه، وانتابه شعور بوحدة
قاتلة وخيل إليه أنه في قلب صحراء شاسعة قاحلة يغمرها ضوء الشمس وتتردد في أرجائها
أصداء أصوات الجرذان، كل ذلك رغم أن قفص الجرذان لم يكن يبعد عنه أكثر من مترين.
لقد كانا جرذين ضخمين وفي عمر تصبح فيه الجرذان شرسة ويغبرّ لونها.
وقال أوبراين وكأنه لا يزال يخاطب جمهوراً لا
يُرى: «إن الجرذان، ورغم أنها من القوارض، هي من آكلات اللحوم أيضاً. عليك أن تضع
ذلك نصب عينيك. لا بد أنك سمعت عن الأحداث المؤسفة التي تقع في الأحياء الفقيرة من
هذه المدينة، ففي بعض الشوارع تخشى الأم أن تترك طفلها وحيداً في البيت ولو لخمس
دقائق لأن الجرذان حتماً ستنقض عليه وتحيله في غضون دقائق كومة من العظام، بل إنها
أيضا تهاجم المرضى ومن يحتضرون على فراش الموت، وهي في ذلك تُظهر ذكاء مذهلاً في
معرفة متى يكون الإنسان عاجزاً ولا يستطيع حتى الدفاع عن نفسه».
كانت تنبعث من القفص صرخات حادة خيّل لونستون
أنها تأتيه من مكان بعيد، لقد كان الجرذان يتقاتلان ويحاولان تقطيع السياج الفاصل
بينهما، لقد سمع أيضاً أنات يأس عميق وهي ما بدا له أنها صادرة من خارج نفسه.
وحمل أوبراين القفص ثم ضغط على شيء فيه، فسمع
ونستون طقطقة حادة فراح يحاول بكل ما أوتي من قوة أن يحرر نفسه من القيود التي
تشده إلى المقعد ولكن دون جدوى، فقد كان كل جزء من جسمه من رأسه حتى أخمص قدميه
مقيّداً بشكل لا يسمح له بالحركة. وقرّب أوبراين القفص إلى ونستون حتى أصبح لا يبعد
عنه أكثر من متر واحد.
وقال أوبراين: «لقد ضغطت على المزلاج الأول،
لعلك تفهم آلية عمل هذا القفص، إن القناع سينطبق انطباقاً تاماً على رأسك ولن يترك
لك أي مخرج، وعندما أضغط على المزلاج الثاني سينفتح باب القفص لينطلق منه هذان
الوحشان الضاريان كطلقتين ناريتين. هل سبق لك أن رأيت جرذاً يقفز في الهواء؟ إنه
سيقفز في وجهك ويبدأ في نهشه، وهو أحياناً ينقضّ على العينين أولاً، لكنه في أحيان
أخرى ينخر لنفسه أخاديد في الوجنتين ليلتهم اللسان أولاً».
وأصبح القفص أكثر قرباً من ونستون، وراح يسمع
صرخات حادة متتابعة بدا له أن أصداءها تتردد فوق رأسه، ولكنه قاوم مستميتاً نوبة
الهلع التي استولت عليه، وخلص إلى أن التفكير والتفكير وحده، حتى لو لم يبق أمامه
سوى جزء من الثانية، هو الأمل الوحيد. وفجأة نفذت إلى خياشيمه هذه الرائحة العفنة
النتنة التي تنبعث من الجرذين، فشعر باشمئزاز شديد وكاد يفقد الوعي وجلل السواد كل
شيء حوله، وخيل إليه أن مسّاً من الجنون قد أصابه فراح يصرخ كحيوان يئن. ولكنه خرج
من هذه الأجواء حالكة السواد وقد خطرت له فكرة مفادها أن السبيل الوحيد لإنقاذ
نفسه هي أن يأتي بشخص آخر ويضعه حائلاً بينه وبين الجرذان.
واقترب القناع من وجه ونستون حتى بات يحجب
عنه رؤية أي شيء آخر. وأصبح باب القفص يبعد عنه بأكثر من شبرين وكان الجرذان
يعرفان ما هما مقدمان عليه، فبينما كان أحدهما يقفز في الهواء لأعلى وأسفل كان
الآخر يقف ممسكاً بالقضبان وهو يتشمم الهواء بشيء من الشراسة. كان بمقدور ونستون أن
يرى الشعر الطويل للجرذين وأسنانهما الصفراء. وهنا عاد الرعب الأسود يهز أوصاله
فعمي عليه كل شيء وتملكه شعور باليأس وجمود في التفكير.
وقال أوبراين بطريقته التعليمية التي
اعتادها: «لقد كانت هذه العقوبة شائعة في إمبراطورية الصين القديمة».
واقترب القناع من وجهه حتى لامست الأسلاك
وجنتيه، وهنا تبين له أن هناك أملاً أو حتى بصيصاً من الأمل لكنه ربما جاء بعد
فوات الأوان، فقد أدرك فجأة أن العالم كله ليس فيه سوى شخص واحد يمكن أن يحيل عليه
هذا العقاب، أو جسم واحد يمكنه أن يضعه كحائل بينه وبين الجرذين، وعلى الفور راح يصرخ
كالمجنون:
- افعلوا ذلك بجوليا! افعلوا ذلك بجوليا! ليس
بي وإنما بجوليا! إنني لا أبالي. مزقوا وجهها، انزعوا لحمها حتى تصبح كومة من
العظام ثم كسروا هذه العظام ولكن لا تفعلوا ذلك بي وإنما بجوليا.
وشعر وكأنه يهوي إلى هوة سحيقة بعيداً عن
الجرذين، كان لا يزال مشدوداً إلى المقعد، لكنه كان يشعر أنه يسقط إلى أسفل، عبر
الجدران، عبر المحيطات، عبر الأجواء العليا، ثم شعر أنه يندفع عبر الفضاء الخارجي
وعبر المسافات الفاصلة بين النجوم بعيداً بعيدًا عن الجرذين حتى بات يفصله عنهما
بضع سنوات ضوئية، بيد أن أوبراين كان لا يزال واقفاً بجانبه، وما زال يحس بالأسلاك
الباردة تلامس وجنتيه. ووسط هذه الظلمة الحالكة التي أحاطت به سمع طقة معدنية أخرى
لكنها هذه المرة كانت لإغلاق باب القفص لا لفتحه.
كان مقهى شجرة الكستناء خالياً تقريباً من
مرتاديه، وكانت أشعة الشمس المائلة تخترق نوافذه وتسقط على أسطح الطاولات التي
يغطيها الغبار، بينما تشير الساعة إلى الثالثة ظهراً وهي ساعة الاستراحة الوحيدة
في هذه الفترة، أما شاشة الرصد فراحت تبث مقطوعات موسيقية خفيفة.
جلس ونستون في زاويته المعتادة وهو يحملق في
كأسه الفارغة. وكان من حين لآخر يلقي نظرة خاطفة على الوجه الضخم الذي ينظر إليه
نظرة ثاقبة من الجدار المقابل، وكانت العبارة المعهودة التي تحت الصورة تقول: الأخ
الكبير يراقبك. وجاء الساقي دون أن يطلبه أحد وأترع كأس ونستون بشراب جن النصر
وأضاف إليها قطرات من قنينة أخرى كانت تحتوي على سكرين منكّه برائحة القرنفل وتلك
كانت ميزة المقهى.
وكان ونستون يصغي إلى شاشة الرصد التي كانت
لا تزال تبث مقطوعات موسيقية خفيفة، بيد أنه كان من المحتمل أن تتحول في أية لحظة
إلى بث النشرة الخاصة التي تصدرها وزارة السلام، فقد كانت الأنباء الواردة من
الجبهة الأفريقية أنباء مقلقة وكانت تشغل بال ونستون ليل نهار، فالجيش الأوراسي
(كانت أوقيانيا في حالة حرب مع أوراسيا في ذلك الوقت بل لقد كانت دائماً في حرب
معها) يزحف جنوباً بسرعة مذهلة. ولئن كانت نشرة الظهيرة لم تحدد منطقة بعينها، فإن
الأرجح أن مصب نهر الكونغو كان هو مسرح العمليات، ولذلك كانت برازافيل وليوبولدفيل
في خطر، ولم يكن المرء بحاجة إلى مطالعة الخريطة حتى يدرك الخطر الذي ينطوي عليه
ذلك التطور، لم يكن الأمر يقتصر على فقدان مستعمرات أفريقيا الوسطى فحسب، بل إن
أوقيانيا نفسها، وللمرّة الأولى منذ أن دارت رحى الحرب، قد أصبحت مهددة.
وقد أثارت هذه الأنباء عاطفة متقدة في
ونستون، لم تكن بالطبع الخوف وإنما نوعاً من الاستثارة اللامبالية التي سرعان ما تبددت.
لكن ونستون توقف عن التفكير في الحرب، إذ لم يعد بمقدوره في هذه الأيام أن يركز
ذهنه على الموضوع الواحد لأكثر من لحظات معدودة في كل مرة، فرفع الكأس وازدرد كل
ما فيها جرعة واحدة وكعادته دائماً بعد الشراب كانت تنتابه رعشة خفيفة ويتقيأ
قليلاً، فقد كان شراب الجن هذا من النوع القوي الذي لم يستطع السكرين والقرنفل أن
يلطفا من رائحته القوية الممرضة، بل الأنكى أن هذه الرائحة التي ترافقه ليل نهار
كانت ممتزجة في ذهنه برائحة هؤلاء....
لكنه لم يكن يجرؤ على التلفظ باسمهم أو حتى
تسميتهم في ذهنه بل لم يحاول أن يتصورهم في مخيلته أبداً. كانوا شيئاً غائماً يحوم
حول وجهه وتنفذ رائحته إلى أنفه، ومع تغلغل الشراب في كل أجزاء جسمه راح ونستون
يتجشأ من شفتيه الأرجوانيتين. كان جسم ونستون قد ازداد امتلاء منذ أن أطلقوا سراحه
كما أنه كان قد استعاد لون بشرته القديم. جاءه الساقي، مرة ثانية ودون أن يطلبه
أحد، وهو يحمل رقعة الشطرنج والعدد الأخير من صحيفة التايمز وقد فتحت على صفحة
مسائل الشطرنج، وما إن رأى كاس ونستون فارغة حتى ذهب فأحضر القنينة ثم أترع له
كأسه، لم يكن الساقي بحاجة إلى انتظار أوامر ونستون لأنه كان قد عرف عاداته، فرقعة
الشطرنج في انتظاره دائماً والطاولة في زاوية المقهى كانت محجوزة له، وحتى حينما
كان المقهى يمتلئ بالرواد فانه كان يجلس إليها بمفرده لأنه ما من أحد كان يرغب في
مشاطرته طاولته.
ولم يكن ونستون يبالي بعدد الكؤوس التي
يحتسيها، وإن كان مسؤولو المقهى يقدمون له بين الحين والحين قصاصة ورق قذرة يقولون
إنها فاتورة الحساب، وكان يدفعها وهو يعتقد دائماً أنهم يتساهلون معه في فاتورة
حسابه غير أنه لم يكن ليبالي حتى لو غالوا فيها، إذ كان المال لديه وفيراً في هذه
الأيام حيث كان يشغل وظيفة فخرية (شرفية) تدرّ عليه دخلاً أكبر بكثير مما كان
يتقاضاه لقاء وظيفته القديمة.
توقفت الموسيقى التي كانت تبثها شاشة الرصد
وحل محلها صوت اشرأب ونستون ليصغي له، لكن لم يكن ثمة أنباء من الجبهة، لقد كان
مجرد بيان موجز من وزارة الوفرة جاء فيه أن الخطة الثلاثية العاشرة قد حققت فائضاً
في نصيب الفرد من أربطة الأحذية بنسبة 98%.
وراح ونستون يفكر في حل مسألة الشطرنج ثم صف
القطع وبدأ يحركها، لقد كانت نهاية خادعة فيما يتعلق بالفرسين: «الأبيض يتحرك
فيميت الشاه بحركتين». نظر ونستون متأملاً في صورة الأخ الكبير وقال في نفسه وقد
تملكته نزعة تأملية: إن الأبيض دائماً ينتصر، إنه ينتصر دائماً ودون استثناء وكأن
ذلك مُعدٌّ سلفاً، بل لم يحدث أبداً في تاريخ اللعبة أن فاز الأسود. ألا يرمز هذا
لانتصار قوى الخير دائماً وأبداً على قوى الشر؟
وتوقف الصوت الصادر عن شاشة الرصد لحظة ثم
قال بنبرة مختلفة وأكثر جدية: نحيطكم علما أننا سنذيع نبأ هاماً في تمام الثالثة
والنصف. إنه نبأ في غاية الأهمية، فاحرصوا على ألا يفوتكم سماعه. لا تنسوا الثالثة
والنصف. ثم عادت الشاشة لبث الموسيقى مرة ثانية.
وخفق قلب ونستون، إن ذلك تنويه بالبلاغ
القادم من الجبهة، واستشعر بغريزته أن الأنباء القادمة لن تكون سارة، ولم يكن هاجس
الهزيمة النكراء التي يمنى به جيش أوقيانيا في أفريقيا قد غاب عن ذهنه لحظة واحدة،
بل خيل إليه أنه يرى جيش أوراسيا وهو يجتاح حدود أوقيانيا المنيعة بأعداد هائلة
متراصّة كالنمل ويزحف متوغلاً داخل أفريقيا وتساءل: لماذا لم يكن ممكناً تطويق هذا
الجيش بطريقة أو بأخرى؟ كان الساحل الغربي لأفريقيا واضحاً في ذهنه، وأمسك بالفرس
الأبيض وحرّكه عبر الرقعة، تلك هي النقطة المناسبة. وحتى حينما كان يرى الجحافل
السوداء تزحف جنوباً كان يرى قوة أخرى تتجمع على نحو غامض وتباغت هذه الجحافل
بالانقضاض على مؤخرتها فتقطع خطوط مواصلاتها براً وبحراً. وشعر بأن مجرد رغبته في
حدوث ذلك يمكن أن تأتي بهذه القوة إلى عالم الوجود، ولكن يجب على هذه القوة أن
تتحرك سريعاً، فلو استطاع جيش أوراسيا أن يستولي على أفريقيا برمّتها وإذا أصبح
لديه مطارات وغواصات في رأس الرجاء الصالح، فإن ذلك سيمكنه من تقطيع أوصال
أوقيانيا، ولربما أدى ذلك إلى اندحار أوقيانيا اندحاراً نهائياً وإعادة ترسيم
خريطة العالم والقضاء على الحزب. وأخذ نفساً عميقاً وقد انتابه خليط من المشاعر
الغريبة أو بالأحرى طبقات من المشاعر بعضها فوق بعض بحيث لا يمكن للمرء أن يحدد
أيها فوق وأيها تحت لكنها كانت تتصارع داخله.
وبعد أن زالت عنه هذه النوبة، أعاد الفرس
الأبيض إلى مكانه، لكنه لم يعد قادراً على التركيز في الشطرنج، فقد هامت به أفكاره
مرة أخرى ووجد نفسه ودون أن يشعر يخط بإصبعه على الطاولة التي يعتليها الغبار:
2+2=
لقد قالت له جوليا ذات مرة: «إنهم لا
يستطيعون التغلغل إلى كيانك»، لكن أوبراين قال له: «إن ما يحدث لك هنا سيلازمك إلى
الأبد، وهذا هو القول الصحيح، فما يقترفه المرء من أفعال وما يحدث له من خطوب تظل
ملازمة له ولا يمكنه التخلص من آثارها، إن شيئاً قد قتل داخلك وأحرق ثم عولج موضعه
بالكي».
ولقد رأى جوليا، بل وتكلم معها بعد أن أطلق
سراحهما، فلم يعد ذلك ينطوي على خطورة، فقد أدرك بغريزته أنهم لم يعودوا يعيرون
أفعاله اهتماماً ولذلك كان بوسعه أن يرتب للقاء ثان يجمع بينهما فيما لو شاء
أحدهما أو كلاهما ذلك. فلقاؤهما الأول جاء بمحض الصدفة والذي تم في الحديقة في يوم
من أيام شهر آذار شديدة البرودة حيث كانت الأرض صلبة كالحديد، وأما الحشائش فكانت
شبه ميتة ولم يكن هنالك سوى القليل من براعم الزعفران التي تنتصب في العراء
فتفتتها الريح. وكان ونستون يسرع الخطى وقد تجمدت يداه ودمعت عيناه من شدة الريح
عندما رآها على مسافة عشرة أمتار، هاله أنها تغيرت على نحو غير محدد، ومر كل منهما
بالآخر دونما حتى إشارة، لكنه استدار وتبعها لأنه كان يعرف أن لا خطر في ذلك، وما
من أحد عاد يهتم بهما. لكنها ظلت صامتة وتابعت سيرها عبر الحشائش من دون أن تعيره
اهتماماً، ثم بدت بعدئذ وكأنها تبطئ من خطوها حتى تتيح له اللحاق بها وكانا قد
بلغا آنذاك مجموعة من الأشجار العارية التي لم تكن تصلح للاختفاء أو الاحتماء بها
من الريح. وأخيراً توقفا، وكان الجو قارس البرودة والريح تُحدث حفيفاً بين الأغصان
وتمزق البراعم الصغيرة، فاقترب منها ونستون وأحاط خصرها بذراعه.
لم يكن ثمة شاشات رصد، بيد أنه كان من المؤكد
وجود مكبرات صوت مخفاة كما كان من السهولة أن يراهما أحد المارة ولكنه لم يكن يعير
أيا من ذلك أدنى اعتبار، فقد كان في استطاعتهما أن يتخذا من الأرض فراشا إذا رغبا
أن يعاودا اتصالهما الجنسي، واقشعر جسده عندما خطر بباله ذلك الشيء. لكن جوليا لم
تتجاوب معه حين أحاط خصرها بذراعه كما أنها لم تحاول تخليص نفسها منه وحينئذ أدرك
كنه التغير الذي طرأ عليها، كان وجهها قد أصبح أكثر شحوباً وظهرت به ندبة طولية
أسدلت شعرها على جزء منها، بيد أن ذلك لم يكن هو كل ما تغير فيها، فقد أصبح خصرها
أكثر امتلاء وتيبّساً، وعلى الفور تذكر كيف أنه وعقب إحدى غارات القصف الصاروخي
كان قد ساعد في انتشال إحدى الجثث من تحت الأنقاض وهاله ثقلها وتيبسها غير
الطبيعيين وهو الأمر الذي جعلها تبدو أقرب للحجر منها للّحم. وأحس ونستون بأن جسم
جوليا الذي يطوقه بذراعه قد أصبح أشبه بتلك الجثة، كما شعر بأن نسيج جلدها قد بات
مختلفاً كلية عما كان عليه من قبل.
لم يحاول ونستون تقبيلها، كما لم ينبس أحدهما
بكلمة. وعندما عاودا السير فوق العشب الأخضر نظرت إليه مباشرة لأول مرة، وكانت
نظرة ملؤها الازدراء والكراهية. لكن ونستون لم يكن يدر هل كانت هذه الكراهية نابعة
مما تنوء به من ذكريات ماضية أو كان مبعثها هو وجهه المنتفخ وعيناه الدامعتان بسبب
الريح البارد. وجلسا على مقعدين حديديين، جنباً إلى جنب لكن دون أن يقترب أحدهما
من الأخر وكانت كلما همّت بالكلام تراجعت وسَحقت، بدلاً من ذلك، بقدمها غصناً
يابساً.
وقالت غير مكترثة: «لقد خنتك».
فقال لها: «وأنا أيضا خنتك».
ورمقته بنظرة أخرى مفعمة بالكراهية، ثم قالت:
- إنهم يهددونك أحياناً بشيء لا يمكن احتماله
ولا يمكن حتى تخيّله. وحينئذ تقول: لا تفعلوا ذلك بي بل افعلوه بأي شخص آخر. وقد
تدّعي فيما بعد بأن ذلك كان مجرد حيلة لجعلهم يكفون عن تعذيبك وأنك لم تكن تعني ما
تقول في واقع الأمر. لكن ذلك لم يكن صحيحاً، ففي ذلك الوقت كنت تعني ما تقول، وكنت
تظن أن لا منجى لك إلا بهذا السبيل، وكنت على استعداد لسلوكه ما دامت نجاتك فيه،
ولا تأبه بما سيترتب على ذلك من معاناة لغيرك. فكل ما يهمك هو نفسك وحسب.
فقال مردداً وراءها كرجع الصدى: «كل ما يهمك
هو نفسك وحسب».
ومضت جوليا تقول: «وبعد ذلك فإنك لا تعود
تشعر المشاعر نفسها التي كنت تكنّها من قبل لهذا الشخص الآخر».
فقال مردداً كرجع الصدى: «لا، إنك لا تعود تشعر
المشاعر نفسها».
وبدا لهما أنه لم يعد لديهما ما يمكن الكلام
عنه. وعادت الريح تعصف بهما، وشعرا بالضيق من جلوسهما صامتين، فضلاً عن أن جلوسهما
دون حراك كاد يجمد أطرافهما من فرط البرد، ولذلك نهضت جوليا لتنصرف متعللة بأنها
تريد اللحاق بالقطار.
فقال ونستون: «يجب أن نلتقي ثانية».
فقالت: «أجل، يجب أن نلتقي ثانية».
وتبعها متردداً وهو يقدم رِجْلاً ويؤخر أخرى،
وسار في أثرها مسافة قليلة، لكنهما لم يتبادلا الحديث مرة أخرى، ومع أنها لم تحاول
التخلص منه فإنها أسرعت الخطى حتى لا تمكنه من السير إلى جانبها وكان قد عقد العزم
على مرافقتها حتى تصل إلى محطة القطار، ولكن بدا له أن هذا التعقب وسط هذا البرد
القارس أمر فيه رعونة وغير محتمل. وعندئذ تملّكته رغبة عارمة في الكف عن متابعة
جوليا والعودة إلى مقهى شجرة الكستناء الذي لم يسبق أن شعر نحوه بمثل الانجذاب
الذي شعره في تلك اللحظة، لقد أحس بالحنين إلى طاولته التي في الزاوية وفوقها
الصحيفة ورقعة الشطرنج وكأس الجن المترعة دائماً. وسرعان ما تلكأ في سيره حتى حال
بينه وبينها مجموعة من المارة، غير أنه عاد وبذل محاولة مترددة للحاق بها مرة
أخرى، لكنه عدل عن ذلك وارتدّ منطلقاً في الاتجاه المعاكس. وبعد أن صار يفصله عنها
خمسون متراً تطلّع خلفه فوجد أنه لم يعد يميزها من المارة رغم أن الشارع لم يكن
مزدحماً، وأصبح من المحتمل أن تكون هي أي واحدة من عشرات السائرين في الشارع، حيث
بات يتعذر عليه تمييزها من الخلف بعد أن غدا جسمها أكثر امتلاء وتيبسًا.
وتذكر قولها: حينما كانوا يعذبونك كنت تعني
ما تقول. ورأى أنها أصابت القول، فهو لم يكتفِ بقول ذلك وحسب، وإنما تمنى حدوثه
أيضاً، فقد تمنى لو أنها هي لا هو التي عُرِضت للجرذان.
وكان قد دلف إلى المقهى في تلك اللحظة وأخذ
مقعده المعهود وراح يصغي إلى شاشة الرصد حيث كان ثمة تغيير قد طرأ على الموسيقى
التي تبثها تمثّل في نغمة تهكمية هازئة بدأت تتخللها، ثم سمع صوتاً لم يدرِ إن كان
من وحي ذاكرته أم من شاشة الرصد، فقد سمع صوتاً يشدو:
تحت شجرة الكستناء ذات الأغصان الوارقة
بعتك وبعتني !!
واغرورقت عيناه بالدموع ولاحظ الساقي أن كأسه
فارغه فرجع له بقنينة الجن.
رفع ونستون كأسه وراح يفرغها في جوفه، وكانت
رائحتها الكريهة تزداد سوءاً مع كل جرعة ولكنها مع ذلك كانت سلواه الوحيدة، فقد
باتت هي حياته ومماته وسلواه، فعليها ينام كل ليلة نومة المخدور وعليها يستيقظ كل
صباح. وحينما يستيقظ كل صباح، وقلما يكون ذلك قبل الساعة الحادية عشرة ويجد جفونه
ملتصقة ببعضها ويحس بالتهاب في حلقه وألم حاد في ظهره، كان من المستحيل أن يرفع
ظهره لولا قنينة الجن والكأس الموضوعتين بجانب سريره. وخلال ساعات النهار كان يجلس
وعلى وجهه علامات الوجوم، والقنينة في متناول يده، مصغياً لما تقوله شاشة الرصد.
وبدءاً من الساعة الثالثة عصراً حتى ساعة إغلاق المقهى كان ونستون بمثابة قطعة
أثاث في مقهى شجرة الكستناء، لم يعد أحد يأبه بوجوده أو يكترث لما يفعل، كما لم
يعد دويّ الصافرات يوقظه من سباته، وما عاد يزعجه ما يصدر عن شاشة الرصد من صوت.
لكنه كان أحياناً، ربما مرتين في الأسبوع، يتوجه إلى مكتب مغطى بالغبار يكاد يكون
منسياً في وزارة الحقيقة حيث يؤدي عملاً قليلاً أو ما كان يسمى عمل، إذ كان قد
عُيِّن في عضوية لجنة فرعية منبثقة عن لجنة فرعية كانت بدورها قد انبثقت عن عدد لا
حصر له من لجان شُكِّلت لمعالجة الصعوبات الطفيفة التي تعترض عملية تصنيف الطبعة
الحادية عشرة من قاموس اللغة الجديدة. وكان أعضاء هذه اللجان يعكفون على إعداد ما
سمي ب «التقرير المؤقت»، أما حول أي موضوع كانوا يعدون هذا التقرير، فذلك أمر لم
يدركه أحد على وجه التحقيق أبداً، فقد كان شيئاً يتعلق بما إذا كان يجب وضع
الفاصلة بداخل الأقواس أو خارجها. وكان يشاركه بهذه اللجنة أربعة أعضاء آخرون
حالهم مثل حاله. وكانت تمر أيام يجتمعون فيها ثم ينفضّون ثانية كما اجتمعوا ويفضي
بعضهم إلى بعض بكل صراحة بأن ليس هناك ما يمكن عمله، إلّا أنهم في أيام أخر كانوا
ينكبّون على عملهم، وقد اعتراهم حماس وتوقّد، ويتظاهرون بأنهم يُدخلون التعديلات
التي تمخضت عنها اجتماعاتهم السابقة ويعدون مسودات لمذكرات مطوّلة لا تنتهي أبداً،
ثم يحتدم النقاش فيما بينهم حول ما يفترض أنهم يتناقشون حوله حتى يصبح مبهماً،
وتشوب حديثهم مماحكات وخلافات غير واضحة حول التعريفات ويخرجون كثيرا عن الموضوع
ثم يتشاجرون ويهدد بعضهم بعضاً برفع الأمر برمته إلى السلطات العليا. ثم فجأة
يدخلون في حالة من الصمت بعدما تكون طاقاتهم قد استنفدت، فيتحلقون حول الطاولة
وكأنهم أشباح وهم ينظرون إلى بعضهم نظرات شاخصة تتلاشى مع صياح الديكة.
ظلت شاشة الرصد صامتة للحظة، فأرهف ونستون
السمع لعله يكون في ذلك إشارة إلى قرب موعد نشرة الأنباء، ولكن خاب رجاؤه، فقد كان
ذلك مجرد تغيير للموسيقى. وتراءت أمام ناظريه خريطة أفريقيا، وكانت تحركات الجيوش
عليها تأخذ أشكالا هندسية، فهناك سهم أسود ينطلق رأسيًا إلى الجنوب، وآخر أبيض
ينطلق أفقياً إلى الشرق ويقطع مؤخرة السهم الأول. وكأنما أراد ونستون أن يبث في
نفسه شيئاً من الطمأنينة، فرفع رأسه وتطلّع إلى الوجه رابط الجأش الذي بالصورة
ومضى يتساءل: هل من المعقول ألا يكون للسهم الثاني وجود على الإطلاق؟
لكن اهتمامه بذلك فتر مرة أخرى، فازدرد جرعة
أخرى من الجن، والتقط قطعة شطرنج هي الفرس الأبيض وقام بتحريكها حركة ارتجالية ثم
أدرك أنها لم تكن حركة صحيحة.
وفجأة ومن دون مبرر جاشت الذكرى في ذهنه مرة
أخرى، فرأى غرفة مضاءة بالشموع وفيها سرير ضخم، بينما كان هو في سن التاسعة أو
العاشرة يجلس على الأرض ويلعب بحجر النرد ويضحك ضحكا هستيرياً فيما أمه تجلس
قبالته وتضحك هي الأخرى.
لا بد أن ذلك كان قد وقع قبل أن تختفي أمه
بشهر واحد، لقد كانت لحظة من لحظات الوئام التي ينسى فيها ألم الجوع الذي ينهش
أحشاءه ويعاوده فيها حبه لأمه. إنه يذكر ذلك اليوم جيداً، لقد كان يوماً عاصفاً
ماطراً حيث كان الماء يجري فوق زجاج النافذة من الخارج بينما كان الضوء داخل
الشرفة خافتاً بحيث تتعذر القراءة، وكانت حالة الضجر التي تملكت الطفلين وهما وسط
هذه العتمة قد باتت لا تطاق، فراح ونستون يتأوه وينتحب وهو يطالب بالطعام دون
جدوى، ثم أخذ يحور ويدور في الغرفة وهو يركل أسفل الحائط بقدميه حتى ضج الجيران
واحتجوا على ذلك الصخب، بينما انخرطت الطفلة الصغيرة في البكاء على نحو متقطع.
وأخيراً نطقت أمه قائلة: «كن لطيفاً وسأشتري لك لعبة، لعبة جميلة ستحبها». وعندئذ
خرجت من المنزل تحت زخات المطر ومضت إلى حانوت صغير كان لا يزال مفتوحاً بالقرب
منهم ثم عادت إليه بعلبة من الكرتون تحتوي على أدوات لعبة السلم والثعبان. وهو لا
يزال يذكر رائحة الكرتون الرطب الذي صنعت منه اللعبة، لقد كانت أدوات اللعبة في
حالة مزرية، فاللوح مشقق وحَجَرا النرد المصنوعان من الخشب كانا غير منتظمين في
تقطيعهما. نظر ونستون إلى اللعبة نظرة عابسة وبلا أدنى اهتمام، وعندئذ أضاءت أمه
شمعة وجلسا على الأرض معاً وراحا يلعبان. وسرعان ما انخرط ونستون في ضحك صاخب
حينما رأى الثعبان يتسلق السلم حتى يسقط ثم يعيد الكرة ثانية وهكذا دواليك. وقد
لعبا ثمانية أشواط فاز كل منهما بأربعة. وأما أخته الصغيرة فقد جلست تحدق في
الوسادة وراحت تضحك، ليس لأنها تفهم ما يجري أمامها وإنما لأن أمها وأخاها يضحكان.
وهكذا أمضى أمسية هانئة مثل تلك التي كان يمضيها في طفولته الأولى.
ولكن ونستون أقصى هذه الذكرى عن ذهنه لأنها
كانت ذكرى زائفة من تلك الذكريات التي تقضّ مضجعه بين الحين والأخر، فبعضها يتعلق
بأشياء وقعت والبعض الآخر يتعلق بأشياء لم تقع على الإطلاق. ثم التفت إلى رقعة
الشطرنج والتقط الفرس الأبيض مرة أخرى، ولكنه لم يكد يفعل حتى سقط الفرس من يده
محدثاً صوتاً عالياً، أما هو فقد انتفض كما لو أن دبوساً قد غُرزَ في لحمه.
وشق نفيرُ بوق عنان السماء، لقد جاءت النشرة
أخيراً. إنه النصر، فقد كان نفير البوق يعني حينما يسبق الأنباء أن نصراً تحقق،
وسرى ما يشبه الصدمة الكهربية في جميع رواد المقهى، حتى السقاة تسمروا في أماكنهم
وأصاخوا السمع.
كان نفير البوق قد أعقبته جلبة وضجيج من
الحضور، كما كان ثمة صوت يدوي من شاشة الرصد، لكن الأصوات الهادرة التي انبعثت من
الحناجر طغت عليه. وسرت الأنباء بين الناس من شارع إلى شارع سريان النار في
الهشيم، ومع ذلك تناهت إلى سمع ونستون بعض العبارات التي تحقق من خلالها أن الأمور
قد سارت تماماً على النحو الذي تصوره، فقد عرف أن أسطولاً ضخماً تم حشده في سرية
تامة قد أصاب مؤخرة العدو إصابة قاتلة، لقد قطع السهم الأبيض مؤخرة السهم الأسود.
واستطاع ونستون أن يلتقط بعض العبارات من هذا الضجيج:
«كانت مناورة استراتيجية بارعة - تم تحقيق
الانسجام التام بين القنوات - اندحار تام للعدو - نصف مليون أسير- بسط السيطرة على
كامل أفريقيا - الحرب قاب قوسين أو أدنى من نهايتها - إنه أعظم نصر عرفه تاريخ
البشرية... النصر، النصر، النصر!»
وبدأت قدما ونستون تقومان بحركات لا إرادية،
ومع أنه لم يقم من مقعده إلا أن عقله كان يركض ويركض بسرعة، لقد تخيل نفسه يركض في
الخارج مع الجماهير التي كان هتافها يصم الآذان، وتطلّع ونستون مرة أخرى إلى صورة
الأخ الكبير الذي كان يقف كالطود الشامخ والعالم تحت قدميه! إنه الصخرة التي
ارتطمت بها الجحافل الزاحفة من آسيا فخارت قواها! وراح ونستون يفكر كيف أنه منذ
عشر دقائق فقط، كان قلبه لا يزال حائرا حول ما إذا كانت أنباء الجبهة ستأتي بالنصر
أم بالهزيمة. لقد تغير كثيراً منذ اليوم الأول الذي وطأت فيه قدماه وزارة الحب،
ومع ذلك فإن التغير النهائي الذي لا مناص منه لم يتحقق حتى هذه اللحظة.
كان الصوت الصادر عن شاشة الرصد لا يزال يروي
قصة الأسرى والغنائم والمذابح، ولكن كان الهتاف الذي في الخارج قد هدأت حدته، وبدأ
السقاة يعودون إلى أعمالهم، واتجه أحدهم صوب ونستون وملأ له كأسه. لكن ونستون لم
ينتبه لذلك فقد كان يحلّق في سماء حلم بهيج، لم يكن فيه يركض مع الراكضين أو يهتف
مع الهاتفين، وإنما عاد فيه إلى وزارة الحب وقد غفروا له ما تقدم من ذنب وصفت روحه
حتى أصبحت كالثلج الأبيض. ثم تصور نفسه ماثلاً في قفص الاتهام أمام الجماهير وهو
يعترف بكل صغيرة وكبيرة ويشي بكل شخص يعرفه. وسرعان ما رأى نفسه يجتاز الممر
المكسو بالقرميد الأبيض، ويتملكه شعور بأنه يسير في ضوء الشمس فيما كان يسير حارس
مسلح خلفه، وحينئذ جاءته تلك الرصاصة، الأمل الذي طال انتظاره، لتمزق دماغه.
حدق ونستون في الوجه الضخم، لقد استغرق الأمر
منه أربعين سنة حتى فهم معنى الابتسامة التي كان يخفيها الأخ الكبير تحت شاربيه
الأسودين وقال في نفسه: أي غشاوة قاسية لم يكن لها داع تلك التي رانت على فهمي،
وعلام كان العناد والنأي من جانبي عن هذا الصدر الحنون. وانسالت دمعتان سخيّتان
على جانبي أنفه. وكان لسان حاله يقول: لكن لا بأس، لا بأس فقد انتهى النضال، وها
قد انتصرتُ على نفسي وصرتُ أحب الأخ الكبير.