الفصل الثالث (3)
وإذا نظرنا إلى قطرة الماء الذي نشربه تحت
الميكرسكوب لوجدنا فيها أشياءً عجيبة .. سنجد أشياءً فيها حياةٌ ولها حركةٌ ولها
كيانٌ ولها دوْرٌ في الحياة .. ولكننا لم نكن نعرف منذ فترةٍ قصيرةٍ أن هذه
الأشياء موجودة .. فهل كان هذا شهادةً بعدم وجودها أم أنها كانت في الحقيقة موجودة
ولكننا لا ندرك هذا الوجود؟
فإذا انتقلنا إلى الكوْن كله .. وجدناه يشهد
أن الوجـود شيءٌ وإدراك الوجود شيءٌ آخر تماماً .. وأن ما لا ندرك وجوده يؤدّي مهمّته
في الكون . فلننظر مثلاً إلى الأقمار الصناعيّة والإرسال التليفزيوني .. هل كان
أحدٌ يعرف أن ما يقع في مكانٍ ما في العالَم يستطيع العالَم كله أن يشهده وفي نفس
لحظة حدوثه؟ .. طبعاً لم يكن أحد يعرف ذلك.
ثم كشف الله - سبحانه وتعالى - لنا من عِلمه
ما مكننا من أن نعرف من الخصائص ما هو موجودٌ في الكوْن وما يمكن أن يجعل الإنسان
في كل الدنيا يرى ويشهد ما يقع في مكانٍ ما وقت حدوثه .. ويرى الإنسان وهو ينزل
على القمر ويمشي فوقه.
كيف توصّل الإنسان إلى هذا التقدّم العلمي؟
.. هل اخترع غلافاً جويّاً يستطيع أن ينقل الصور؟ .. هل جاء بموادٍ من خارج الأرض؟
.. أو جاء بموادٍ من خارج خَلْق الله ليصنع منها الأقمار الصناعية التي حققت هذه
الاتصالات؟ .. طبعاً لا .. ولا يستطيع أن يقول ولا حتى أكبر الماديين أن هذه
الخصائص التي استُخدِمَت قد أوْجدها الإنسان وخَلَقـهـا .. ولكن الغلاف الجوي
والمواد في الأرض موجودةٌ منذ خَلَقَ الله الأرض ومَن عليها ولكن خصائصها كانت غيْبا
عَنّا .. وعندما جاءت مشيئة الله لتكشفها لنا وجدنا شيئاً عجباً فاستخدمناه
فأعطانا ما نحن فيه من تقدُّمٍ علمي .. أيستطيع أحدٌ أن ينكر خصائص الكون وأنها
كانت موجودة قبل أن يعلّمنا الله كيف نستخدمها وفيمَ نستخدمها؟ .. لا يستطيع أي
مكابرٍ أن يقول إنها لم تكن موجودة .. بل كانت موجودةً ولكنها غيْبٌ عنّا .. فلما
أرادنا الله أن نعلمها كشفها لنا لنعلم أن ما هو غيْبٌ موجود .. رغم أننا لم نكن
ندرك وجوده.
فإذا نظرنا إلى ما في السماوات .. نجد أننا
كلما استطعنا أن نصنع ميكرسكوباً أضخم وأقوى .. استطعنا أن نكشف أجراماً سماويّةً
جديدةً ونراها لأوّل مرّة .. هل كانت هذه الأجرام التي - لم نكن نعرف عنها شيئاً -
غير موجودة؟ .. أو لم تكن تؤدى مهمّتها في الكوْن؟ .. كانت موجودةً وكانت تؤدّي
مهمّتها في الكوْن .. ولكن الله - سبحانه وتعالى - أخفى وجودها عنّا إلى أجلٍ حدّده
.. فلما جاء الأجل كشف لنا هذا الوجود فعرفناه حتى نعلم أن ما هو غيْبٌ عنّا موجودٌ
يؤدّي مهمّته في الكوْن ولوْ لم ندرك وجوده.
حيـاة البشـر ووجود الخالق
بل إن الله - سبحانه وتعالى - أراد أن تكون
الحياة الإنسانيّة كلها شاهدةً على أن الغيْب موجود .. أرادنا أن نكون شهداءً على
أنفسنا حتى لا نأتي يوْم القيامة ونقول: يارب لم تعطِنا الدليل العقلي على أن ما
هو غيْبٌ عنّا موجودٌ فضَلَّت عقولنا .. يارب لو أعطيْتنا الدليل لكنّا آمنّا .. ولذلك جاءت حياة البشر كلها شاهدةً على ذلك،
فالله - سبحانه وتعالى - أعطى الإنسان وحده القدرة على أن يرث الحضارة ويضيف عليها
.. في حين سلب ذلك من كل مخلوقاته .. ولذلك ترى أن حياة الحيوان مثلاً كما هي منذ
بدء الخليقة لم تتقدّم .. فلم نسمع عن أن مجموعةً من القرود مثلاً قد عقدت
اجتماعاً لترتقي بوسائل حياتها .. وتبني لنفسها أماكن مكيّفة الهواء تقيها حرارة
الجوْ في المناطق الاستوائيّة .. إننا لم نسمع أن مـجـمـوعـةً من الحيوانات القطبيّة
قد جلست معاً لتخترع وسائل تدفئةٍ تقيها برد الشتاء القارس الذي يبيدها ويفنيها
ويجعلها تتضوّر جوعاً .. ولم نسمع عن مجموعةٍ من الحيوانات جلست تتداول للوصول إلى
دواءٍ لمرضٍ يفتك بها .. أو للوصول إلى مبيدٍ لحشرةٍ تنقل لها الأمراض .. بل الرُقي
في حياة الحيوان أو النبات الذي يضعه هو العقل البشري.
ولكن الإنسان مختلفٌ عن ذلك تماماً .. فالعقل
البشري قد أعطاه الله - سبحانه وتعالى - ميزة وراثة الحضارة البشريّة .. فكل جيلٍ
يبدأ حياته من حيْث انتهى الجيل الذي قبله .. ثم يضيف إليها .. وقدرة العقل البشري
على استيعاب التقدُّم العلمي لا حدود لها .. ولذلك فإن كل جيلٍ من البشر يعرف
شيئاً كان غيْباً عن الجيل الذي قبله .. وكل جيلٍ من البشر يتيح - سبحانه وتعالى -
له من أسرار ما وضعه في كوْنه ومن قوانين هذا الكوْن ما لم يُتَح للجيل الذي قبله.
وإذا كان هذا الجيل هو جيل الكمـبـيـوتر مثلاً
.. فإن الجيل القادم سيكشف الله له مِن أسرار هذا الكون مـا يعطيـه علمـاً يـجـعـل
أجـهـزة الكمبيوتر الحالية شيئاً من مخلّفات الماضي .. وهكذا ترتقي الحضارات.
وكلّما تقدَّم الزمن كانت سرعة ارتقاء
الحضارات البشريّة أكبر .. لأن إضافاتٍ مستمرةً تحدث لهذه الحضارات .. وكل إضافةٍ
تفتح الطريق أمام إضافةٍ أكبر.
لماذا أعطى الله - سبحانه وتعالى - البشريّة
وحـدها هذه القدرة على الرُقي الإنساني؟ .. لنعرف جـمـيـعـاً ونحن الذين أُعطيْنا
الاختيار في أن نؤمن أو لا نؤمن .. لنعرف جميعاً أن الجمود الفعلي في أن ما هو غيْبٌ
عنّا غير موجودٍ هو خُرافة .. ونحس في حياتنا كل يوم بأن هناك ما كان غيْباً عنّا أصبح
الآن واقعاً معلوماً .. ونرى المعجزة تحدث أمام أعيننا مرّاتٍ ومرّات .. ونشهدها
برؤية اليقين .. عَلّنا نتدبَّر ونفكِّر قليلاً، فنعلم أن الله - سبحانه وتعالى -
بحكمته ورحمته .. قد أعطانا الدليل المادي على أن ما هو غيْبٌ عنّا موجود.
فإذا أخبرنا بغيْبٍ لا ننكره .. ولكننا نؤمن
بوجـوده .. وبأن قـدراتنا الحالية لا تصل إليه ولكنها قد تصل إليه في المستقبل ..
وفي ذلك يلفتنا القرآن الكريم في قوْله تعالى: "سَنُريهِم آياتِنا في الآفاقِ
وفي أَنْفُسِهِم حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ الحَق" (الآية 53 من سورة "فصّلت")
.. ونعرف معنى قوْل الله سبحانه وتعالى: "حَتّى إذا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَها
وازَّيَنَتْ وظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُم قادِرونَ عَلَيْها أتاها أَمْرُنا لَيْلاً
ونَهاراً فَجَعَلْناها حَصيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بالأَمْس، كَذَلِكَ نُفَضِّلُ
الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرون" (الآية 24 من سورة "يونس").
وهكذا - ونحن نراقب مسيرة الحضارة البشريّة -
نعلم أن الله قد أخبرنا أن هذه الحضارة سترتقي وترتقي بما يكشفه الله لنا من
قوانين هذا الكوْن حتى نظن أننا قادرون على أن نفعل مـا نشـاء في الأرض .. وهذا
الظن ليس حقيقةً ولكنّه مجرّد ظن .. لأن الله الذي كشف لنا هذه القوانين لم يُخضِعها
لإرادتنا .. ولكنه سبحانه سخّرها لنا فقط لنفعل بها ما نشاء .. فـإذا اغتـر
الإنسان واعـتـقـد أن هذه القوانين من صُنعه .. أو أنه أخضعها بذاتيّة عِلمه وبدون
أَمْر الله تبارك وتعالى .. يأمر الله - سبحانه وتعالى - هذه القوانين أن تخرج عن
أمر الإنسان فتدمّره وتقوم الساعة.
الله أخبرنا بكنوز الأرض
وإذا كنا نريد أن نتحدّث عن دليلٍ غيْبيٍ آخر
يُزيد من الأدِلة العقليّة التي تُثبِت وجود الله فلابد أن نقرأ قوْله تعالى: "لَهُ
ما في السَماواتِ وما في الأَرْضِ وما بيْنَهُما وما تَحْتَ الثَّرَى" (الآية
6 من سورة "طه") .. فلوْ قرأنا هذه الآية التي نزلت منذ أكثر من أربعة
عشر قرناً .. لعلمنا أن أحداً لم يكن يدرى شيئاً ولفترةٍ طويلةٍ عن معنى قوْله
تعالى: "وما تحت الثرى" .. فقد كان كل ما تحت الثرى أو تحت التُراب أو
في باطن الأرض غيْباً عنّا ثم أراد الله سبحانه وتعالى .. أن يكشف لنا أن ما هو غيْبٌ
عنّا موجودٌ وإن لم نكن ندري بوجوده .. فكشف لنا ما تحت الثرى .. فوجدنا أن ما تحت
الأرض يحتوى على كنوزٍ رهيبة .. وجدنا البترول والذهب والمعادن والحديد وأشياءً
نفيسة .. ووجدنا المياه الجوفية .. ووجدنا عالَماً هائلاً يحتوى على موادٍ لم نكن
نعلم بوجودها ولا نعرف شيئاً عنها .. وهكذا أعطانا الحق - سبحانه وتعالى - دليلاً
آخر على أن ما هو غيْبٌ عنّا موجود .. وإن كنا لا ندرك وجوده .. فلا أحد في هذه
الدنيا يستطيع أن يدّعي أنه هو الذي أوْجد ما في باطن الأرض من كنوز .. ولا أحد
مهما بلغ علمه ولا عُلماء الأرض مجتمعين يستطيعون أن يدّعوا أنهم هم الذين أوْجدوا
هذه البحيْرات الهائلة من البترول .. أو هذه المعادن النفيسة كالذهب والفضة .. أو
الماس أو النحاس أو الحديد أو الألومونيوم أو غيرها.
بل إن هناك كنوزاً تحت الثرى مختفيةٌ عن
أعيننا تفوق الكنوز التي هي ظاهرةٌ لأعيننا فوق سطح الأرض .. وهذه الكنوز لم تأتِ
من عَدَمٍ ولم توجد في السنوات الأخيرة .. بل كانت موجودةً في باطن الأرض منذ أن
خلقها الله سبحانه وتعالى .. ولكنها كانت غيْباً عنّا فلم نكن نعرف بوجودها.
حينئذٍ نكون قد وصلنا إلى أن الله - سبحانه
وتعالى - قد أعطانا من الأدلة الماديّة والعقليّة ما يؤكِّد لنا أن ما هو غيْبٌ عنّا
موجودٌ وإن لم نكن ندرك وجوده.
فإذا حدّثنا الله - سبحانه وتعالى - عمّا هو
غيْبٌ عنّا كالآخرة والحساب والجنّة والنار .. لا نقول إن الله يخاطبنا بما لا
نستطيع أن تدركه عقولنا وأننا لا نستطيع تصديق ذلك .. بل نعود إلى واقع الكوْن ..
ونتأمّل ما فيه من آيات .. وما وضعه الله لنا فيه من دلائل .. ولو أننا تدبّرنا
لقلنا: يارب لقد أعطيْتنا - مع الدليل الإيماني - الدليل الفعلي الذي يُقرِّب الصورة
إلى أذهاننا حتى ندركها، وليس لنا عُذرٌ يارب يوم الحساب في أن نقول إن عـقـولنا
لم تدرك، لأنك وضعت في كوْنك الأدلة الماديّة التي تُثبِت أن الغيْبَ واقعٌ
ومـوجـود .. وكـان يجب أن تكون هذه الأدلة هي طريقنا إلى الإيمان .. لا طريقنا إلى
الكُفر والإلحاد.
على أننا سننتـقـل بعـد ذلك إلى الآيات
الأرضـيـّة التي أراد الله - سبحانه وتعالى - أن يلفتنا بها إلى أنه لا إله إلّا
هو الخالق والموجِـد والقادر.