الفصل الثالث (2)
ثم نأتي بعد ذلك إلى دليلٍ آخر .. عندما تحوّلت
القِبلة من "بيت المقدس" إلى "الكعبة" المشرَّفة .. نزل
القرآن يقول: "سَيَقولُ السُفَهاءُ مِنَ الناسِ ما وَلّاهُم عَنْ قِبْلَتِهِمُ
التي كانوا عَليْها" (من الآية 142 من سورة "البقرة") .. واستخدام
حرف السين هنا دليلٌ على أن الأمر لم يحدث بعد .. ولو أنه حدث لقال الله سبحانه
وتعالى: "قال السفهاء" .. ولكن قوْله تعالى: "سيقول" دليلٌ
على أن ذلك سيـحـدث مـسـتـقبَـلاً .. والآية نزلت في غير المؤمنين وتُليَت عليهم
قبل أن يقولوا .. ولو أنهم فكّروا قليلاً لسكتوا ولم يقولوا شيئاً .. وحينئذٍ كان
الناس سيتساءلون عن قوْل الله ويقولون: لم يأتِ هؤلاء الذين وصـفـهم الله بالسُـفـهـاء
الذين يقولون "مـاولّاهـم عن قِـبـلتـهم" .. ولكنهم رغم أنهم يريدون هَدْم
الدين .. ورغم أن الدليل المادي لهدم قضيّة الإيمان وُضِع في أيديهم إلّا إنه لم
يخطر على بالهم أن يمتنعوا عن القوْل .. بل جاءوا وقالوا .. لنعلم أن أمر الله وغيْب
الله لابد أن ينفذا مهما كانت هناك إرادةٌ بشريّة.
الحق - سبحانه وتعالى - أعطانا الدليل المادي
على صِدق قوْله سبحانه وتعالى: "وَاعْلَموا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما في أَنْفُسِكُمْ
فاحْذَروه" (من الاية 235 من سورة "البقرة").
وهذا هو الدليل
فالذين لا يؤمنون لا يصدِّقون هذا الكلام ..
ويقولون: أين الدليل العقلي على ذلك؟ .. نقول: إن الدليل العقلي موجود .. فالله - سبحانه
وتعالى - أنزل في القرآن الكريم الدليل على أنه يعلم ما في النفس وما يدور فيها ..
اقرأ قوْل الحق سبحانه وتعالى: "إذا جاءَكَ المُنافِقونَ قالوا نَشْهَدُ إنَّكَ
لَرَسولُ الله، والله يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسولُه، واللهُ يَشْهَدُ إنَّ المُنافِقينَ
لَكاذِبون" (الآية الأولى من سورة "المنافقون").
هذه الآية الكريمة قد نزلت عندما جاء عددٌ من
المنافقين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليُعلِنوا إسـلامـهـم .. ماذا قال
المنافقون؟ .. قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسولُ
الله" .. وهذه شهادة حق .. لأن الله سبحانه وتعالى يقول: "والله يَعْلَمُ
إنَّكَ لَرَسولُه" .. إذن شهادة المنافقين وافقت عِلم الله سبحانه وتعالى .. ولكن
الله سبحانه يقول: "واللهُ يَشْهَدُ إنَّ المُنافِقينَ لَكاذِبون" .. يقول
المُشكِّكون: كيف يكون المنافقون كاذبين وهـم قـد شـهـدوا بما قاله الله سبحانه
وتعالى؟ .. نقول: إن الله أراد أن يُعْلِم رسوله صلى الله عليه وسلم أن ما تقوله
ألسنة هؤلاء المنافقين لا يوافق ما في قلوبهم .. فهم شهدوا لرسول الله - صلى الله
عليه وسلم - بالرسالة .. ولكن بألسنتهم فقط .. أمـا قلوبهم فهي مُنكِرةٌ لهذه
الرسالة مُكَذِّبةٌ بها .. وهكذا أعلن ما في صدور المنافقين ومـا يـخـفـونه عن
الناس .. ولم يجرؤوا أن يكذِّبوا ما أعلنه الله .. والقرآن الكريم فيه آياتٌ كثيرةٌ
تعطينا الدليل المادي على أن الله يعلم ما يخفيه الإنسان في صدره ولو لم ينطق به ..
وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: "فَإنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَ وَأَخْفى"
(من الاية 7 من سورة "طه") .. والسِر هو ما يسر به الإنسان إلى غيره ..
والسِر دائماً يكون بين اثنيْن .. ومـا هـو أخفى من السِر .. أي ما لا ينطق به
الإنسان لأحـد بل يبقى في صدره لا يعلمه أحدٌ غيره .. والله - سبحانه وتعالى - يأتي
ليفضح الكافرين والمنافقين فيقول: "ويَقولونَ في أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنا
الله" (من الآية 8 من سورة "المجادلة") .. إذن هم لم يقولوا هذا
الكلام لأحد .. ولكن قالوه في أنفسهم فقط ولم تنطق به ألسنتهم .. ولا تحرّكت به
شفاههم .. ولكن الله فضحهم وأنبأ بما في صدورهم ولم يستطيعوا أن يكذِّبوه .. ولوْ لم
يكُن هذا صحيحاً لقالوا: لم نقل شيئاً في أنفسنا .. ولكنهم بُهِتوا بعِلم الله - سبحانه
وتعالى - فلم يستطيعوا الرد عليه ولو بالكذب.
الله حدّد من المنتصر
وهكذا يظهر بالدليل المادي أن الله - سبحانه
وتعالى - يعلم ما في الصدور ومـا تُخـفي الأنفُس ولا تُعلِنه، وأن الله عليمٌ بما
يحرص الإنسان على إخفائه عن الدنيا كلها .. فعِلم الله يمتد إلى غيْب النفس البشريّة
وما تحاول أن تكتمه أو تعتقد أن أحداً لا يعلمه.
ثم يأتي الحق - سبحانه وتعالى - بدليلٍ مـاديٍ
أخر على أنه هو عالِم الغيْب وأن ما يقوله حادثٌ ونافِذ .. وأن الدنيا كلها لا
تستطيع أن تغيّر قدراً من أقدار الله .. ويعطينا الدليل المادي على ذلك فيقول تبارك
وتعالى: "ألم، غُلِبَتِ الروم، في أَدْنى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ
سَيَغْلِبون، في بِضْعِ سِنِين، للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْد، وَيَوْمَئِذٍ
يَفْرَحُ المُؤْمِنون" (الآيات من 1 – 4 من سورة "الروم") .. وهذه
حقيقةٌ تاريخيّةٌ لا يمكن أن يُنكِرها حتى المُلحِدون .. ولقد نزلت هذه الآية
عندما قامت الحرب بيْن "الفُرس" و"الروم" .. وكانت الدوْلتان
تمثّلان أكبر قوةٍ في العالم في ذلك الوقت .. مثل "الاتحاد السوفيتي"
سابقاً و"أمريكا" الآن .. وقامت الحرب بينهـمـا وهُزِمَت "الروم"
في هذه الحرب .. وعندئذٍ فرح الكُفّار لأن "الفرس" كانوا دولةً كافرةً
تعبد النار .. و"الروم" كانت دولةً مسيحيّة .. أي أهل كتاب .. وحَزِنَ
المؤمنون لهزيمة "الروم" لأن أهل الكُفر انتصروا على أهل الكتاب ..
وأراد الله - سبحانه وتعالى - أن يُطَمْئِنَ المؤمنين ويُذْهِبَ عنهم الحزن ..
فنزلت الآيات الكريمة تبـشِّـر بأن "الروم" سينتصرون بعد بضع سنين ..
وفي وقتها راهـن المؤمنون الكُفّار على أن انتصار "الروم" سيحدث .. وكان
من المراهنين سيدنا "أبو بكر" الصّدّيق رضي الله عنه .. الذي راهن
بأربعـةٍ من الإبِل على أن انتـصـار "الروم" سيحدث بعد سبع سنين .. ولمّا
مضت هذه المدّة ولم يحدث شيءٌ فَرِحَ المشركون وشَقَّ ذلك على المسلمين، فذُكِر
ذلك للرسول - صلّى الله عليه وسلّم - فقال: ما بِضْع سنين عندكم؟ ، فقالوا: دون
العشر، فقال لـ"أبي بكر" : إذهب فزايدهم وازدِد سنتيْن في الأَجَل ..
فما مضت السنتان حتى انتصر "الروم" على "الفرس" .. ففرح
المسلمون بذلك .. ثم نهى الرسول "أبا بكر" ونهى الصحابة عن المراهنة ..
وقال: إن الإسلام لا يقرها ولا يسمح بها.
من الذي يستطيع أن يتنبّأ بنتيجة معركةٍ حربيّةٍ
ستحدث بعد تسع سنوات؟ .. وماذا كان يمكن أن يحدث لو أن "الروم" و"الفرس"
عقدا صُلحاً خلال هذه السنوات التسع .. أو أن "الفُرس" استعدّوا
استعداداً قويّاً لهذه الحرب وهزموا "الروم" مرّةً أخرى .. ومَن الذي
يستطيع أن يضمن نتيجة معركةٍ حربيّةٍ ستحدث بعد هذه الفترة الطويلة .. بل إن أحداً
لا يستطيع أن يتنبّأ بنتيجة معركةٍ حربيّةٍ ستحدث بعد لحظات .. بل إن كل قائدٍ لأي
معركةٍ حربيّةٍ لا يكون واثقاً من النصر قبل أن تبدأ المعركة .. أو حتى عندما تبدأ
.. فلو علم أي قائدٍ لمعركةٍ حربيّةٍ أنه سيُهزَم لَما دخلها . يأتى الله - سـبـحـانه
وتعالى - ليعطينا الدليل المادي على أنه يعلم غيْب السـماوات والأرض علم اليقين ..
فينبِّئنا بنتيجة معركةٍ لا بيْن قوتيْن محدودتيْن .. ولكن بيْن دوْلتيْن عُظمييْن
.. وينبّئنا عن نتيجة هذه المعركة قبل أن تبدأ بتسع سنواتٍ كاملة .. ويخبرنا مَن
الذي سينتصر ومَن الذي سيُهزَم .. وتأتى الأحداث وتقع الحرب .. وينتصر "الروم"
ويُهزَم "الفرس" كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى .. وماذا كان يمكن أن
يحدث لو أن "الفُرس" انتصروا على "الروم" والقرآن كلام الله
المتعبَّد بتلاوته إلى يوْم القيامة؟ .. وكيف كان يمكن أن يقف المصلّون في المساجد
ويقرأوا سورة "الروم" في الصلاة إذا كانت نتيجة الحرب قد اختلفت عمّا
جاء في هذه السورة؟
وهكذا نرى مـدى الإعـجـاز في أن الله - سبحانه
وتعالى - قد بيّن لنا الدليل المادي على أنه يعلم الغيْب .. وأن علمـه للغيْب عِلم
يقين لابد أن يحـدث وأن يتم .. وأنه مسيْطر على أمور الدنيا كلهـا .. حتى في تلك الأشياء
التي لا يمكن أن يتنبّأ بنتيجتها أحد قبل حدوثها بتسع سنوات .. بل لا يمكن أن يتنبّأ
بنتيجتها أحدٌ حتى ساعة حدوثها، أليس هذا دليلاً ماديّاً على أن الله - سبحانه
وتعالى - هو الذي يُسَيّر الأمر في كوْنه .. وهو الذي إذا قال كُن يكون .. أليس
هذا دليلاً على أن الله - سبحانه وتعالى - إذا قال: "إنَّما أَمْرُهُ إذا
أرادَ شَيْئاً أَنْ يَقولَ لَهُ كُنْ فَيَكون" (الآية 82 من سورة "يس")
.. هو قوْلٌ من إلهٍ خالقٍ ومسيْطرٍ وقادرٍ على كل أحداث كوْنه .. فإذا عرفنا ذلك
بالدليل المادي .. ألَا نفهم معنى الآية الكريمة: "أتى أمر الله فلا تستعجلوه"
ونصدِّق يقيناً بأن الله - سبحانه وتعالى - وحده هو رب وإله هذا الكوْن.
الوجود وإدراك الوجود
على أننا لابد أن ننتقل بعد ذلك إلى نقطةٍ
هامّةٍ جداً .. وهي أن عدم إدراكنا لوجود الشيء لا يعني أن هذا الشئ غير موجود ..
فإذا حدّثنا الله - سبحانه وتعالى - عن الملائكة وعن الجنة وعن النار وعن الشياطين
فلابد أن نصدِّق .. ليس بالدليل الإيماني فقط لأن القائل هو الله .. ولكن لأنه - سبحانه
وتعالى - أعطى الدليل المادي لغير المؤمن به على أن الغيْب موجود وإن لم نكن ندرك
وجوده .. وأعطاه لنا من أحداث هذا الكون وما يقع فيه من ماديّات.
فإذا أخذنا مثلاً الجراثيم .. تلك المخلوقات
الدقيقة التي تهاجم جسد الإنسان وتصيبه بالمرض .. هذه الجراثيم عاشت مع الإنسان عُمره
كله .. ولكننا في أوّل الحياة البشريّة وحتى فترةٍ قصيرة لم نكن نعرف عنها شيئاً ..
ثم تقدّم العِلم وتوصّل العلماء إلى الميكروسكوبات الإلكترونية التي تُكبِّر حجم
الشيء ملايين المرّات .. فماذا رأينا؟ .. رأينا عجباً .. رأينا ميكروباتٍ لها شکلٌ
ولها حركةٌ ولها حياةٌ ولها تناسُلٌ وتكاثُر .. ولها طريقةٌ لتخترق بها جسم
الإنسان وتصل إلى الدم .. ولها تفاعلاتٌ مع كرات الدم.
عالمٌ كبيرٌ لم نكن نعرف عنه شيئاً بل كان غيْباً
عنّا منذ مائة سنة .. ومع ذلك .. ومع كوْنه كان غيْباً عنّا فهل لم يكن موجوداً؟
.. لا .. بل كان موجوداً يؤدّي مهمّته في الحياة.
وكـان العلماء في الماضي يعـتـقـدون أن المرض
مـعناه أن الأرواح الشريرة قد تلبَّست جسد الإنسان .. وكانوا يضربون المرضى أو
يكوون أجزاءً من أجسادهم حتى تخرج هذه الأرواح الشريرة ثم تقدّم العِلم واستطعنا أن
نرى رؤية العين هذه الجراثيم وهي تتـحـرّك وتتناسل .. وتخـتـرق وتـحـارب .. بل
استطعنا في تجاربنا العلمـيـّة أن نُدْخِل هذه الجراثيم إلى أجساد الحيوانات ..
لندرس دوْرة حياتها وكيفيّة القضاء عليها.
وهكذا أعطانا الله الدليل المادي على أن ما
هو غيْبٌ عنّا موجودٌ ويؤدّي مهمّته في الحياة .. وأن عدم إدراكنا لوجوده لا يعني انعدام
وجوده.