الجهل نورون
(من طلب العلا نام الليالي) (1)
دقَّ جرس مدرسة "العلم والإيمان"
بالقرية يعلن انتهاء الحصّة السادسة بما يعني ضِمناً انتهاء اليوم الدراسي كلّه؛
ولم ينتظر تلاميذ الصف الثالث الإعدادي أن يصرفهم معلّمهم بل إنهم ما إن سمعوا
رنين الجرس حتَّى انطلقوا جميعاً خارج الفصل مُحدِثين جلبةً عاليةً ومُطلِقين
صيْحتهم التقليديّة "هيييييه" تعبيراً عن فرحتهم بالعوْدة إلى منازلهم،
ولم يبق بالفصل إلا المُعلّم - الذي انهمك في لَمْلَمة أوْراقه ودفاتره - وتلميذٌ
كسول يغط في نومٍ عميق حيث لم توقِظه ضوْضاء زملائه التي توقِظ الميّت في قبره،
وكاد المُعلّم أن ينصرف بَيْد أنه سمع صوْت شخير هذا التلميذ فاقترب منه ونادى
عليه ليوقِظه فلم يرد إلّا بنبرة نخيرٍ طويلة عالية فاستشاط المُعلّم غضباً من كسل
الطالب ولا مبالاته فانهال على ظهره بضربةٍ من عصاه جعلته يفزُّ هَلَعاً وينتفض
واقفاً وقال وهو يتحسّس مكان الضربة متألّماً :
- أيوه يا أستاذ.. ما سمعتش السؤال.
- سؤال إيه يا جَزْمَة؟.. إنت يا وله مش
حتبطّل نوم ف وِسط الحصص؟.. عندهم حق زمايلك اللي مسمّيينك "أبو النوم".
- معلهش يا أستاذ غصب عني.
- يا وله دي رابع سنة ليك ف تالتة اعدادي..
مستنّي إيه؟.. مش تفوق بقى لنفسك؟.. ح تفضل كده جاهل زي ما انت؟.. دول اللي ف
سِنَّك على وِش جامعة يا حمار.
- ما حَدّش بياخد أكتر من نصيبه يا أستاذ.
- وهوَّ انت مكتوب عليك تطلع تور الله ف
برسيمه؟.. إنت ناسي إن ابوك حالِف ستّين يمين إنه ح يطلّعك م المدرسة لو ما نجحتش
السنة دي؟.. يا ابني دول المفتّشين بتوع الوزارة حفظوك.. وأوّل ما بيحطّوا رجليهم
ف المدرسة بيسألونا عليك :"مصباح عبد العليم" إتخرّج من المدرسة ولّا
لسّه؟.. فَضَحتنا وخَلّيت رقبتنا زي السمسمة.
- يا بيه ما هو انا مش غاوي علام.. وقلت
لأبويا يعلّمني صنعة أحسن.. بس هوَّ مش راضي.
- يعني هوَّ غلطان إنه عايزك تبقى بَني آدم..
ده بيستخسر ف نفسه الهِدمة لاجل ما يعلّمك وتاخد شهادة تنفعك.. يا وله خلّي عندك
دَم وذاكر.. النوم مش ح ينفعك.
- ما انا طول الليل باذاكر علشان كده باجي
المدرسة بانام.
- إنت ح تضحك عليَّ انا كمان يا كدّاب؟..
هوَّ انا مش عارف مستواك المنيّل؟.. فاكرني زي ابوك وامَّك الغلابة؟.. أكيد بتقول
لهم إنك بتسهر تذاكر وبعد ما يناموا تنام انت راخر.. صح؟
- مش على طول واللهِ يا افندي.
- إخرس خالص.. بتحلف بـ "واللهِ"..
الله لمّا يسخطك يا بعيد.. آدي دقني لو فلحت.. تبقى تيجي تتف على قبري إن ما طلعت
شحّات والناس تدّيك على قفاك.
ومرّت خمسة أعوام على نبوءة المُعلّم وبدا
أنها تتحقّق بحذافيرها؛ فقد انقطع "مصباح" عن الدراسة بعد رسوبه في
الشهادة الإعداديّة للعام الرابع على التوالي، وعندما خرج لميْدان العمل لم يستطِع
أن يتخلّص من طباعه السيّئة فتارةً كان يذهب إلى عمله متأخّراً وتارةً أخرى ينزوي
في أحد الأركان بالعمل ويغرق في سباتٍ سحيق وتارةً ثالثة يترك العمل ليتسكّع مع
أصحابه في استهتارٍ واستخفاف؛ مما جعله يتنقّل من عملٍ لآخر في أكثر من مكان، فعمل
صبيّاً لحدّاد وبائعاً للألبان ونادلاً في قهوة وصبيّاً لحانوتي يتعهّد تكفين
الموتى ودفنهم وعاملاً للنظافة بإحدى الشركات وساعياً بإحدى مكاتب المحاماة، ناهيك
عن بعض الأعمال الأخرى الغير دائمة كأعمال البناء وحَمْل البضائع ونَقْل السلع.
وعندما فاض الكيْل بالأب المسكين ويأس من
إصلاح سلوك ابنه وتقويم أخلاقه قام بطرده من المنزل عسى أن يستفيق لمستقبله ويضطر
للاعتماد على نفسه بعد أن يفتقد الارتكان لأبيه، ورحل "مصباح" عن قريته
قاصداً أم الدنيا "القاهرة" فقد كان يؤمن بأن هذه المدينة تَسَع
الملايين من أمثاله الذين أتوا إليها وهم يعانون ما يعاني من فقرٍ وحرمانٍ وسوء
حظ، وكان يعتقد أن قليلاً من العمل وكثيراً من الشطارة كافيان لأن يعدلا ميزان
أحواله ويدفعاه إلى مصافِ الأغنياء، ولكنه كان واهماً إذ أن الحال بقي على ما هو
عليه فلم يلبث أن تمكّن منه القنوط والإحباط بعدما تم رفته من أكثر من عمل نظراً
لجهله وكسله، فساءت أحواله كثيراً ونفذ ما معه من المال الذي كان قد أخذه من والده
قبل أن يطرده، وألقى صاحب البيت الذي كان يستأجره بملابسه وباقي متعلّقاته في
الشارع لتأخّره في سداد الإيجار ففقد المأوى الذي كان يأويه ولم يجد باباً مفتوحاً
أمامه غير باب الله متمثلاً في مسجد السيّد "الحسين" الذي كان يبيت فيه
ليْله بعد أن يقضي نهاره في محاولة العثور على عملٍ أو التسوّل من الناس الذين
كانوا يؤمّون إلى المسجد ليصلّوا أو ليزوروا الضريح.
وفي إحدى الأمسيات وبينما كان
"مصباح" نائماً وهو جالس في أحد أركان المسجد لاحظه شيخٌ مهيب تبدو على
ملامحه أمارات التَقوى والورع فقد كان أشيب الشعر ذو جبهةٍ عريضةٍ بيضاء تشغل
معظمها زبيبةٌ كبيرة من أثر السجود وأنفٍ أفطس وشفتيْن رقيقتيْن تختبئان خلف شاربٍ
كثيف ولحية كثّة، وكان يرتدي عباءةً سوداء ويعتمر عمامةً بيضاء معصوبةً على
قلنسوةٍ حمراء، وأخذ الشيخ يتمعّن في "مصباح" وهو نائم فألفاه شاباً
متوسّط الجسم معافى البدن ولكنه رثّ الهيْئة فوجد فيه ضالته خاصةً وأنه يشبهه في بعض
ملامحه، فدنا إليه وأخذ يهزّه حتَّى فتح عيْنيْه بعد لَأْي وأشار الشيخ
"لمصباح" بأن يتبعه فقام "مصباح" وسار خلف الشيخ دون أن ينبس
ببنت شفة فقد راعه منظر الشيخ وهيْبته ولم يستطِع أن يجادله في شيء وقد كان في أمس
الحاجة لمن يرنو إليه بنظرة عطفٍ أو شفقة علّه ينتشله من حالة الضياع التي آل
إليها.
وفي منزل الشيخ الواسع وبعد أن ازدرد
"مصباح" ما قدّمه له الشيخ من طعام في سرعةٍ ونَهَم تراجع
"مصباح" للخلف قليلاً وأسند ظهره على كرسيه المريح وبادر بتوجيه الشكر
للشيخ على كرمه وسعة صدره فقال :
- الحمد لله.. بقى لي شهور ما اكلتش كده..
الله يكرمك يا حاج ويوسّع عليك ويدّيك على قد نيّتك قادر يا كريم.
- بالهنا والشفا يا ابني مطرح ما يسري يمري..
إتفضّل الشاي.
- كمان شاي!.. مش عارف أقول لك إيه ياحاج على
كرم أخلاقك.. إلهي و انت جاهي تـ.....
- ما تقولش حاجة.. إنا ما عملتش غير الواجب..
كلّه من خير ربّنا.. قول لي بقى.. إنت حكايتك إيه؟
- أبداً.. أنا اسمي "مصباح".. جيت
م الأرياف.. وما كمّلتش تعليمي.. وما لقيتش شغل كويّس ف بلدنا قلت اجي أجرّب حظّى
هنا ف "مصر".. بس الدنيا لطّشت معايَّ زي ما انت شايف.. عموماً ربّنا
يفرجها.. أسيبك بقى براحتك وأرجع الجامع أكوّع لي شويّة أحسن النوم كبس عليَّ بعد
الأكلة الجامدة دي.
- إستنّى يا "مصباح" يا ابني.. إيه
رأيك تخلّيك معايَّ هنا؟.. تاكل وتشرب وتبات.. وكمان تساعدني ف صنعتي.. وتكسب لك
قرشين كويّسين.
- تحت أمرك يا سيدنا الشيخ.. يا ريت.. بس ح
اساعدك ف أنهي صنعة؟.. ده انا ميح.. ما فيش صنعة اتعلّمتها أو فلحت فيها.. بس انا
مستعد اشتغل أي حاجة إن شا الله خدّام.
- بُص يا ابني.. أنا بقى اسمي الشيخ
"عارف".. وجيت "القاهرة" من خمسة وعشرين سنة.. وكانت ظروفي زي
ظروفك كده تقريباً.. بس اتعلّمت صنعتي دي م الشيخ "علّام" الله يرحمه..
واديني اهُه مستور والحمد لله.. وعندي تمانية زيّك بيشتغلوا معايَّ.. بس انا
بادوّر على واحِد فهلوي حِرِك يلعب بالبيضة والحجر.. وانا متهيّأ لي إنك الواحِد
ده.
- أيوه بس انا برضه ما فهمتش كارك إيه؟..
وانا ح اشتغل إيه؟
- كارنا ده مش بيحتاج علام.. بالعكس ده يمكن
بيشترط الجهل.. بيحتاج اللي يعرف الناس عايزة إيه ويغنّي عليهم.. بيحتاج اللي
يتاجر بأحلام الطمّاعين اللي مش راضيين بحالهم.. ولو عرفت تبقى أونطجي وتبيع الوهم
للناس دول وتخلّيهم يصدّقوك ويصدّقوا أي حاجة تقولها لهم ح تبقى أسطى كبير ف الكار
ده زي العبد لله.. وساعتها ح يكتروا زباينك الجاهلين.. وعلى فكرة الدنيا علّمتني
إن الجهل ده موجود ف كل الناس مهما كانت درجة تعليمهم.. يعني ح تلاقي إن زباينك
الدكاتره والمهندسين والأساتذة والأئمّة والمحامين أكتر من الأميّين.. ده علشان
الواحد منهم مهما بقى عالِم ف مهنته بيفضل حاسس بالجهل من ناحية الغيبيّات
والمجهول.. يعني فيه طلاسم ما فيش حَد جاهل أو مُتَعَلِّم يعرف يحلّها أو حتَّى
يقدر يتخيّلها.. زي الموت والروح والجن والشياطين وعِلْم الغيب.. والطلاسم دي هي
اللي بتخلّي الناس يحسّوا بالعجز لمّا تقابلهم مشاكل ما يعرفوش يحلّوها فيلجأوا
لأمثالي علشان نساعدهم على أساس إننا واصلين وقادرين وعارفين الحل.. ولو ربّنا كان
مقدّر وجاب الحل من عنده الناس بيفتكروا إن ده من بركاتنا وبفعل أعمالنا ويطيروا
بينا طير.. ولو ربّنا ما أذنش بالحل الناس بيقولوا ده أمر الله من غير ما يلومونا
على حاجة.. وهوّ ده بقى سِر كارنا.
- اللي هوّ إيه يا عم الشيخ؟
- اللي هوّ الدجل والشعوذة والخزعبلات وشغل
التلات ورقات.. يعني انا م الآخر كده دجّال.. بس قدّام الناس شيخ مبروك مكشوف عني
الحجاب ومخاوي الجن والشياطين واقدر اسلّطهم يسخَطوا أي بني آدم يأذيني.
يا حفيظ يا رب.. اللهمّ احفظنا.. يجعل كلامنا
خفيف عليهم.. أنا ح ابقى سَتْر وغَطا عليك ولا ممكن أأذيك أبداً يا عَم الحاج.
- ها ها ها.. شوف بقى انت حمار إزّاي.. مع
إني صارحتك بحقيقتي لكن برضه خايف مني لاسخَطك.. ما تخافش.. أنا اللي يشتغل معايَّ
ح يبقى ف حمايتي بس لازم يبقى اعمى واطرش واخرس.. ولو فكّر يوم يخون العيش والملح
ويطلّع أسرار الشغل برّه مش ح أسخطه ولا حاجة إنما ح يبقى ده آخر يوم له على وِش
الدنيا.. فاهم يا "مصباح"؟
- أنا من إيدك دي لإيدك دي.. إعمل فيَّ ما
بدا لك.. ح تلاقيني تلميذ نجيب.. يمكن اتعلّم منك اللي ما عرفتِش اتعلّمه طول
حياتي.
- إستبينا.. وانا مش ح استخسر فيك حاجة وح
اعتبرك زي ابني اللي ما خلّفتهوش.. أصل انا شايف فيك شبابي.. ده انتَ حتَّى شبهي
وانا صغيّر.. ح اعلّمك الجهل على أصوله.. ما هو الجهل ده برضه عِلْم و له أصول..
بس لازم تبتدي السلّم من أوّله.. درجة درجة لغاية ما تتوتّك وتوْرِث عني الشغلانة
دي قبل ما اموت.. خش بقى نام ده الوقت ف الأوضة اللي جوّه ومن بكره ح نبتدي
المشوار.
- ربّنا يدّيك الصحّة وطولة العمر.. تصبح على
خير.
ومكث "مصباح" في منزل الشيخ
"عارف" ما يزيد عن حوْليْن كامليْن يخدمه في تفانٍ وإخلاص ويتعلّم عنه
أسرار المهنة ودهاليزها ويشرب منه تفانين الصنعة قطرة قطرة، فعمل أوّل الأمر في
تجهيز البخور والشموع وتحضير ما يلزم من جوٍ مثير لمقابلات الشيخ مع زبائنه وعمل
الجلسات الروحانيّة ودقّات الزار، ثم عمل كجاسوس بين الزبائن فكان يتنقّل بينهم
ويتجاذب معهم أطراف الحديث ليعرف أسرارهم وخباياهم وأسباب شكواهم ثم ينقلها إلى
شيْخه الذي يستغل هذه المعلومات في إبهار الزبائن بقدرته على معرفة الغيب وكشف
مكنون صدورهم قبل أن يبوحوا له بشيء؛ فكان يبادرهم بالكشف عن شكواهم التي أتوا من
أجلها: فهذه إمرأة تريد أن تنجب، وتلك أخرى تريد أن تتزوّج، وهذه تخشى من زواج
زوجها بغيرها، وتلك تريد أن تنتقم من ضُرَّتها، وهذا رجلٌ عنين يعتقد أنه مربوطٌ
بعملٍ شرير بعد أن جاب الأطباء وفشلوا في علاجه، وذاك آخرٌ يبحث عن علاجٍ ناجع
لمرضه العُضال... وهكذا دواليك، ثم عمل "مصباح" في كتابة الأحجبة
والأعمال وتعلّم كيفيّة الرُقية ودَق الزار وغيرها من الأعمال.
وكان "مصباح" في كل عمل من هذه
الأعمال يرتدي النقاب ويتخفّى في زِي سيّدة ويرقّق من صوْته حتَّى يشبه صوْت
النساء؛ فلم يكن أحد يعرف ملامحه غير الشيخ وأعوانه، وكان يفعل ذلك بناءً على
نصيحة الشيخ "عارف" حتَّى لا تتبيّن أوصافه لأحدٍ من الناس من أجل أن
يكون حر الحركة ويستطيع التنكّر وتقمّص أية شخصيّة لمعرفة أسرار الناس دون أن يحرق
نفسه، فظل "مصباح" مجهولاً لأهل الحي ومريدي الشيخ.
وبرع "مصباح" فيما تعلّمه هذه
المرة بل تفوّق في كل مَهَمَّةٍ يوكلها إليه الشيخ "عارف" الذي أصبح
يعتمد عليه دون سواه في جُل حركاته وسكناته، وكان "مصباح" أهلاً لثقة
معلّمه وولي نِعْمَته فقد كان يخدم الشيخ ويقوم على قضاء حاجياته ويصاحبه في كل
مكانٍ وهو منتقب حتَّى أن "مصباح" رفض أن يعود لكنف والديه وأبى حتَّى
أن يتزوّج كي لا يفارق أباه الروحي ولا يقصّر في خدمته خاصةّ بعد أن هرم ولحقت به
العديد من أمراض الشيخوخة ممّا جعل الشيخ يسرّها في نفسه ويمتن أيّما امتنان
لتلميذه وابنه الروحي الذي أبدى كثيراً من دلائل الإخلاص وعلامات الوفاء؛ الأمر الذي
دفع الشيخ إلى أن يكتب وصيّته ويودعها عند محاميه ويوصي فيها بأن يرث
"مصباح" كل ما يملكه من منزلٍ وأراضٍ ورصيدٍ ضخمٍ بالبنك لم يكن يتمتّع
به الشيخ فقد كان حريصاً على أن يظهر أمام الناس في صورة الشيخ الزاهد المتوسط
الحال.