"شيء من الخبث" | الفصل التاسع (1)
مرّت شهورٌ فوق شهور؛ وبقي الحال كما هو عليه
وعلى المتضرّر من أهل البلد أن يلجأ إلى الله - عز وجل - بالدعاء والابتهال حتّى يغيّر
أحوال البلد إلى الأفضل، ولكن كيف تتغيّر هذه الأحوال والله لا يغيّر ما بقومٍ حتّى
يغيّروا ما بأنفسهم، فالناس هم الناس.. نفس الأخلاق القميئة.. نفس الأنانية
المفرطة.. نفس التواكل المتناهي.. نفس الطموح القاصر.. نفس النِفاق المريع.. نفس
الاستسهال الكريه.. نفس السذاجة البلهاء.. نفس السطحيّة في التعامل مع الأمور.
ولكن - للحق - لم يكن أهل البلد كلهم بهذه
الصفات السيّئة فهناك من كانوا يتمتّعون بأخلاقٍ مثاليّة وإيثارٍ محمود وتطلّعاتٍ
طموحة وذكاءٍ حاد؛ ولكنهم كانوا أقل عدداً وأخفض صوْتاً وأضعف تأثيراً.
وكانت الفئة الثانية تحاول تذكير الفئة الأولى
بأن عليهم المثابرة والنضال طويلاً حتّى يتحقق لهم ما يريدون من خيرٍ للبلد وأهلها،
وأن عليهم الصبر على الظروف الصعبة والأحوال الغير مواتية حتّى تتحسّن، وأن عليهم
محاربة الصفات السيئة التي زرعها فيهم حُكم العسكر واستدعاء السمات الحميدة التي جُبِّلوا
عليها من ذاكرتهم المنسيّة، وأن عليهم إلقاء الماضي بما فيه من مساوئ وراء ظهورهم وتحت
أرجلهم، وأن يتركوا خِصلة التجبير والترميم المؤقّت التي عُرفوا بها بل عليهم هدم
أسوار الجهل والتخلّف من الأساس وبناء صروحٍ متينةٍ عالية من العلم والتقدّم لاسترجاع
حضارتهم ورخائهم.
وفي مقهي القرية كان بعض الأهالي جالسين في خشوعٍ
يستمعون إلى الشيخ "عبد المنعم الطوخي" وهو يتلو القرآن الكريم بصوْته
العذب في المذياع :
- {ذلك بأن اللهَ لم يكُ مغيّراً نعمةً
أنعمها على قومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم وأنَّ اللهَ سميعٌ عليم} صدق الله العظيم.
- استمعنا سيداتي آنساتي سادتي إلى آياتٍ من
الذكر الحكيم.. هنا القاهرة.. تستمعون الآن إلى هذه الأغنية من "محمد
قنديل" :
قول يا معين معانا وعين
يا ابو العزم حديد ما يلين
وقول يا معين وقول يا معين
يا اللي قديمك واكلُه السوس قوم ارميه... قوم
ارميه
زيح الماضي بحالُه ودوس فوق أراضيه... فوق
إراضيه
واللي تهدُّه الناس بفلوس ناس تِبنيه
دول نازلين ودول طالعين.. وقول يامعين وقول
يا معين
ما يفيد المايل ترميم خلّيك جَد... خلّيك جَد
لاجل ما تبني جديد وسليم إنزل هَد... إنزل هَد
لوْ بيدوم ف الدنيا قديم كان دام حَد
وانت يا بوي سيد العارفين.. وقول يا معين وقول
يا معين
بالعزم يا بوي هِد اللي فَنى جيلُه
بكره يعود فَرحنا و تدور فناجيلُه
يصفى الزمان و الحبيب ع العطفة انا
اجيلُه
غُلب زمان ارميه لبعيد عاد ما يهِم... عاد ما
يهِم
بكره نعلّى ونبني جديد قوم وهِم... قوم وهِم
أومّال كيف الخير يزيد ولّا يعِم
يوم نهِد ونبني سنين.. وقول يا معين وقول يا
معين......
- تعالي يا "مكرم" سُك الراديو ده..
دماغنا وَجَعِتنا.
- ليه بس يا معلّمي؟.. ده أبو القناديل بيقول
دُرَر.
- بلا دُرَر بلا سُرَر.. بلاش دوْشة.. كفاية
الدوْشة اللي عاملينها بتوع الانتخابات.. ربّنا يقلب دماغهم.
- ولسّه كمان انتخابات العموديّة.. أهي قرّبت
خلاص.. وكله بيسخّن ده الوقت.
- ألّا صحيح يا جدعان.. شفتوا سي "طهطاوي"
ليلة امبارح؟
- لأ.. أنا روّحت بدري.. حصل إيه؟
- إمبارح يا خويا كنت قاعد أنا وعمّك
"صميده" بنلعب عَشَرة طاولة محبوسة بعيد عنّك.. بصّينا لقينا ابوك "طهطاوي"
فوق دماغنا.. آه واللهِ.. هنا ف القهوة.. بس الأنكت بقى إنه كان قالع البدلة الميري.
- يا نهار اسود !.. ماشي كده بالفانِنَة واللِباس؟
- لا يا راجل.. إنت مخك راح لبعيد.. ده كان
قالع البدلة الميري ولابس جلابيّة جبردين مقلّمة قلم رفيّع وقلم تخين.. إنما إيه
فخمة قوي.. شبه جلابيّة "عتريس" ف زمانه.. وماشي يسلّم على كل اللي يقابله.
- غريبة!.. الواحد مش واخد عليه من غير
البدلة الميري.. ده انا كنت بأتخيّله لابسها على طول.. حتّى وهوَّ بيستحمّى.
- بس إيه يا وله.. كان آخر نَزاكَه ف الجلابيّة..
واللهِ لايق عليه يبقى العمدة الجديد.
- يا ابني هيَّ العموديّة باللِبس.. ما احنا
ياما لبِسْنا.
- يا عم هوَّ فيه عمدة يبقى لابس قُبقاب؟
- يا سيدي ما هو غصب عنه.. ما هو طلع م
الجامع بعد ما صلّى العِشا لقى ولاد الحرام لطشوا المركوب بتاعه فاضطر يلبس قُبقاب
من بتوع الميضة.
- هأوأوأو.. واللي مش عارف ياخد باله من
مركوبه ح يعرف ياخد باله من بلد بحالها؟.. شوف انت بقى فيه كام مركوب ف البلد.
- كتير.. بس يا ترى "طهطاوي" ناوي يرشّح
نفسه للعموديّة؟
- وده مين اللي اتجّن ف عقله علشان ينتخبه؟
- ده راجل محترم.. مش "طهطاوي" ده
اللي ما رضيش يسمع كلام "عتريس" وقال له: أنا ما اضربش ولاد بلدي بالنار؟
- ورجع تاني لحس كلامه.. وقال
"عتريس" ما قالّيش كده.. وبعدين ده ظابط.
- وماله.. ما كل العمد اللي جُم قبله كانوا
ظبّاط ف الهجّانة برضه.. وبعدين ما فيه ناس م البلد عايزينه يبقى العمدة.. وعاملين
له يُفَط بالهَبَل.
- يا جدعان انتم ما حرّمتوش.. مش بزيادانا
ظبّاط بقى.. دي كل البلاد اللي حوالينا عمدها طوروها وقدّموها واحنا عمد بلدنا دَهْوَروها
وأدّبوها.
- والله ما ينفعنا غير ظابط.. علشان يعرف
يمشّينا على عجين ما نلخبطوش.. أديكم شفتوا بقى حالنا إيه.. أصل احنا شويّة همج ما
نجيش إلا بالكرباج والعين الحمرا.. يعني إذا ما كانش "طهطاوي" يبقى "رفيق"
أو حتّى "وجدي أتاته" ما هم رشّحوا نفسيهم روخرين.
- بالعكس.. إحنا اللي يعاملنا بالطيّب ياخد
عنينا.. بس فينا اللي ما يجيش بالذوق.. ودول لازم يعرفوا إن اللي ياكل على قَفاه
بالخمسة يلطم على خدوده بالعشرة.