صورة واحد فهلوي
الأربعـاء:
علمتُ أن "الزناني
بيه خليفة" - المدير العام الجديد - سيسافر غداً إلى "كفر أبو سريع"
ليزور السِت حماته إذ عندها دمامل كبيرة ألزمتها الفراش.
الخميس:
طول النهار وأنا أفكّر
.. يجب أن أقوم بحركةٍ تُلفِتْ نظر "الزناتي بيه خليفة" .. خصوصاً أن
الترقيات في السِكّة و"البسطويسي" أفندي - رئيسي المباشر - يكتب فيَّ
تقاريراً سريّة زي الزِفت من درجة ضعيف جداً ونازل .. لكنني ساأرف كيف أذِل "بسطويسي"
أفندي كما كنتُ أذِلّه أيّام "حِدّاية" بيه المدير العام السابق الله
يصبّحه بالخير.
السبت:
خطرتْ لي فكرةٌ
مدهشة .. طُفتُ اليوْم بجميع إدارات المصلحة لأخـذ مائة جنيه من كل موظّف لزوم
الترحيب بسيادة المدير العام عنـد عودته من "كفـر أبو سريع) .. قلتُ للموظّفين
أننا يجب أن نقدّم للبيه المدير بوكيـه ورد بمناسبة أنه وَحَشنا جداً بعد غياب
يوميْن في "كفر أبو سريع" .. رفضوا الملاعين .. وبعد إلحاحٍ شديد على كل
واحد دفـع بعضهم عشرين جنيهاً ودفع البعض اللآخر عشرة جنيْهات وواحدٌ أعطاني
سيجارة "بلمونت" بمنتهى القرف وقال لي اتوكِّل على الله .. اغبياء
اغبيـاء.
الأحـد:
طلبتُ من سكرتير "الزناتي"
بيه مقابلة سيادته لتقديم باقة الورد إليه باسم الموظّفين .. وعندما سبقني السكرتير
إلى مكتب المـدير بدّلتُ البطاقة على الورد ببطاقةٍ أخرى مكتوبةٍ باسمى "عبده
الحَنَش" .. ثم دخلت على "الزناتي" بيه وسلّمتُ عليـه وجذبت يده
وأنا أحاول أن ألطع عليها بوسة حُب .. هنّأت سيادته بسلامة العوْدة من "كفر أبو
سريع" .. وسألت عن دمامل السِت حماة سيادته متمنياً لهـا الشفاء المستعجل ..
ثم انتقلتُ بسرعة إلى التعبير عن سعادتي وفرحتي لتعيين سيادته مديراً عاماً ..
وأسهبتُ في مدح عبقريته ثم عرجتُ على "حدّاية" بيه - المدير العام
السابق - ولعنتُ سنسفیل جدوده على السِبحة وأكدت للـ"زناتي" بيه أنه كان
رجـلاً جاهـلاً لا يعرف الألف من المَدنة. 1
كان "الزناتي"
بيه يستمع إلىَّ صامتاً طوال الوقت ممّا شجّعني على أن أستأذنه في التعبير عن مشاعري
لغيابه يومين من المصلحة بزجلٍ من تأليفي قلت فيه:
- يا مديـــــــري سـلامة السِت حمـاتَك
إن شـــا الله أنـا .. آه وحيـــــــــاتَك
یا مدیري أهــــــلاً بعـــد الغيبـة ديـّه
هات عنيـك تسرح ف دُنيتهم عنيـّه
عندي شوق مش عارف اكبح لك جماحُه
إنتَ عمــــري اللي ابتدا بنـــورَك صباحُــــــه
سُر "الزناتي"
بيه سروراً عظيماً .. وقال لي كلمةً لن أنساها طول العُمر .. إذ فكّر طويلاً ثم هز
رأسه قائلاً:
- متشكِّر.
الثلاثاء:
علِمتُ اليوْم سِرّاً
خطيراً: "الزناتي" بيه من أكبر مشجعي "النادي الإسماعيلي" بالمصلحة
.. فقد انفعل بشدّة عندما قال له السكرتير العـام الأهلاوى أن "الأهلي"
سيغلب "الإسماعيلي" يوْم الجمعة القادم.
الأربعـاء:
كوّنتُ رابطةً لـمُشجّعي
"النـادي الإسماعيلي" بالمصلحة .. ذُهِل الموظّفون الذين يعرفون عني تعصّبي
الشديد للـ"أهلي" .. حلفتُ لهم أني عُمري ما كنت أهلاوي وإن عندهم تهيّؤات.
السبت:
أسعد يوْمٌ في حياتي
دخلتُ لعرض أوْراقٍ على "الزناتي" بيه .. كان في منتهى السعادة عندما
عرف أنني رئيس رابطة مشجعي "الإسماعيلي" بالمصلحة وأنني متعصّب جداً ..
تبسّط معي بعد ذلك في الحديث وقال لي:
- عندك أولاد يا عبده؟
قلت له:
- أومّال یا فندم عندي "أبو جريشة"
و"شِحته" ف الثانوي .. و"أميرو" و"العربي" ف إعدادی
و"میمي درویش" و"حسني عبد ربّه" ف الروضة.
قال "الزناتي"
بيه مبهوراً:
- باسم الله ما شاء الله .. كلّهم كده
على أسماء نجوم النادي "الإسماعيلي"؟
قلت:
- كلُهم يا فندم .. ما عدا ولد واحد جا
على غير رغبتي أنا والسِت حرمنا فكتبناه ف شهادة الميلاد: "مصطفى أوفسايد".
الأربعاء:
من النافذة رأيْتُ "الزناتي"
بيه يدخل من باب المصلحة وعلى ذقنه قطنة ببلاستر .. أسرعتُ إلى السكرتير الذي قال
لي أن مكنة الحلاقة جرحت ذقن سيادته فطلبت الدخول لأعبّر باسم موظفي المصلحة عن
تمنياتنا الطيّبة لذقن سيادته .. فقال لي السكرتير أن "الزناتي" بيه
عنده لجنة ثم أمهلني للغد.
الخميس:
يوٌم سعيدٌ آخر ..
دخلتُ على "الزناتي" بيه لأقول له: "سلامة ذقنك يا بيه" .. وشرحتُ
له في تأثّرٍ شديدٍ كيف لم يغمض لي جفنٌ منذ أن رأيت القطن بالبلاستر على ذقنن سيادته
حتى هاجتْ مشاعري هياجاً شديداً فقُمتُ في منتصف الليْل لأكتب له هذه الأبيات:
- ماذا أقــــول لأمـــــــواسٍ مُـــزفّــــــتـَتِن
جرحتْ مديري العام في الوجهِ والذقنِ
لحـــــاها الله من أمـــــواسٍ مُــــهــــبّبَتِن
تستاهِل الضـربَ في الرأسِ وفي البــطنِ
جرحتْ مديري الحلوَ فيا ويل ما فعلت
وغطّـــــتْ محيـّاهُ بالشــــاشِ والقـطــــنِ.
هز "الزناتي"
بيه رأسه في سرورٍ ثم اقترب مني وهو يقول أن شِعري مُمتاز .. فهو أيضاً شاعرٌ يكتب
الشِعر .. وقال لي "الزناتي" بيه أن لوْلا عنده لجنةٌ لأسمعنی أشعاره
خصوصاً القصيدتيْن اللتيْن يعتز بهما وهما "وصف خرابة في وقت الأصيل" و"دَمعةٌ
على رِكس" وهي قصيدةٌ في رثاء كلبه "رِكس" الذي ضربوه بالرصاص في
الشفخانة .. وعدني "الزناتي" بيه أن يُسمِعني شعره يوْم السبت.
عُدتُ إلى مكتبي لأجد
"البسطويسي" أفنـدي هائجاً بسبب تَرْکي لمكتبي وعملي طوال الوقت وقال لي
أنه سيكتب فيَّ تقريراً زي الطين للسيد المدير .. فضحكتُ بشدّة وقلت له:
- طُظ ف تقاريرك.
السبت:
ذهبتُ إلى مكتب "الزناتي"
بيه الذي استدعى السكرتير بعد دخولي وأمره بألّا يدخل جِنس بنی آدم مكتبه طوال
اجتماعي معه حتّى ولوْ كان الوكيل العام .. حيّاني السكرتير باحترامٍ شديدٍ وخرج ..
فأخـرج "الزناتي" بيه قصيدته في رثاء "رِكس" ثم وقف أمام
المكتب وألقى المطلع في صوْت شديد التأثّر وهو يقول:
- أيا عـــيْنُ جــــودي بالدمـــوعِ
على "رِكسِ"
جراحُ قلبي عليـه ظهرتْ في أشعة "إكسِ".
وما إن انتهى سيادته
من المَطْلَع حتى أجهشت بالبكاء الشديد .. فراح يطيّب خاطري لكنني قلتُ له ودمعى
يسيل على خدودي:
- تسمح لى أرقع بالصوت الحيّاني يا فندم؟
رَبَّت الرجل على
ظهري مهدِئاً فواصلتُ حدیثي بصوْتٍ مختنق:
- واللهِ ما رأيتُ ولا قرأتُ ولا سمعتُ
في حياتي شِعراً أقوى من هذا الشِعر .. "بُحتُري" إيه و"مُتَنَبّي"
إيه و"شوقي" إيه؟!!! .. بلا قرف .. هذا هو الشِعر وإلّا فلا .. أنا عايز
أصرخ با فندم .. عايز ألطم لو سمحت .. ده شِعر أكيد المفعول يا فندم.
ثم أجهشتُ بالبكاء لدرجة
العويل .. هدّأ "الزناتي" بيه من روْعي وهو متأثّرٌ جداً فبدأتُ أتأسّف
له لأن الرثاء قوي جداً ويستدعي الدموع والصوات .. وقلتُ له لو أن "شوْقي"
الذي يقولون عنه أمير الشعراء عاش حياته مرّتيْن لما استطاع أن يأتي ببيتٍ واحدٍ
في قوّة هذا الشِعر .. ابتسم "الزناتي" بيه في تواضع ثم واصل إلقاء
القصيدة وسط بكائي الشديد .. وراح الرجل يلوِّح بيده في اندماجٍ شديد حتّى اصطدمت
يده بالمحبرة (زجاجة الحبر) فطارت المحبرة واندلق ما بها من حبرٍ على بدلتی وتوقّف عن
الالقـاء ليعتذر لي .. لكنني رُحت استغفر الله أمام اعتذاراته وقلت له إنه لشرفٌ
عظيمٌ أن يدلق سيادته الحبر على بدلتي .. وكنت أريد أن أزيل عن سيادته الحرج
فناولته المحبرة ورجوْته في توسّـلٍ أن يدلق ما بقي منها فوْق بدلتي فرفض .. حاولتُ
أن أُمسِك يده لأقبلها وأنا أستحلفه بالله أن يدلق بقية الحبر على بدلتي وقلتُ له أن
بدلتي زرقاء وجربانة وقد ردّها الحبر إلى لوْنها الطبيعي إذ أن لوْن البدلة الأصلي
هو "بلو بلاك" وأن الحبر المدلوق عليها هو غاية المراد من رب العباد ..
وأمام إلحاحي الشديد أمسك "الزناتي" بيه بالمحبرة وصـبّها على البدلة بين
عبارات شُکري .. ثم أكمل إلقاء القصيدة .. ولم أعُد أتعب في خلق الدموع بعد ذلك
فقد كنتُ أبكي بحُرقة على البدلة اللي حیلتي.
الثلاثاء:
انتشر خبر اجتماعاتي
الثنائيّة المطوّلة مع "الزناتي" بيه بين الموظّفين .. أنهم لا يعرفون
أن هذه الاجتماعات تدور حوْل مباريات النادي "الإسماعيلي" أو سماع شِعر "الزناتي"
بيه الذي استطعتُ أن أقنعه بأنه أعظم شعراء التاريخ .. كما أقنعتُه بأن يحوّل
قصيدته "وصف خرابة في وقت الأصيل" إلى ملحمةٍ شِعريّة .. وأقسمت له أن
ملحمـة "هوميروس" ستختفي إلى جوار هذه الملحمة العظيمة.
الأربعـاء:
الموظّفون يضربون لي
السلامات باحترامٍ شديد في كل مكتب وكل ممر من ممرّات المصلحة و"البسطويسي"
أفندي يحاول التقرّب مني .. قلتُ له وأنا أنظر إليه من فوق لتحت أنني لن أعاتبه على
قِلّة أدبه معي فيما مضى وأنني سأكتفي بأن يستدعيه "الزناني" بيه غدا
ليوبّخه.
الخميس:
قلتُ للـ"زناتي"
بيه في سياق الحديث أن "البسطويسي" أفندى يشتم في النادي "الإسماعيلي"
وأنه راهن الموظّفين على أن "الأهلي" سيكسب الدوري .. ضرب "الزناتي"
بيه كل الأجراس التي حوْله وهو في حالة هياجٍ شديد وطلب استدعاء "البسطويسي"
الذي جاء يرتعد من الخوْف بينما أنا أجلس مع البية المدير .. لم يتعرّض البيـه
المدير للمسألة الكرويّة وإنما وبّخ "البسطويسي" توْبیخاً عنيفاً على
أهمـاله في العمل ثم طرده من المكتب.
السبت:
"البسطويسي"
أفندی ینادیني الآن: "يا عبده بيه" .. وأصبح اسمى الآن بين الموظفين: "عبده
بيه الحنش".
الإثنيْن:
توفيتْ اليوْم حماة "الزناتي"
بيه متأثرةً بدماملها .. وكنتُ عنـد البيه المدير عندما تلقّى هذا الخبر الحزين
بالتليفون .. لطمتُ بشدّة حتى كادت أصداغي تقع من على وجهي .. بكيتُ بحرقة وكان "الزناتي"
بيه يهدّىء من روْعي .. وخرجتُ من عنده لأطوف بكل إدارات المصلحة لأجمع الفلوس
اللازمة لنشر نعي الفقيـدة باسم كل إدارة وكل قِسم وكل قلم .. جمعتُ مبلغاً ضخماً.
الثلاثاء:
ظهرتْ صفحات الوفيات
في الصُحُف اليوْم وكل أعمدتها تنعي فقيدة أسرة "الكروديا" السيّدة "تفيدة
هانم الكروديا" .. كان أبلغ نعي هو النعي الذي نشرتُه باسمى وقلتُ فيه:
- بقلبٍ تمزّقه سكاكين الحُزن ومطاوي
الفجيعة ينعى "عبـده الحنش" السيّدة البارّة ربّة الصون والعفاف "تفيدة
هانم الكروديا" التي اختطفتها يد المنون بعد أن زرعتْ في جسدها الطاهـر حقولاً
من الدمامل الشرّيرة الكبيرة .. فإلى جنّة الخُلْد يا حلوة يا صغيّرة يا سكّرة ..
ونامي نامي یا ملاكي من غير دمامل .. واتركي الدمامل في قلوبنا الجريحة نقول منها
آهٍ ثم آهٍ ثم آه.
الأربعـاء:
نعي "تفيدة
هانم الكروديا" لا يزال يحتل كل أعمدة الوفيات في الصُحُف .. حيْث نشرتُ اليوْم
نعياً باسم أولادي الذين يعرفهم سـيادة المدير .. ولكل ولدٍ نعيٌ مستقل قلت فيه:
- "شِحته عبده الحنش" ينعى
السيّدة "تفيدة هانم الكروديا" – "أبو جريشـة عبده الحنش"
ينعى السـيّدة "تفيدة هانم الكروديا" – "أميرو عبده الحنش"
ينعى السيّدة "تفيـدة هانم الكروديا" .. وهكذا.
قالت زوجتي:
- واحنا لنا أولاد بالاسامي دي يا عبده؟
نهرتهـا قائلاً:
- اسكتي يا وليّة يا حمارة .. إيش عرّفِك
انتي.
الخميس:
نعي "تفيدة هانم
الكروديا" لا يزال يملأ كل أعمدة الوفيات.
الأحد:
بدأتُ أجمع الفلوس
استعداداً لنشر النعي من جديد في ذكرى الأربعين.
السبت:
أحيل "الزناتي"
إلى المعاش .. طالبني الموظّفون بالفلوس وهم يلعنون سنسفيل "تفيدة الكروديا"
.. شتمني "البسطويسي" أفندي وقال لي أنه سيخرب بیتي.
الأحد:
دخلتُ لتهنئة سيادة المدير العام الجديد وعبّرت له عن فرحتي وبهجتي بقدومه السعيد بعد الأيّام السوْداء التي قضيناها مع "الزناتي خليفة".