صورة واحد مهذب
السبت:
استضافوني اليـوْم
في برنامج "دُقّي يا مزيكا" .. قدّمني الأستاذ "بركة المبروك"
- مقدم البرنامج - إلى جمهور الحاضرين تقديماً فخماً مهولاً إذ قال:
- سیّداتي آنساتي سادتي: نقدِّم لكم
الرجل التُحفة "ماضي بيه الأرناؤوطي" .. "ماضي بيه الأرناؤوطي"
- أيّها السادة - خبرةٌ مائة سنةٍ في فن المخاطَبة بكل قِلّة الذوق .. فإن جنابه
هو مخترع الصيغ والعبارات في المكاتبات والخطابات التي ترسلها المصـالح والهيْئات إلى
المواطنين .. "ماضي بيه الأرناؤوطی" - أيّها السادة - رجلٌ مؤثِّرٌ جداً
.. فلا تزال آثار أفكاره الحكوميّة التركيّة القديمة موجودةً إلى يوْمنـا هذا في
بعض المكاتبات التي ترسلها المصالح إلى الناس فهو صاحب العبارات والألفاظ قليلة
الذوق مثل: "وعلى المذكور أن يحضر في الساعة 8 أفرنكي وإلا خربنا بيته"
.. فهذا الرجل التُحفة هو مخترع كلمة "المذكور" وقد نال رتبة البكويّة
على هذا الاختراع التركي .. كما نال معها رضا أفندينا لِـما في هذه الكلمة من
استهانةٍ واستخفافٍ بالمواطن .. إذ أن كلمة "المذكور" هـذه يمكن أن تُطلَق
على أي جحش أو أي كوز أو أي مقطف أو أي حاجـة يشير إليها الإنسان من طرف أنفه في ألاطةٍ
واستعلاء.
ثم التفتَ إليَّ
الأستاذ "بركة" وبدأ يسألني:
- "ماضي" بيه يا تُحفة ..
ممكن تدّينا فكرة سريعة عن فن مخاطبة المواطنين في الخطابات التي توجهها إليهم
المصـالح والهيئات؟
فجاوبته وأنا أتصنّع
الأهميّة:
- في الواقع هذا فن عظيم تعلّمناه على
يد الحكّام الأتراك وقد كان أستاذي الأوّل في هذا الفن هو سعادتلو "مُمبار تورلي"
أغا باشا كبير كبراء ديوان المكاتيب الحكوميّة السَنيّة الذي كان يقوم بصياغة
نماذج الخطابات الحكوميّة الموجّهة الى أفراد النـاس .. وكان "مُمبار"
باشا يهیج هياجاً عنيفاً إذا لاحظ أنني أخطأت وكتبت عبارة موجّهة إلى المواطن كان
فيها شيء من الذوق .. وكان - رحمـه الله - يوصيني بأن تكون لهجة خطابات الدواوين إلى
الناس كلها احتقار واستصغار لأنها تخاطب المصريّين الفلّاحين .. وأن تكون هذه
اللهجة عنيفة الأسلوب حتى يشعروا بهيبة الحكومة التركيّة السَنيّة وحكّامها
التراكوة.
وقاطعني الأستاذ
"بركة" قائلاً:
- ممكن تدّينا مَثَل؟
وبعد أن تنحنحتُ
واعتدلتُ في جلستي قلت:
- الأمثلة كثيرة جداً .. أذكر مثلاً أن
مصلحة السِكّة الحديد كلّفتنا ذات مرّة بإعداد نموذج خطاب يُرسَل إلى سائقي
القطارات الذين يبلغون سِن المعاش .. ولمّا كان كل سائقي القطارات من المصريّين
الفلّاحين الأوْباش فقد وضعتُ ذلك في اعتبـاري وأنا أضـع صيغة الخطاب ثم عرضته على
"مُمبار" باشا .. فراح يقرؤه في سعادةٍ شديدةٍ وهو يبرم شواربه:
السائق فلان الفلاني:
تُخطِرك الحكومة السَنيّة بأنك مرفوتٌ من الميري رفتاً نهائيّاً ابتداءً من
شهر كذا لبلوغك سِن المعاش، ونحيطك عِلماً بأنه إذا كان في عهدتك أي بابوراتٍ أو
أي مالٍ ميري فيتوجّب التنبيـه على نفسك بأن تسلّمه فوْراً، فإذا لم تتنبّه إلى
هذا التنبيه في ظرف يومٍ من تاريخه بسبب أنك مغفّل أو حمار أو بغل تُضرَب مائة
كرباج وتُرسَل إلى جبل "فيظ أوغلي".
وعندما انتهى "مُمبار" باشا من قراءة هذه الصيغة أضاف جنابه هذه
الملحوظة الرائعة التي لا أعرف كيف فاتتني:
على البوسطجي الخرسيس النرسيس الذي يُسلّم هذا الخطاب للسائق المذكور أن
يصطحب معه اثنيْن من رجال السُلطة ليجلدوا المذكور عشرة كرابيج حتى يتنبّـه
المذكور إلى ما في هذا الخطاب من تنبيهاتٍ صادرة من الحكومة السَنيّة، فإذا قاوم
المذكور رجال السُلطة يُرسَل إلى جبل "فيظ أوغلي" مدى الحياة.
لا أعرف لماذا كان
الناس في الاستديو يضحكون وأنا أقول هذا الكلام المهم .. قِلّة حَيا .. انسحبت
غاضباً بيْن صفير الحاضرين وضحكاتهم.
الأحـد:
جلستُ اليوْم اكتب
خطاباً لزوجتي "جُلفـدان" التي سافرت إلى "الأسكندريّة" لتكون
إلى جوار بنتي "جلبهار" وهي تضع مولودها .. مزّقتُ الخطاب عشرين مرّة لأني
لم استطع أن اتخلّص من أسلوب الدواوين في مخاطبة الناس .. وبعـد محاولاتٍ عديدة خلصتُ
في النهاية إلى هذا الخطاب المهذّب الرقيق:
زوْجتي "جلفـدان":
يا وليّة وحشتيني الله يخرب بيتك يا شيخة .. ولو إن البُعد عنك غنيمة ..
كيف حال بنتنا الزِفتة "جلبهار"؟ .. وما أخبار المدعـوق مولودها "جنكيز"
.. جتكو الهَم منك لها له .. أحيطكِ عِلماً يا وليّة بأنك سيئة الأدب وعديمـة
التربية لأنك أهملتِ الرد على خطابي المؤرَّخ في ۲/۲، وهذه مخالفةٌ جسيمةٌ أحمّلكِ مسئوليّتها
.. كما أُنذرِك يا حمارة بأنه إذا تكرّر منـكِ ذلك ستُعرّضين نفسِك للعقوبات
المنصوص عليهـا في المواد ٢٥ و٢٦ و٢٧ من قانون الأحوال الشخصيّة وهي الطلاق فوْراً
بلا نفقة ولا مؤخَّر صداق مع حرمانِك من العفش والأولاد.
والآن غوري ف داهية .. الله لا يرجِعِك .. والسلام.
زوجِك وتاج راسِك: "ماضي الأرناؤوطي".
الثلاثاء:
زُرتُ صديقي العزيز "حِشمت" بيـه "الإنكشاري" مدير
شركة "أوتوماتيك" لبيع الأجهزة الكهربائيّة .. وبينمـا نحن ندردش حدثتْ
مصيبةٌ كبيرة .. إذ دخل علينا ولد هلفوت من شُـبّان اليومين دول يعمل مديراً لإدارة
المبيعات بالشركة .. قيل أنه درس في الخارج والله اعلم .. فإن ما أتاه من حماقةٍ
اليوْم تدل على جهله المطبق وخيبته الثقيـلة .. إذ قدّم أوْراقاً إلى "الإنكشاري"
بيه .. وما أن قرأها "الإنكشاري" بيه حتّى هاج هياجاً شديداً وهو يلعن سنسفيل
جدود الولد مدير المبيعات .. وعندما استفسرتُ من "الإنكشاري" بيه عن
الموْضوع وجدتُ نفسي في حالة غضبٍ هائلٍ فوقفتُ وضربتُ الولد قلميْن وطردتُه من
المكتب لاعناً الزمن النكد الذي جعلنا نرى هذه الاشكال النكد .. فقد جاء ذلك الولد
الأرعن بيدعةٍ لها العجب .. والبدعة هي عِدّة نماذج مختلفة لخطابات كتبها ذاك
الفَسْل لإرسالها إلى العملاء الذين تأخّروا في دفع الأقساط مدّعياً أن أسلوب هذه
الخطابات هو أحدث ما وصل إليه من التعامل مع الناس .. ويقول نموذجٌ من هذه النماذج
التي كتبها ذلك الجاهل باسمه لا باسم الشركة كمان:
السيد المحترم فلان الفلاني: تحيّةٌ رقيقةٌ .. وبعد
تردّدتُ كثيراً في الكتابة إليك، غير أننى انتهز هذه الفرصة الطيّبة لأهديك
تحيّاتي واذكرك بأن القسط المستحَق عن شهر كذا لم يُسدَّد بعد، ولابد أنكم كنتم في
رحلةٍ أو مهمّةٍ خارج المدينة عاقتك عن السداد.
وإلی أن نلتقي في القريب العاجل لك مني أطيب التمنيّات.
المخلص (إمضاء)
عدنا نقرأ بقيّة تلك
النماذج الحقيرة ونحن نضرب كفّاً بكف على الزمن النكد جلّاب تلك البدع الرديئة ..
ثم رجاني "الإنكشاري" بيـه أن أكتب نموذج خطابٍ بما لي من خبرةٍ وفنٍ في
هذا الميدان .. فكتبت له هذا النموذج الرائع:
فلان الفلاني:
نُخطِرك أيّها المذكور أعلاه بأنك حرامي ونصّاب ولا تستحق معاملتنا الكريمة
عندما بِعنا لك كذا بالتقسيط، ونحيطك عِلماً یا غشّاش بأن حسابك المدين قد بلغ كذا
جنيهاً ولمّا كنتَ بلطجيّاً وحقيراً ومكانك اللومان؛ ولمّا كنتَ ضلاليا تأكل مال
النبي وتحلّي بمال الصحابة كما تبيّن من سلوكك معنا؛ فإننا ننذرك يا خنزير بأننا
سنتخذ ضِـدّك الإجراءات القانونيّة في ظرف ساعة من وصول هذا الخطاب إليك.
وتشرّف بقبول هذه: إسفوخس.
المدير العام (إمضاء).
هنّأني "حِشمت
بيـه الإنكشـاري" على هـذا النموذج الرائع واستدعى سكرتيره ليرسله إلى
المطبعة فوْراً تمهيداً لإرساله إلى الزبائن الحراميّة .. ثم جلسنا نتحدّث في أسفٍ
وحسرة على مثـل هذه الخطابات التي ترسلها الشركات إلى عملائها .. وكيف أن هذه
الخطابات ليس فيها من قلة الذوق والجليطة ما يكفي لإهانة الناس إهانةً بالغة.
السبت:
التقيْتُ بصديقي
القديم "كاظم بيه الكوارعي" الذي كان يعمـل معي في ديوان المكاتيب
الحكوميّة السَنيّة وبينما نحن نتذكّر أيّام زمان سألني "الكوارعي" بيه:
- مش إنتَ يا "ماضي" اللي
اخترعت كلمـة "المذكور" في خطابات الدواوين؟
- أيوه.
- طب ليه يا راجل يا طيّب ما انضمِّتش
لجمعيـّة المؤلفين والملحنـين وتاخذ حق أداء على الكلمة الخالدة دى؟
- واللهِ فكرة.
- دى بتنكتِب للناس ييجي مليون مرّة ف
اليوم .. فلمّا يطلع لك جنيه حق أداء علني تُخرُج لك يوميّاً بحسبة مليون جنيه.
ولم أكدّب خبراً وأسرعتُ
إلى جمعيّة المؤلفين والملحنين وقدّمتُ طلباً بالانضمام إليهـا.
الإثنيْن:
مُفلِس جـداً .. أرسلتُ
مع خادمي هذا الخطاب إلى جارى:
جاري المذكور:
أنبّهك إلى أننا في آخر الشهر، وأحيطك علماً بأنني في حاجـة إلى خمسمائة
جنيهٍ مصريٍ فقط لا غير، ولمّا كان للجار حقـوق على جاره فإنني أنذرك بعدم الإخلال
بهذه الحقوق، كما أُحمّلك المسئولية كاملةً في حالة إذا ما دفعتك سفالتك ونذالتك إلى
الاخـلال بهذه الحقوق، ولهذا فآمركم بالمبادرة إلى تسليم المبلغ في موعده فوْراً وإلا
فستُتّخَذ الإجراءات الرادعة لأمثالكم من السفلة والأنذال.
جارك في الشقّة اللي ف وِشّك.
طرد جاري الخادم ..
نذل صحيح .. هل هذا هو جزاء اللهجة المهذّبة التي خاطبته بها؟
الاربعـاء:
أنا في منتهى
السعادة .. فإن آثارنا تدل علينا .. إصطلاحاتنا التركيّة ما زالت تطل برأسها في
المكاتبـات .. فقد وقع في يدي اليوم خطابٌ موجّهٌ إلى سائق قطار خالف اللائحة التي
تنص على وجوب "عدم اهانة القطار" كُتِب فيه:
السائق فلان الفلاني:
نخطرك بأنه قد تقرّر خصم يوميْن من مرتّبك وذلك لثبـوت تعمُّـد إهانة
القطار بالوصول به مبكّراً عن موْعـده إلى محطّة الوصـول ممّا أجهد ماكينة القطـار
وسبّب لها النهجان الشـديد، وننبّهك إلى أن اللائحة تحترم كل قطارٍ كريم، ونحـذّرك
من تكرار هذه الإهانة مرّةً أخرى وإلا اضطررنا إلى إهانتك أنتَ شخصيّاً إهانةً
شديدةً بخصم نصف شهر من مرتّبك مع توجيه إنذارٍ بالرفت النهائي من المصلحة إذا تكرّرت
منك أي إهانةٍ للقطار الكريم ابن الأصـول والحَسَب والنَسَب.
صحيح أن الخطاب
تنقصه بعض الشتائم للسائق ولكنني سعيدٌ على أي حال لأنني أنا - "ماضي الأرناؤوطي"
- مخترع تعبير: "إهانة القطار" المنصوص عليها في لائحة "سكك حديد
مصر".
السبت:
اليوم عيد ميلاد
زوجتي الستّون .. اشتريْتُ لها هديةً صغيرةً مع خطابٍ رقيقٍ قُلتُ فيه:
يا ولية يا جلفدان:
نُخطرِك بأنكِ قد بلغتِ السِن القانونيّة للإحالة على المعـاش، ولهذا نحيطِك
عِلماً بأنكِ مرفوتة من البيت رفتاً نهائيّاً يا عجـوزة يا مُقرفة، وأنذرِك بأنه إذا
كان لديكِ أي عُهدة فيتوجّب عليكِ تسليمها فوْراً.
وكل سنة وانتي متنيّلة طيّبة.
الأحـد:
"الإنكشاري" بيه الكلب قرّرت مقاطعته وأنا في منتهى الغضب والثوْرة .. إذ أرسل المذكور لي خطاباً لأنني لم أدفع قسط المروحة .. يقول لي فيه أننى حرامي ونصّاب وضلالي باكُل مال النبي .. وأنهى خطابه لي قائلاً: إسفوخس؟