الفصل الثاني | سفاح كرموز (3)
وانتهز "سعد" فرصة مرور
"وزيري" بعربة اليد الخشبيّة التي يدفعها أمامه ويحمل عليها ما يبيعه أو
يشتريه من النسيج وخيوط الغزل فناداه بصوتٍ عال :
- يا عم "وزيري" .. تعالى هنا.
- خير يا معلّم "سعد"؟ .. فيه
حاجة؟
- صباح الخير الأوّل.
- صباح النور يا سيدي.
- باقول لك إيه .. ما يلزمكش خيوط غزل هندي
معتبرة؟ .. فيه عندي ممشّط ومسرّح كمان.
- بكل ممنونيّة .. عندك قد إيه وبكام؟
- مش ح نختلف يا عمّي .. إنت ناسي إنّك
بلديّاتي م الصعيد .. وكمان من شعب المسيح زيي .. يعني اللي عندك عندي يا عم الكل
.. السعر اللي ح تقول عليه ماشي.
- الرب يباركك يا "سعد" .. ما هو
ده العشم برضه .. لازماً المسايحة يحبّوا بعض ويقفوا جنب اخواتهم .. أومّال .. هيّ
دي الأصول بتاعة ولاد الناس.
- معلوم .. خلاص تعالى لي بالليل وما تقولش
لحد.
- وليه بالليل ؟ .. وليه ما اقولش لحد؟ ..
أوعى تكون سارق البضاعة دي م الكامب الانجليزي .. إنت عارف اللي يسرق حاجة م
القُرْنُص بيعملوا فيه إيه؟
- حد الله يا عم "وزيري" .. إنت
عارف إن انا راجل بريفيكس.
- أومّال إيه الحكاية؟
- الحكاية وما فيها إن البضاعة دي داخلة
متهرّبة م الجمرك ومش عايز حد ياخد خبر بيها علشان الراجل بتاعي اللي ف الجمرك ما
يتأذيش .. مش عايزين نقفل باب رزق ربنا فتحهولنا .. ولّا إيه؟
- خلاص .. أنا ح اجي لك بعد المغربيّة .. أنا
كده كده ح ابقى قريّب من هنا .. أصل الحاج "برعي" اللي جنب منك هنا كان
دافع لي حق خمسين توب قماش من أسبوع .. ح اجي اوصّلهم له وافضّي
العربيّة علشان اخد البضاعة من عندك.
- وعلى إيه ما تيجي الأوّل على هنا ومعاك
بضاعة الحاج "برعي" .. أنا أوْلى.
- ها ! .. أوْلى ف إيه؟
- آآآ .. آآ .. قصدي أنا أوْلى إنك تعدّي
عليّ الأوّل لإن الشونة هنا قبل شونة الحاج "برعي" .. يعني تعالى على
هنا الأوّل ومعاك البضاعة التي ح توصّلها للحاج وانا ح احمّل البضاعة اللي ح
تشتريها من عندي على عربيتك .. وبعدين تاخد العربيّة وعليها البضاعتين وتفوت ع
الحاج وانت ماشي ع السكّة تسيب له بضاعته وتتكل على الله تروّح بالبضاعة بتاعتي
لوحدها .. أنا قصدي بدل ما تروح وتيجي يعني.
- أيوه يا ابني .. بس انا صحّتي ما تجيبنيش
اشيل البضاعتين سوا.
- إخص عليك يا عم "وزيري" .. وانا
رحت فين! .. ما انا ح ابقى معاك وح اساعدك طبعاً.
- زين .. يبقى ميعادنا الليلة دي .. بس زي ما
اتفقنا .. السعر اللي ح اقول عليه انا.
- عيب يا عمّي .. كلام رجّاله .. ده انت ح
تنبسط قوي .. ههههه .. بس تقّل جيبك علشان البضاعة بالهبل.
- ماشي.
وعندما جنَّ الليل قلَّ سيْر الناس في شارع
قنال "المحموديّة" وجاء "وزيري" يجر بصعوبة عربته الخشبيّة
وفوقها الكثير من أثواب الأقمشة التي اتفق مع الحاج "برعي" على بيعه
إيّاها فتجاوز بوّابة شونة "سعد" وعبر فناءها الأمامي ثم دخل بعربته إلى
داخل المخزن المسقوف فألفى "سعد" جالساً على مكتبه الصغير ينتظره فألقى
عليه التحيّة وسأله :
- أومّال فين البضاعة يا "سعد" يا
ابني؟
- طب سيب العربيّة عندك يا عم
"وزيري" وتعالى اقعد جنبي هنا علشان تعاين الغزول.
- ماشي يا سيدي .. على الله تكون البضاعة
كويّسة زي ما بتقول .. إيه يا "سعد" ده؟ .. إنت فارش تحت المكتب
والكراسي جِلد ومن فوقه قماش .. يا ابني حرام .. طب مش ح اتكلّم ع القماش .. ما هو
عندنا منه كتير .. إنما متر الجِلد بالشيء الفلاني ده الوقت .. طب ما تحط حصيرة أو
كليم قديم .. أو حتى بلّط المخزن بدل ما هو ع التراب كده.
- ما يهمّكش يا عم "وزيري" .. أهم
حاجة الأرض ما تتوسّخش .. شوف كده عيّنة الغزول أهِه وقول لي رأيك فيها.
واعتدل "وزيري" في جلسته على
الكرسي الخشبي وأخذ يمعن النظر ويفحص ويقلّب في خيوط الغزل التي أغراه
"سعد" بشرائها بثمنٍ زهيد، وفي هذه اللحظة كان "سعد" قد التف
من ورائه وعاجله بضربةٍ قويّة واحدة من ساطوره ففصل رأسه عن جسمه فسقط الكهل من
فوْره فوق القماش المفروش على الأرضيّة ومن تحته قطعة الجلد الكبيرة، وأسرع
"سعد" فأفرغ أولاً البضاعة التي أتى بها "وزيري" على عربته
فوزّع أثواب الأقمشة على جنبات الشونة ولم يجد مكاناً سوى خلف الباب من الداخل
ليحفر فيه قبر "وزيري" ففرغ سريعاً من عمل حفرةٍ تكفي جسمانه الذي لفّه
بالقماش الذي سقط فوقه القتيل وأودع جثّته في الحفرة بعد أن انتزع من بيْن طيات
ملابسه النقود الكثيرة التي كانت في محفظة الضحيّة والتي وضعها خاويةً - إلّا من
بطاقة هويّته وبعض الأوراق - بجانب رأسه المذبوح والدم يقطر منه، ثم اتّبع نفس
خطواته المعهودة فردم الحفرة ولكنه لم يساويها جيداً ولم يضع فوقها أثواباً من
الأقمشة لضيق المكان فتركها وهي غائرةٌ عن باقي الأرضيّة قليلاً ولم يهتم بذلك لأن
الحفرة كانت تختبئ وراء باب الشونة فلا تظهر للعيان، ثمّ سخّن المياه ومسح بها
قطعة الجلد من الدماء التي لطّختها ثمّ نثر عليها عطر "ريحة القسيس"
وأخيراً قطّع عربة عم "وزيري" الخشبيّة إلى قطعٍ صغيرة مستخدماً فأساً
كانت عنده ولكنه ترك ترسيْ (عجلتيْ) العربة كما هما فقد كانا محاطيْن بإطارٍ من
الحديد يستعصي على الفأس ففصلهما عن العربة ووضعهما جانباً فوق قبر صاحبهما وراء
الباب، أمّا قطع الخشب فنقلها خارج المخزن ووضعها بالفناء وأضرم فيها النار كي
يُخفي معالم جريمته الشنعاء.
وانصرم أسبوعٌ كامل دون أن يثار ما يعكّر صفو
"سعد" فقد مرّت جريمته مرور الكرام بعد أن عرف الناس باختفاء
"وزيري" فصاروا يتساءلون عن السر وراء ذلك ويتبادلون الشائعات حوله فلم
يتبادر إلى ذهن أحدٍ منهم الصلة بينه وبين "سعد" الذي ابتعدت عنه الظنون
والشكوك فلم يستشعر حرجاً أو تكلّفاً عندما أخذ يصرف من أموال ضحيّته ويقبض ثمن
بضاعته التي باعها لعدّة تجّارٍ أفهمهم أنه حصل عليها بعد تهريبها من الجمرك.
وهكذا استمرأ "سعد" القتل والتذبيح واستسهل الحصول على المال الوفير دون تعبٍ أو لأي فأهمل عمله أكثر فأكثر وأساء في المزيد من تصرفاته الطائشة وعكف على تنويع علاقاته النسائيّة بمَن تستطعن تلبية نزواته الخرقاء ورغباته النَزِقة، وتمكّن منه الشيطان كل تمكّنٍ فأصبح هو مَن يحرّكه وأضحى مَن يوجّهه وأمسى مَن يرشده وبات مَن ينصحه فصار "سعد" ألعوبةً في يد إبليس.