مجموعة أزجال "بيرم التونسي" التي هاجم فيها الملك "فؤاد"
في 9 أكتوبر عام 1917 تولّى الأمير "أحمد
فؤاد" (ابن الأصغر للخديوي "إسماعيل") حُكم "مصر" خلفاً
لأخيه السلطان "حسين كامل" ولُقِّب بـ"السلطان فؤاد الأوّل"
.. وانتهز المحتلّون الإنجليز عهده ليعزّزوا من نفوذهم في بلادنا المنكوبة ويمارسوا
ظلماً أكبر على شعبنا المسكين ممّا دعا "بيرم التونسي" (التونسي الأصل
السكندري الموْلد المصري الهوى والانتماء) إلى مهاجمة السلطان "فؤاد"
بضراوة على جميع الأصعدة ولكنه قام بالتركيز أكثر على فضائح الملك الشخصيّة
والأسريّة مستغلّاً عدم قدرة السلطات على محاسبته أو إخضاعه للمحاكمة في
"مصر" بسبب جنسيّته التونسيّة والتي كان يتمتّع حاملها آنذاك بنفس حقوق الجنسيّة
الفرنسيّة.
وقد ذاع في البلاد أن سراي (قصر) السلطان "فؤاد"
كانت مسرحاً لعلاقةٍ غراميّةٍ جنسيّة بين الأميرة "فوْقيّة" ابنة
"فؤاد" من زوجته الاولى الأميرة "شيوه كار" (شويكار) وبين "محمود باشا فخري" محافظ العاصمة (القاهرة).
ملحوظة: "محمود باشا فخري" هو ابن
"حسين باشا فخري جنكات" الجركسي الذي تولّى منصب حكمدار (محافظ) "السودان"
ومنصب ناظر (وزير) في عدّة نظارات (وزارات) ثم عيّنه الخديوي "عباس
حلمي" الثاني في منصب رئيس النظارة (الوزارة) لمدّة ثلاثة أيّام فقط قبل أن يضطر
إلى إقالته بناءً على أوامر اللورد "كرومر" المندوب السامي البريطاني
آنذاك نظراً لأن "حسين" كان معارضاً للمشروع البريطاني لإصلاح القضاء في
"مصر".
وعندما عَلِم السلطان "فؤاد" بتلك
العلاقة استدعى "محمود" وأمره بالزواج من "فوْقيّة" فوْراً لقطع
الألسنة التي تلوك سيرة الأسرة العلويّة .. ولكن "بيرم" كتب زجلاً على
وزن أغنيةٍ شعبيّةٍ كانت شائعة حينذاك مطلعها "مَرْمَرْ زماني .. يا
زماني مَرْمَرْ" )وهي أغنيةٌ فولكلوريّةٌ
قديمة غير أغنية "علي الحجّار" الحديثة التي لحّنها "فاروق
الشرنوبي" ونَظَمَها "جمال بخيت" بعنوان "مرمر زماني .. زماني
مرمرش" المستوْحاة من نفس الفولكلور) وأسمى هذا الزجل "قصيدة القَرْع
السلطاني" وقال فيها:
البنت ماشية من
زمان تتمخطَر
والغَفْلة زارعة ف الديوان قرع اخضَر
تشوف حبيبها ف الجاكِتّه الكاكي (يقصد البدلة
العسكريّة)
والستّة خيل والقَمْشَجي الملاكي (يقصد العربة الملكيّة التي تجرها ستة من الخيول والتي كان يمشي أو يهرول أمامها الرجل "القمشجي")
تسمع قولِتْها: ..... يا وراكي (لا داعي
لتفسير قصده الخارج عن حدود الأدب)
والعافية هبلة والجدع متشطَّر (برضه ما فيش
داعي)
الوِزّة من قبل الفرح مدبوحة (ما قلت لك ما
فيش داعي)
والعَطْفة من قبل النظام مفتوحة (وبعدين معاك
.. ما اقدرش اقول)
والديك بيدّن والهانم مسطوحة (مش قايل .. إفهمها
زي ما تفهمها)
تِقرا الحوادِث فى جريدة كاتر (يقصد صحيفة "رو كاتر فا نوف"
الفرنسيّة)
ياراكب الفيتون وقلبَك حامي (يقصد
"محمود" باشا الذي كان يركب عربةً ملكيّةً من ماركة "فيتون"
التي يتم تصنيعها في "فرنسا" خصّيصاً للأمراء وعِلية القوْم)
حوِّد على القُبّة وسوق قُدّامي (يقصد سراي
"القُبّة" أحد القصور الملكيّة)
تلقى العروسة شِبْه مَحْمَل شامي
(يقصد أن العروسة "فوْقيّة" ضخمة الجسم كالهوْدج الذي يُحمَل فوق ظهر
الجمل ضمن قافلة الحج التي تخرج من بلاد الشام)
وأبوها يشبه ف الشوارب عنتر (أبوها هو
السلطان "فؤاد")
وحُط زَهْر الفُل فوقها وفوقَك
وجيب لها شِبْشِب يكون على ذوقَك
ونزّل النونو القديم من طوقَك
ينزل ف طوعَك لا الولد يتكبّر
ده ياما مَزّع كل بدلة وبدلة
وياما شمّع بالقُطان والفَتلة (القطان هي
الدوبارة القطنيّة والفتلة هي الخيط المجدول .. وتعبير شمّع الفتلة له قصّة طويلة
ويُستخدم كنايةً عن سرعة الهروب)
ولما جا الأمر الكريم بالدُخْلَة
قلنا اسكتوا خَلّوا البنات تتستّر
نهايته .. يمكِن ربّنا يوفقكم
ما دام "حفظية" الماشطة بتزوّقكم
دي تبقى سَكْرَة مالطي داهية ما تفوّقكم
(المالطي هو مَن ينتمي لجزيرة "مالطا" وكان الشخص المالطي معروفاً
بتناوله الخمر بكثرة حتى يسكر بشدّة ويفقد الوعي)
بس ابقى سيبَك م اللى فات ده مقدّر
مرمر زماني .. يا زماني مرمر
******************************
ولمّا سمع "فؤاد" هذا الزجل هاج
وماج ولكن الامتيازات الأجنبية حالت دون أن ينال من "بيرم"
(الأجنبي الجنسيّة كما سلف ذكره) أو يعاقبه .. فانتهز "بيرم" الفرصة وكتب
زجلاً آخر أكثر جرأة .. فبعد سبعة شهورٍ فقط من زواج السلطان "فؤاد"
بزوجته الثانية الملكة "نازلي" تم الإعلان عن موْلد ابنهما
"فاروق" في 11 نوفمبر سنة 1920 .. ولذلك أُشيع أن الحَمْل في "فاروق"
قد حدث قبل عقد القران فكان الزجل الذي كتبه بعنوان "البامية السلطاني" حيث
قال فيه:
البامية ف
البستان تهِز القرون
وجنبها القرع
الملوكي اللطيف
والدَيْدَبان داير يلِم الزبون
صهين وقَدِّم
وامتثِل يا خفيف
نزل يلَعْلَط
تحت بُرجه القمر
ربّك يبارك لك
ف عُمْر الغُلام
يا خسارة بس الشهر كان مش تمام
******************************
ثم نشر "بيرم" زجلاً أشد
عنفاً بعنوان "هأ هأ" قال فيه
:
اسمع حكاية
بعدها هأ هأ (إضحك)
زهر الملوك ف
الولد أهو طأ طأ
مالناش قرون كنا
نقول مأ مأ
وناكل البرسيم
بالقُفّة
سُلطان بلدنا حُرْمِته
جابِت
وَلد وقال سَمّوه بـ"فاروق"
"فاروق" فارِقنا
اومّال بلا نيلة
دي "مصر" مش عايزالها رذيلة
دي عيشة
بالقوّة وبالتيلة
ومين بقى يلحس
دي التفّة
يا داية ليه
ما انتيش حِدّاية
خدتيه وروحتي ع
الجبلاية
جبتي لنا خبره
وتَنِّك جاية
ندق لِك ف
البيت الزَفّة
يا عزرائيل
اخلص بقى تاوي (تاوي تعنى هنا إدفِن في التراب)
ناقِص سِوى وَدّيه
ع النار
وخد كمان "جوليا قطّاوى" (كانت وصيفة الملكة "نازلي"
وكان زوجها يهودياً تقلب في عدة مناصب هامة في الدولة)
ياما الزمان كشف أسرار
******************************
ومع تكرار تلك المواقف من "بيرم
التونسى" اتصل السلطان "فؤاد" بالقنصليّة الفرنسيّة وأمرهم بترحيله
إلى "تونس" فوْراً .. وبالفعل تم طرد "بيرم" من مصر في
25 أغسطس 1920 ولم يُسمح له حتى بوداع أهله وكان عمره وقتها سبعة وعشرين عامًا .. وما
أن استقر فى "تونس" حتى أرسل زجلاً يسخر من السلطان بقوله:
ما قلتليش
يا راعي الرعيان
يا اللي هنا بقى لك أزمان
إزّاي أحوال
الخِرفان
بتوع المجزر
وبعد تصريح 28 فبراير 1922 (الذي
قرّرت فيه "بريطانيا" إنهاء الحماية البريطانيّة على "مصر" وأعلنت
أن "مصر" دوْلة مستقلّة ذات سيادة) كان لابد من تغيير نظام الحكم المصري
من سلطاني إلى ملكي وهو ما حدث بالفعل فصار لقب "فؤاد" هو "ملك مصر
والسودان وسيّد النوبة وكردفان ودارفور" .. وبالرغم من أن "مصر"
أصبحت من الناحية النظرية ملكيّة دستوريّة إلا أن الدستور المصري الجديد منح الملك
"فؤاد" سلطاتٍ كبيرة وكان بإمكانه أن يُصدِر التشريعات وحده ويعقد
البرلمان ويحلّه فضلاً عن قدرته على التدخّل في الشؤون المدنية والعسكرية للدولة ..
ولم يتوانى "فؤاد" عن استغلال سلطاته الاستبداديّة ممّا أدّى إلى صدامه
الدائم مع القوى الوطنيّة في البلاد فعاد "بيرم" إلى مهاجمته من جديد ونشر
زجلاً بعنوان "مجرم ودون" جاء فيه:
ولما عدمنا بـ"مصر"
الملوك
جابوك الانجليز
يا "فؤاد" قعّدوك
تمثّل على
العرش دور الملوك
وفين يلقوا
مجرم نظيرك ودون
وخلّوك تخالِط
بنات البلاد
على شرط تقطع
رقاب العباد
وتنسى زمان
وقفتك يا "فؤاد"
على البنك
تشحت شويّة زتون (يقصد بالبنك المنضدة الرخام التي يجلس خلفها صاحب محل البقالة
ليحاسب زبائنه على مشترواتهم)
بذلنا ولسّه
بنبذل نفوس
وقُلنا عسى الله
يزول الكابوس
ما نابنا إلّا
عرشك يا تيس التيوس
لا "مصر" استقلّت ولا يحزنون
******************************
وهكذا انطوت صفحة قديمة من الصراع بين الحاكم والمحكوم بانتصار الأخير نصراً ساحقاً بعد أن خلّد التاريخ والشعب اسمه وصار مضرب الأمثال في شجاعة ووطنيّة ابن البلد في حين سقط الأوّل من ذاكرة الأمّة فلم يعد أحدٌ يستدعي اسمه إلّا في مناسبات الخيانة والعار .. ليظل الشعب دائماً فوق السلطة وتحت أمر الوطن رافعاً راية: "أنا المصري".