صورة واحد عيّان
الأحـد:
وجعٌ شديدٌ جدّاً في أذني .. صراخٌ طوال
الليـْل .. طلبـوا لي الإسعاف .. نقلتني إلى مستشفى "عيني يا عيني" في
الساعة الثالثة صباحاً .. ترکوني على نقّالةٍ فوْق الأرض وانصرفوا .. ناديْت على
الدكتور .. أي دكتور .. لم يرد أحد فقمت من على النقّالة ومشيْت في الطرقة أنادي:
-
يا اهل الله يا اللي
هنا.
لم يرد احد .. صرخت من شِدّة الألم ففوجئت
بواحد تومرجي طول بعرض يفرك عيْنيْه ويشمّر ذراعيْه .. انقض بيده على رقبتي وهو يصيح:
-
عايزين ننام جتكوا
البلاوي.
لم أحس بأي ألمٍ بعد ذلك .. إذ أخرج شومةً غليظةً
من مريلته وضربني على رأسي فسقطت فاقد الوعى.
الإثنيْن:
فاقد الوعي.
الثلاثاء:
فاقد الوعي.
الأربعاء:
استيقظتُ من غيبوبتي اليوْم على صوت واحدٍ
يقول:
-
صباح الخير يا ابني.
-
صباح الخير .. أنا فين؟
-
إنت في عنبر (٤) ..
خد یا ابني
-
إيه ده؟
-
طبق كُشري تاكل
صوابعك وراه.
تناولتُ الطبق وأنا أحاول أن أفتح عيني
بالزور .. وسمعته يقول لي:
-
خد كمان شويّة دَقّة
شَطّة تفتح نِفسك.
بدأتْ آكل الكُشري فطبطب الراجل على ظهري وهو
يقول:
-
كُلْ كُلْ .. دي
الشطّة تِكوي الجرح وتنشّفه وفيها الشـفا بإذن الله.
-
لكن انا ما عنديش جرح.
-
إزای یا ابني .. دول
امبارح عملوا لك عمليّة وشالوا لك المرارة.
-
مرارة؟!!! .. لكن دي
ودني اللي عايزة عمليّة.
-
أهِه كلّها عمليّات
فيها الشفا .. ما تدقِّش يا ابني.
وضعتُ طبق الكشري لأكتشف أن بطني مربوطة وأن
كلام الرجل صحيح .. وبينما أنا أواجه هذه المفاجأة الغريبة طبطب الرجل على ظهري
وهو يقول:
-
الحساب تلاتة جنيه
ونُص.
-
حساب إيه؟ ..
-
حساب الكشري.
-
هو ده موش بتصرفه
المستشفى؟
-
لا يا ابني .. ده انا
هِنا عيّان زيّك .. محسوبك عمّك "جوده الكحّاح" .. عندي بعيد عنّك سرطان
في الحواجب.
عرفت من عم "جوده" أنه قد مضى عليه
أكثر من سنة بمستشفى "عيني يا عيني" فاضطر لفتح محل كُشري إلى جوار
سريره في العنبر حتّى يكسب رزقه من بيع الكُشرى للمرضى.
فجأة .. ساد العنبر السكون التام عندما دخل
من الباب البعيد رجلٌ ضخم الجثّة ذو شنبٍ مبرومٍ بالصابون .. يرتدى مريلةً وطاقيّة
وتُحيط به كوْكبةٌ من التومرجيّة .. ويمشى في عَظَمةٍ ويضرب هذا قلماً وذاك شلوتاً
وهو يتفقّد العنبر .. فهمس عم "جوده" في أذني:
-
ده سيادة الباش.
-
دكتور؟
-
باش یعنی باشتومرجي یا
قِفل .. ده الكل ف الكل هنا.
وصل سيادة الباش إلى سرير] فتوقّف وهو يقول:
-
إنت جديد هنا يا لوح؟
-
أيوه يا سيادة الباش.
من غير مناسبة قال في قَرَف:
-
جاتكوا البلاوي .. إنتوا
بتتحدفوا علينا منين.
ابتلعت الإهانة وانتهـزت الفرصة لأشكو لسيادة
الباشتومرجي ذاك التومرجي الذي ضربني .. فوبّخنی سیادته توْبیخاً شديداً وأفهمني أنني
حمار .. إذ أن قلب التومرجي "جمعة ماشست" رق لحالي بسبب الآلام التي كنت
أعانيها فناولني ضربةً مسكّنةً أفقدتنى الوعي .. ثم اختتم حديثه وهو يزغدني قائلاً:
-
ما هو انتوا كده ..
خيرٍ تعمل شرِ تِلقی .. جاتكوا البـلاوي.
اعتذرت لسيادة الباش ثم شكوْتُ له استئصال
مرارتي السليمة وعدم علاج أذني المريضة التي هي في حاجةٍ إلى عمليّةٍ عاجلة كما قال
لي دكتور المستوْصَف منذ شهريْن .. وعندئذ زغدني الباش زغدةً قويّةً وهو يقول
بعصبيّةٍ شديدة أنهم حاولوا إيقاظي من الغيبوبة لسؤالي عن مرضي فلم أستيقظ وأن "جمعة
ماشست" تومرجي الاستقبال هو الذي قال أن الآلام التي كنت أعانيها فيها شبهٌ
من آلام المرارة فعملوا لى العملية على هذا الأساس .. قلت للباش أنني كنت ساعتها
أمسك بأذني لا ببطني .. وعندئذ هاج الباش هياجاً شديداً هَبَّ على إثره عددٌ من
المرضى في العنبر لتهدئته .. وتقدّم أحدهم مني وضربني قلماً وهو يصيح:
-
ما تبطل لماضة بقى
يا واد انت مع سيادة الباش.
وارتفع صوت مريضٍ ثانٍ يقول وهو يضربني قفا:
-
إنت ما حَدِّش مالي
عينك ولّا أيه؟
وتقدّم ثالثٌ ليطوّح برأسه في وجهي قائلاً:
-
سفوخس.
وراحوا يهدِّئون الباش بعد ذلك وتقدم إليه عم
"جوده" بطبق كُشري فاعتذر الباش له عن تناوله وهو يقلبه بيده على سريري
قائلاً لعم "جوده" إنه لِسّه واكل فرخة مسلوقة بتاعة واحد عيّان في
العنبر المجاوِر .. وقفز مريضٌ آخر ليقدِّم جوزة بالمعسّل إلى سيادة الباش وهو
يقـول:
-
روَّق يا بيه روَّق.
وتناول الباش الجوزة وشد نفسين ثم زفر لي
زفرةً مخيفة ومضى يتفقّد باقي العنبر وبجواره تومرجي يحمل له الجوزة .. وتابعته
بنظري حتى خرج من الباب الآخر بينما انهمك عم "جوده" في لَم الكُشرى من
على سريري وهو ينصحني بالهداوة في معاملة سيادة الباشتومرجي.
الخميس:
آلامٌ مميتةٌ في بطني .. وآلامٌ ميتةٌ في
أذني أيْضاً .. أحضر لي عم "جوده" بصلة ًمفرومةً ووضعها في داخل أذني
وقال لي أن هـذه الوَصفة فيها الشِفا ولا الحَوْجة لعمليّة ولا دياولو.
وبعد برهة دخل العنبر بعض التومرجيّة وحملوا مريضـاً
بعـد أن لفّوه بملاية فرفع عم "جوده" سبّابته اليمنى عالياً ونطق
بالشهادتيْن ثم قال في تأثّرٍ واضح:
-
الله يرحمك يا "عتريس"
.. أصله امبارح زَوِّد في أكلة الفسيخ قوى.
وهز رأسه ثم واصل حديثه: برضه يعني الواحد
ياكٌل اللي ف نِفسه والأعمار بيد الله .. أنما يظهر "عتريس زوّدها امبارح.
الجمعـة:
النهار ده يوم الزيارة .. زارتني زوْجتي "أم
الباتعة" اليوْم .. كانت لطيفة جداً في أوّل الزيارة ولكنها فجأة ضربت بوزاً
وبِلّمِت.
-
ما لِك يا "ام
الباتعة"؟
-
ما ليش.
-
ما لِك؟
-
باقول لَك ما لیش.
وفجأة انفجرتْ في وجهي:
-
جتك سِتّين وَكسة ..
يا خايب يا نایب يا عِرّة الرِجّالة.
وقبل أن أستفسر منها عن السبب اندفعت تقول أنها
لم ترَ مريضاً واحداً في العنبر مش فاتح دُكّانة صغيرة جنب السرير يسترزق منها .. أشارتْ
إلى عم "جوده" وهو يضرب الوابور نَفَساً تحت صينيّة الكُشري .. أشارتْ إلى
"عوضين" الذي فتح قهوة بجـوار سريره يُقدِّم منها إلى المرضى وزائريهم الشاي
الأسود والجـوزة .. أشارتْ إلى "كتكوت" فسخاني العنبر الذي أحضر ترابيزة
بجانب السرير ورَصَّ عليها كل أنواع الفسيخ .. أشارتْ إلى "محمود الحلنجي"
الذي أحضر إلى جـوار سريره مكنة عصير قصب .. أشارت إلى عم "غنيم"
الكبابجي الذي جلس فوق سريره منهمكاً في التهوية على نار الكُفتة بمروحة ريش .. لم
يقطع حديثها الغاضب سوى واحدة سِت تقدّمت نحو سريری وهي تسأل :أم البائعة":
-
ألاقيش عندِك فَصّين
توم يا شابة؟ .. أحسن التقليّة ع النـار والنبي.
اعتذرت لها "أم البائعة" فانتهزتُ أنا
هذه الفرصة لأوبِّخ زوجتي توْبیخاً شديداً .. إذ أن كل زوجةٍ تطبخ لزوجها يوم
الزيارة كل ما يشتهيه .. أشرتُ الى "أم العجمي" التي جلستْ تشـوي السمك
لزوجها في العنبر .. إلى "أم رُزَّة" التي جلستْ تقلِّب لحمة الراس ف الحلّة
.. إلى "أم بمبوزيا" التي تخرّط الملوخيّة ع الطبليّة بجوار زوجها فوق
السرير .. عادتْ "أم الباتعة" إلى غضبها وهي تقول:
-
عشان رِجّالتهم بيكسبوا
فلوس من التجارة والشطارة ف العنبر .. ما تشوف لَك حاجة انت كمان تِعملها.
فوعدتها بأن أفتح دُكّانة جنب السرير في أقرب
وقت.
السبت:
نقلوا اليوْم ثلاثة من العنبر إلى المشرحة.
فاتحت عم "جوده" بشأن فتح دُكّانة
جنب السرير استرزق منها .. قال لي عم "جوده":
-
عليك وعلى الباش.
الأحـد:
بدأتُ اليوْم في التقرُّب إلى سيادة الباش ..
قدّمتُ إليه سيجارة أثناء مروره .. خطفها من يدي وهو يقـول:
-
هات جاتكوا البـلاوي.
قال لي عم جوده بعد انصرافه:
-
معلهش .. حبّة حبّة.
الإثنين:
نقلوا اليوْم اثنيْن من العنبر إلى المشرحة.
فاتحت اليوْم الباش في مشروعي .. قلت له:
-
العيد ع الأبواب
والزيارة للمستشفى ستكون باسم الله ما شاء الله مليانة بالعيال .. وكل سنة وانت
طيّب.
قال لي بكل امتعاضٍ وقرف:
-
وعايز ايه؟
-
عايز انصب مراجيح للعيال
ف العنبر.
قال :
-
وماله؟
قلت:
-
وعايز كمان أجيب
لعبة النَشان .. الدور باتنين جنيه واللي يكسب ياكل معلقة مهلبيّة بالتفتة الحمراء.
قال:
-
ما فيش مانع.
قلت:
-
وعايز كمان آآآآآ
.... إيه رأي سعادتك في أراجوز ننصبه في العنبر؟ .. العيال ح يفرحوا قوي.
قال:
-
وليه لأ.
قلت له:
-
ربنا يخليك يا باش.
قبّلتُ يده فمد لي يده الأخرى قائلاً:
-
ودى كمان.
الجمعـة:
"أم الباتعة" والأولاد وصديقي "عزّوز
البِسّة" عندي اليوم .. كانت "أم الباتعة" في منتهى السعادة
بمشروعي الذي أنوي تنفيذه في العنبر .. أوْصيتُها بإعداد صواني المهلبيّة المخطّطة
بالتفتة لزوم لعبة النَشان .. وكلّفت :عزّوز" بإحضار الأخشاب اللازمة
للمراجيح وقُرْص النَشان وشراء بنادير وكلوب وبندقيّة نَشـان من وكالة البلح.
السبت:
أوجاع شديدة في بطني .. بطني منفوخة جـداً
كأني حامل في تسعة .. قال لي عم "جوده":
-
عليك بدَقّة الشطّة
واسألني انا.
قدّم مرضى العنبر اليوْم شكوى إلى الباش تظلّموا
فيها من الباعة الذين يدخلون بعرباتهم إلى العنبر لبيع الطعميّة والباذنجان المقلي
والكُفتة والبطاطا والسجاير والمعسّل والحواوشي والكبدة الاسكندراني .. قالوا أن هؤلاء الباعة يهدّدونهم في أكل
عيشهم ويقلّلون أرزاقهم خصوصاً وإن العيد داخل.
الإثنيْن:
نصبت المراجيح أمام سريري والنَشان على يمين
السرير والأراجوز على الشِمال.
الأربعـاء:
العيد اليوْم .. وكل سنة واحنا طيّبين.
بطني كبرت جداً ولهذا نِمت على ظهري ووضعتُ
في فمي بوق فونوغراف لأنادی:
-
يالّلا يا وله قبل
ما يلعب.
العنبر آخر مولد .. زحام شديد من العيال ع
المراجيح .. "عزّوز البِسّة" يدير الأراجوز على دقّات "حسب الله"
.. مر الباش وكان سعيداً جداً إذ أخذ لفّة في المرجيحة وأكل مهلبيّة بعد أن لعب
النَشان وشاهد الأراجوز واتفرّج على الإيراد.
الخميس:
الشُغل على وِدنه في العنبر .. سمح لنا
الباش بإقامة يُفَط فوق السراير تعلن عن محلّاتنا داخل العنير .. علّق "عوضين"
يافطة مكتوبٌ عليها: "قهوة العنبر الوحيدة لصاحبها عوضين عوض" .. يافطة
عم "جوده": "كُل كُشرى ودَقّة باطمئنان .. تُشفى حالاً من المصران"
.. كتكوت علّق يافطة عليها: "فسخانى الشِفاء" .. ويفط تانية كثيرة
انتشرت فوق السراير في العنبر فأصبح شكله بهيجاً لطيفاً ولا سوق "التوفيقيّة".
السبت:
بطنى بتكبر أكتر واكتر .. قال لي عم "جوده":
-
دَقّة الشطّة وشرفك
.. خلّيك عليهـا.
الجمعة:
.......
السبت:
.......
ملحوظة: لم يُكمِل المريض المذكور نزيل عنبر (٤) بمستشفى "عیني یا عيني" يوميّاته .. وذلك لانتقاله إلى رحمة الله تعالى .. فله الفاتحة والدنيا والدوام لله.