هل التمثيل مهنة شاقة بالفعل؟ وهل يستحق الفنانون أجورهم الخيالية؟
في أحد لقاءاته مع الإعلام قال الفنان "شريف منير": "التمثيل مهنة صعبة جداً .. واحنا بنشتغل 24 ساعة متواصلة" .. واستكمل تصريحه مخاطباً المُشاهِد: "وفي الوقت اللي بتكون فيه قاعد تحت البطانيّة باكون أنا متبهدل في الشوارع .. علشان كده أجري غير أجرك وحياتي غير حياتك".
واسمح لي – عزيزي
القارئ – أن أسجل تلك الملاحظات التي يبدو بعضها بريء وبعضها الآخر خبيث (حسب
النيّة وطريقة الفهم):
- أظن أن هذا الأسلوب المتعالي في
الحديث عن مهنة التمثيل سبق وأن تكرّر كثيراً من فئات بعض المهن الأخرى التي ترى
أنها محورٌ للنقد اللاذع أو الحسد الشائع أو الحقد الساطع من هؤلاء المطحونين
المطالبين بالعدالة الاجتماعيّة لتبرر تميّزها عن باقي الشعب في الحياة الرغدة
والعيشة المريحة التي ينعمون بها:
·
فالسادة الضبّاط قالوا من قبل أنهم يحملون أرواحهم على كفوفهم ليحاربوا
اللصوص والإرهابيين وأعداء الوطن وأنهم يفنون أعمارهم وحيواتهم
من أجل أن تنام سيادتك آمناً مطمئناً مأنتخاً مشخّراً في حضن المدام أو الست
الوالدة .. رغم أن نسبةً كبيرةً منهم يعملون إداريّاً في المكاتب فقط ولا يعملون ميدانيّاً ولم يخوضوا أي معارك داخلية أو خارجية أبداً.
·
وعلى الجانب المضاد الآخر فإن اللصوص وتجار المخدرات والمهربين قالوا
أيْضاً أنهم يعانون الأمريْن أثناء ممارستهم لأعمالهم في الجو قارص البرودة أو
قائظ الحر مع تعرّضهم لمخاطر المطاردة وإطلاق الرصاص أو السجن في الوقت الذي لا
يشعر فيه مستهلكو المسروقات أو متعاطو المخدرات بمعاناتهم ولهذا فهم يستحقون تلك الأموال الطائلة التي يجمعونها.
·
حتى السيّدات الراقصات أيْضاً فقد قلن سلفاً أنهن تعرّضن للشقا والتعب
والبهدلة أثناء ممارستهن لمهنتهن الشاقّة .. فقد قالت كبيرتهن - التي علّمتهن الرقص - "فيفي
عبده" أن المشاهدين لها يجلسون وهم يلبسون المعاطف والفرو وينعمون بالدفء في
عز البرد في الوقت الذي تعمل هي فيه وهي ترتعد وترتعش شبه عارية متألّمةً من وخز
الألماظ الذي يتساقط أحياناً من بدلة الرقص ويدخل في باطن قدميْها الحافيتيْن ولا
حول ولا قوّة إلّا بالله.
-
يتناسى الناس أن لكل
مهنة مشاقها وعذابها ويتذكّرون فقط مصاعب مهنتهم هم فقط:
· فالعمّال يرون أنهم هم فقط مَن يبذلون جهداً عضليّاً كبيراً
يأخذ كثيراً من رصيد صحتهم التي هي رأس مالهم وعمادهم وبدونها لن يجدوا ما يسدوا
به رمقهم وجوع أطفالهم .. ناهيك عن تعرّضهم لأخطار الحوادث من الماكينات أو السقوط
من السقالات أو أي خلل في الأمن الصناعي.
· والفلّاحون يشتكون من عملهم لساعاتٍ طويلة تحت ظروف الجوْ
القاسية وتعرّضهم لضربات الشمس وأمراض البلهارسيا واستنشاق المبيدات المسرطنة
وخلافها.
· والمدرّسون يعانون من قِلّة الدخل وغباء الطلبة وأمراض الضغط
والسكر والقلب وأن أجورهم لا تتناسب أبداً مع قيمتهم في المجتمع.
· حتى الأطباء فهم يرون أن مهنتهم الهامّة والإنسانيّة تعرّضهم
للأمراض المعدية والاعتداء من أهالي المرضى مع استمرار عملهم الفعلي الجاد المجهد تحت
إمكانيّات متواضعة وضغوط عالية لفترات قد تمتد إلى 36 ساعة متواصلة مع احتمالية
مسائلتهم عند أي خطأ محتمل قد يصدر منهم.
-
ممّا لا شك فيه أن
العدالة الاجتماعية غائبة عن مصر (كباقي البلاد العربيّة) فغطّاس المجاري مثلاً
(وهو مثال واقعي لمَن يخرج للعمل وهو غير متأكّد من عودته لأسرته) يأخذ راتباً
متدنياً وكذلك عامل النظافة والطبيب والمدرّس وغيرهم .. عكس الفنانون ولاعبو الكرة
والراقصات الذين يعملون أقل ويتقاضون الملايين في وطنٍ فقير .. على عكس البلاد
الغنيّة التي يتقاضى فيه المشتغلون بقطاع التسلية (Entertainment)
كالفنانين ولاعبي الكرة الملايين أيْضاً ولكن عاملي النظافة والمهندسين والموظفين
وغيرهم هناك يسكنون في بيوتٍ مريحة ويمتلكون السيّاراتٍ ويعيشون جميعاً حياةً لائقةً
على حدٍ سواء.
-
التمثيل مهنة مؤثرة
بالفعل وشاقّة – كغيرها – لمَن يمارسها كباقي الفنون الراقية التي تسعى للارتقاء
بذوق وسلوك الفرد والمجتمع .. ولكنني لا أظن أن بعض مَن يلقّبون أنفسهم
بـ"الفنانين" يستحقون هذا اللقب الآن .. كما أن بعضهم الآخر (ومنهم
"شريف منير" نفسه) قد أضرّوا المجتمع وانحدروا بذوْقه وأفسدوا أخلاقه وشوّهوا مبادئه بعد أن شاب بعض أعمالهم الابتذال والدونيّة من أجل جمع
أموالٍ لا يستحقونها ليصلوا بها إلى مكانةٍ ليسوا جديرين بها في الوقت الذي يعاني
فيه العلماء والأطباء والمعلّمون والعمّال والفلّاحون وغيرهم من شظف العيش وضيق
الحال.
-
هناك فنّانون بحق
عاشوا وماتوا في الظل وسط الناس دون أن يجنوا المال والشهرة والمجد رغم أعمالهم
الخالدة المفيدة لأنهم ببساطة لم يكونوا ضمن تلك النخبة من القوّة الناعمة الطريّة
المهلبيّة التي التصقت بدوائر الحكم والحاكم لتداهنه وتهادنه على حساب الشعب وليمتصّوا
سويّاً ما استطاعوه من دم المواطن الذي خانوا حبّه وفضله عليهم.
أرجو ممّن يعيشون حياةً لا يستحقّونها ويجنون أموالاً لا يستأهلونها نظير أعمالٍ فارغةٍ وتافهةٍ وتضر أكثر ممّا تنفع أن يتلذّذوا بما يرفلون فيه من نعيمٍ ورفاهيةٍ في صمت دون أن ينظِّروا علينا بنظرياتهم المغرضة ودون أن يرتدوا ثياب الفلاسفة ودون أن يعيشوا في دور الشموع التي تحترق لتنير للناس طريقهم .. فهم في الواقع مجرّد أراجوزات يتحرّكون بأوامر ويؤدّون ما يُرسَم لهم من أدوارٍ مشبوهة ثم يُلقوْن جانباً بعد حين في ركن النسيان دون أن نشعر باختفائهم ليحل محلّهم أراجوزاتٌ آخرون يرتدون ثياباً ملوّنة فاخرة ويرفلون في النعيم إلى أن يأتي أجلهم المعلوم.