كنوز الملك سليمان (2)
كانت رحلة طويلة .. شاقة ومجهدة .. قطعنا
فيها نحو ثلاثة آلاف ميل .. بدأناها من مدينة "دربان" في نهاية شهر
يناير .. حتى وصلنا إلى مشارف قرية "سيتاندا" في الأسبوع الثاني من شهر
مايو ..
وأنا لا أريد أن أصف هنا جميع التفاصيل
والأحداث التي صادفتنا خلال تلك الرحلة، ولكني أذكر أن "كابتن جود" كاد
أن يلقى مصرعه تحت أقدام فيل هائج، لولا أن سارع "خيفا" الشجاع بغرس رمحه
في خرطوم الفيل، فازداد هياج الفيل المتوحش، وأمسك "بخيفا" وداسه بقدميه
حتى مات المسكين مضحياً بحياته في سبيل إنقاذ الكابتن. وبعد أن أطلقنا بنادقنا على
الفيل الهائج حتى أرديناه قتيلا، قال "أمبوبا" أن "خيفا" قد
مات ميتة الرجال الشجعان.
وكانت قرية "سيتاندا" تقع على حافة
الصحراء الشاسعة التي تمتد وكأنها بلا نهاية .. وهي قرية صغيرة تتناثر فيها أكواخ
الأهالي مع بعض حظائر الماشية، وبعض الحقول المزروعة بالحبوب.
وعند حافة تلك الصحراء، تذكرت ما حدث منذ
عشرين عاماً حينما شاهدت المسكين "سيلفستر" وهو يزحف على يديه وقدميه
وقد ساءت حاله بعد محاولته الفاشلة في الوصول إلى "كنوز الملك سليمان"
كان الجو صافيا، ولذلك فقد استطعت أن أرى
التكوينات الزرقاء الباهتة لقمم جبال سليمان عند الأفق البعيد .. وعندئذ أشرت إلى
تلك القمم البعيدة وقلت "لسير هنري": ها هي الجبال عن الأفق .. إنها
تبدو كجدار عالٍ يحيط بكنوز الملك سليمان .. ويعلم الله إذا كنا سنستطيع أن نتسلق
هذا الجدار أم سنرجع خائبين.
ونظر "سير هنري" إلى تلك الجبال
البعيدة التي تقع في آخر تلك الصحاري القاحلة، وقال إن أخاه هناك ولا بد أن يعثر
عليه. وهنا قال "أمبوبا" إن الصحراء واسعة جداً وليست فيها قطرة ماء ..
وإن الجبال عالية جداً ومغطاة بالثلوج .. ثم وجه كلامه إلى "سير هنري"
وقال: إذا كنت يا سيدي تنوي اجتياز تلك الصحراء وتصعد فوق قمم تلك الجبال لتبحث عن
أخيك .. ربما سأبحث أنا أيضاً عن أخ لي وراء تلك الجبال ..
لم أفهم ما كان يقصده "أمبوبا"
بهذا الكلام .. وسألته إن كان يعرف شيئاً عن تلك الجبال البعيدة، فقال إنه يعرف
القليل .. فنهاك أرض غريبة تعيش فيها الساحرات والأشياء الجميلة .. وفيها رجال
شجعان وأشجار وجداول مياه وثلوج .. وهناك أيضاً طريق عظيم أبيض اللون.
**************
وفي اليوم التالي أعددنا عدتنا وجهزنا أنفسنا
لبدء الرحيل .. آملين في اجتياز تلك الصحراء القاحلة حتى نصل إلى جبال سليمان ..
وكانت خطتنا أن نواصل السير أثناء طراوة الليل، وأن نستريح أو ننام خلال قيظ
النهار. وقبل أن نخطو الخطوة الأولى في رحلتنا، صاح بنا "سير هنري"
بصوته العميق وقال: أيها الرجال .. نحن مقدمون على رحلة من أغرب رحلات الإنسان على
وجه الأرض .. وعلينا أن نصلي لله الذي بيده مقادير البشر، لكي يرشدنا ويبارك
خطانا.
وهكذا تحركنا وبدأنا نخوض في الرمال ..
لم يكن معنا دليل يرشدنا سوى قمم تلك الجبال
البعيدة، والخريطة القديمة التي رسمها "جوزيه دي سيلفستر" منذ ثلاثمائة
عام .. وإذا قدر لنا ألا نعثر على "البئر ذي المياه الفاسدة" الذي يتوسط
الصحراء طبقاً لما هو مرسوم بالخريطة، فسوف يكون هذا معناه أننا سنموت عطشاً ..
وأنا شخصياً كنت أعتقد أن العثور على مثل هذا البئر وسط هذا البحر من الرمال
الممتد بلا أول ولا آخر يعتبر أمراً بعيد الاحتمال.
وواصلنا المسير صامتين في ضوء القمر ..
يغمرنا إحساس كثيف بالوحدة والشعور بالانعزال عن العالم .. ومرت الأيام والليالي
.. ولم يكن هناك أي أحياء غيرنا في كل هذا الاتساع الشاسع .. لا حيوان ولا طير ..
سوى أسراب الذباب التي كانت تهجم علينا كالجيوش الجرارة.
ونفذ كل ما حملناه معنا من المياه .. وأصبحنا
نعاني من العطش الشديد وحرارة الشمس تكاد تشوي لحم أجسادنا .. ولا أدري كيف تحملنا
كل هذا العذاب دون أن نموت .. وأخيراً ارتمينا على الرمال ممددين .. ومصيرنا معلق
بين الحياة والموت.
وفجأة .. هب "فنتفوجل" واقفاً،
ورفع أنفه نحو السماء، وأخذ يتشمم الهواء في مختلف الأنحاء، ثم قال بصوت واثق: إني
أشم رائحة الماء .. هناك ماء في مكان قريب من هنا!
ونظرنا حولنا في كل الاتجاهات .. فلم نر سوى
"جَبَلَىْ صدر شيبا" اللذين يبعدان عنا بنحو خمسين ميلاً .. ويبعد كل
جبل منهما عن الجبل الآخر مئات الأميال ويحصران بينهما سلسلة جبال سليمان ..
وأخيراً قال "سير هنري": ربما يوجد الماء على قمة هذا التل القريب.
وصعدنا صاغرين إلى أعلى التل .. وكم كانت
المفاجأة مذهلة .. لقد عثرنا على ماء يملأ فجوة عميقة من شقوق التل .. فشربنا
وارتوينا وملأنا بطوننا عن آخرها، واستعدنا قدرتنا على مواصلة الرحيل عند شروق
القمر.
وفي الثالث والعشرين من شهر مايو، وصلنا إلى
سفح الجبل الذي تشير إليه الخريطة .. ولحسن حظنا عثرنا على بعض أشجار الفواكه
البرية .. ثم بدأنا الصعود إلى قمة الجبل .. وكلما صعدنا كانت البرودة تزداد
وتزداد، حتى أصبحنا نعاني من شدة البرد القارس عندما وصلنا إلى منطقة الجليد ..
وهنا قال "الكابتن جود" بصوت واهن: اعتقد أننا الآن بالقرب من الكهف
الذي كتب فيه "جوزيه دي سيلفستر" رسالته ورسم خريطته.
وكان من الواضح أننا إذا لم نعثر على هذا
الكهف قبل حلول الظلام، فسوف نموت متجمدين في تلك الثلوج .. وفجأة صاح
"أمبوبا" بفرح: هذا هو الكهف .. هاهو مدخله هناك ..!
كانت الشمس قد غربت ولم تترك سوى ظلام دامس
حين وصلنا زاحفين إلى فتحة الكهف .. وتسللنا إلى الداخل واحداً بعد الآخر، وبدأنا
نستريح ونلتقط أنفاسنا .. وحتى نلتمس بعض الدفء، تجاورنا وتلاصقت أجسادنا، وشرعنا
في النوم.
وعندما بدأ ضوء الشمس يتسلل إلى داخل الكهف،
اكتشفنا أن "فنتفوجل" قد مات من شدة البرد .. فتركناه حيث كان راقداً،
والحزن عليه وعلى أنفسنا يكاد يمزقنا.
ثم اكتشفنا شيئاً محزناً آخر .. رأينا جثة
"جوزيه دي سيلفستر" الذي مات منذ ثلاثمائة عام .. كان يبدو جالساً
مستنداً إلى جدار الكهف، ورأسه مائل على صدره، وذراعاه الطويلتان مسترخيتان إلى
جانبيه .. وكانت بشرته الصفراء قد التصقت بعظامه، وكان جسده كله مجمداً
وجافاً ..
تركنا الجثتين في مكانيهما داخل الكهف،
ليبقيا هناك إلى ما لا نهاية .. وبدأنا نزحف خارجين إلى ضوء الشمس الساطع، ونحن
نسأل أنفسنا: ترى .. بعد كم من الساعات سنلقى نحن مثل هذا المصير التعس ..؟!
**********************
بدأت الشبورة تنقشع وتتلاشى رويداً .. وبدأت
الأشياء تبدو بوضوح .. ونظرنا إلى أسفل الجبل فرأينا مجرى صغيراً من الماء الرائق
.. ومساحة هائلة مغطاة بالعشب الأخضر .. وعلى جانب غدير الماء، رأينا مجموعة من
الغزلان الجبلية الكبيرة وقد وقفت تشرب.
وبطبيعة الحال، فقد اصطدنا غزالاً وأقمنا
وليمة فاخرة .. وشربنا حتى ارتوينا واستعدنا أرواحنا، وعادت إلينا قوانا وحيويتنا،
وبدأت معالم المكان تتضح أمامنا أكثر وأكثر .. فهناك الوادي الأخضر الواسع ..
وهناك غابة كثيفة .. ونهر كبير ينساب في مجراه الفضي .. ومراع خضراء شاسعة ترعى
فيها مواشٍ وأبقار لا حصر لها .. وحقول مزروعة بالحبوب .. وكان المنظر جميلاً لم
أرَ مثله في حياتي!
وكانت المفاجأة حينما رأينا طريقاً رائعاً في
صخر الجبل، ويبلغ اتساعه نحو خمسين قدماً .. أخيراً .. عثرنا على طريق سليمان!
كانت بعض أجزاء الطريق منحوتة في صخر الجبل
.. وقد نحتت على الجدران من الناحيتين مناظر غريبة لرجال مسلحين يقودون مركبات
حربية .. ومناظر معركة .. ومناظر لجماعات من الأسرى.
وسرنا في طريق سليمان حتى وصلنا إلى غابة
صغيرة يتخللها غدير من الماء الرائق .. وهناك جلسنا لنستريح ولنتاول طعامنا .. ثم
أشعلنا الغلايين وبدأنا ندخن ..
وكان "الكابتن جود" جالساً على
شاطئ الغدير يجفف جسمه بعد أن أخذ حماماً .. ولم يكن يرتدي سوى قميصه بعد أن خلع
جميع ملابسه الأخرى ليغسلها في ماء الغدير .. وفجأة، رأينا سهماً ينطلق مثل خط من
الضوء مر بجانب رأسه .. ثم ظهرت أمامنا مجموعة من الرجال!
كانوا طوال القامة بشكل أكثر من المعتاد،
تلمع بشرتهم السوداء كالذهب، وفي مقدمتهم يقف فتى صغير لا يتجاوز سبعة عشر عاماً
.. وكان ما زال ممسكاً بالقوس الذي رمى به سهمه الطائش.
وفي الحال أمسك كل من "السير هنري"
و "الكابتن جود" ببندقيته وصوبها نحو صدور الأهالي الذين بدوا كما لو
كانوا لا يعرفون ما هي البنادق، فقد ظلوا يتقدمون نحونا بلا خوف من إطلاق النار ..
وعندئذ صحت في رفاقي: أخفضوا بنادقكم ودعوني أتصرف!
وبدأت التفاهم مع هؤلاء الرجال بلغة الزولو
.. وقلت لهم إننا غرباء وقد جئنا نريد السلام .. ولكن رجلاً عجوزاً قال على الفور:
هذا كذب .. فالغرباء لا يستطيعون اجتياز الجبال وعبورها .. والغرباء غير مسموح لهم
بأن يعيشوا على أرض "كوكوانا" .. هذا هو قانون الملك .. وعليكم أن
تستعدوا للموت!
وتقدموا نحونا وهم يشهرون سكاكينهم ..
وكعادته حين تضطرب أعصابه .. أخرج
"الكابتن جود" من فمه طاقم أسنانه العلوي، ثم أدخله إلى فمه مرة أخرى ..
وكانت هذه الحركة ضربة حظ لا مثيل لها .. فقد صاح الرجال المهاجمون صيحة رعب
وتراجعوا إلى الخلف وقد جحظت عيونهم من شدة الخوف والذعر!
وأدركنا أن المهاجمين قد خافوا من طاقم أسنان
الكابتن، فطلبت منه أن يعيد إخراج طاقم الأسنان وإدخاله إلى فمه مرة أخرى ..
وعندما فعل الكابتن ذلك ازداد رعب الرجال وأخذوا ينتفضون خوفاً وهلعاً .. وصرخ
الفتى الصغير الذي كان يتقدم الرجال صرخة مدوية .. وتحامل الرجل العجوز على نفسه
وسألني وهو يرتجف: إنكم لستم من البشر .. هل يمكن أن تلد النساء رجلاً له عين
مستديرة {مشيراً إلى المونوكل} تلمع في ضوء الشمس .. وله أسنان تخرج من فمه وتدخل
.. ؟!
وعندئذ انتهزت هذه الفرصة فقلت لهم فوراً:
لقد جئنا من عالم آخر .. جئنا من النجم الكبير الذي يلمع في السماء ليلاً! .. وسوف
نقيم عندكم لفترة قصيرة ولنمنحكم البركة أيضاً .. والآن .. دعونا نعاقب اليد التي
رمت السهم على هذا الرجل الذي تخرج أسنانه من فمه وتدخل!
فقال الرجل العجوز: نرجوكم أن تعفوا عن ..
إنه ابن الملك!
وانتهزت هذه الفرصة أيضاً لأبين لهم مدى
قوتنا .. فأشرت إلى "أمبوبا" وقلت له: إعطني الماسورة المسحورة التي
تتكلم .. فأعطاني البندقية التي كان يحملها، وقلت لهم وأنا أشير إلى حيوان كان يقف
على بعد نحو سبعين متراً: هل يستطيع رجل ولدته امرأة أن يقتل هذا الحيوان البعيد
بمجرد احداث صوت ..؟!
قال المحارب العجوز: لا يمكن .. هذا مستحيل
يا سيدي!