بعد رفع الدعم: هل يرفع الله مقته وغضبه عنا؟
بعد كل زيادة في الأسعار يظهر علينا مشايخ
السَلَطَة (أقصد السُلْطَة) يبرّرون قرارات الحاكم ويمدحونها ويُرجِعون ذلك إلى
تحكّم الله - سبحانه وتعالى عمّا يصفون - بهذه الأسعار وأنه - عز وجل - يعاقب
الرعيّة لفسادهم وقِلَّة إيمانهم وما عليهم سوى التسليم والإذعان وعدم الاعتراض
على حِكمة الخالق وحُكمه والاكتفاء بالتضرّع له وحده لرفع البلاء والغلاء بعيداً
عن التفكير في محاسبة الحاكم وحكومته والذين تسبّبوا بفشلهم وسوء إدارتهم في هذه
المعاناة رغم أن وجودهم في مناصبهم مرتبطٌ في الأساس بحل المشاكل الاقتصاديّة وضبط
الأسعار والرقابة على التجّار.
بلا شك: الله هو المتحكّم في كل الأمور وهو
خالق كل شيءٍ بقَدَر .. ولكننا هنا نتكلّم عن ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وهي من
الأمور الدنيويّة التي يسيْطر عليها الإنسان الذي خيّره ربّه في تصريفها بناءً على
علمه وخبرته وظروفه في إدارتها دون الاعتماد على وحيٍ من السماء .. وكما قال
رسولنا الكريم (صلّى الله عليه وسلّم) لصحابته في المدينة: "أنتم أعلم بشؤون
دنياكم" عندما تطرّق الأمر إلى سُبُل تلقيح النخيل وزراعتها وهو أمرٌ – كما
ترون – دنيويٌ بَحْت بعيدٌ عن العبادات والعقائد والأخلاق .. تتشابه بذلك المثال
الأمور الوضعيّة في حياتنا كالسياسة والاقتصاد وباقي الشؤون التنظيميّة الأخرى
(مثل قواعد المرور ولوائح ضبط الأسواق والعلاقة بين المواطن ومؤسسات الدولة ..
إلخ).
ربما كان وجود أولئك المسؤولين على كراسيهم
غضبٌ من الله بالفعل وعقابٌ شديدٌ لأولي الألباب الذين انحرفوا عن صحيح الدين
وابتعدوا عن شرع الله فقلّت البركة وزاد الفقر وسلّط الله عليهم مَن لا يخافه ولا
يرحمهم فما كان ربّك بظلّامٍ لعبيده .. ولكن المشايخ يتجاهلون ذلك ويُلصقون التهمة
بالشعب وحده دون غيره .. ففي الوقت الذي يذكرون فيه عبارتهم الخالدة: "من
أعمالكم سُلِّط عليكم" (وهي حديثٌ موضوعٌ ضعيف لم يتم إثباته أو تصحيحه)
للتدليل دوْماً على فساد الشعب المحكوم فهم يغفلون تماماً العبارة المنسيّة
الأخرى: "كما تكونوا يوَلَّى عليكم" (وهي حديثٌ موضوعٌ ضعيف لم يتم
إثباته أو تصحيحه أيضاً) والتي تربط بين سوء أخلاق الحاكم وشر طباع
المحكوم .. فمن وجهة نظرهم المغلوطة أن الحاكمَ ملاكٌ بهالةٍ وجناحيْن والمحكومَ
شيطانٌ بذيْلٍ وقرنيْن.
فها هو الداهية (أقصد الداعية) "خالد
الفليج" يسير على نهج "لا تقربوا الصلاة" أو على طريقة "ويْلٌ
للمصلّين" .. فقد اقتطع الشيخ من حديثٍ صحيحٍ لرسول الله عبارةً مقتضبة:
"إن الله هو المسعّر" .. فلم يُكمِل الحديث أو يسرد مناسبته والغرض منه
بل اكتفى بتعليقه المبهم قائلاً: "إن الله هو الذي يرفع الأسعار
ويخفّضها" ممّا قد يُفهَم منه أن قيمة الأسعار تخضع للإرادة الربّانيّة المباشرة
دون أدنى مسؤوليّةٍ على البشر .. ولم يُفصِح الرجل (وكذلك المذيع) عن كامل الحديث
الذي يقول: "عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: غَلا السِّعْرُ عَلَى
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ،
لَوْ سَعَّرْتَ ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل هُوَ الْخَالِقُ الْقَابِضُ
الْبَاسِطُ الرَّازِقُ الْمُسَعِّرُ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ عز
وجل وَلا يَطْلُبُنِي أَحَدٌ بِمَظْلَمَةٍ ظَلَمْتُهَا إِيَّاهُ، فِي دَمٍ وَلا
مال" .. أي أن رسول الله لم يقبل أن يضع تسعيرةً جبريّة للسلع المعروضة
في السوق وفضّل أن يخضع السعر للعرض والطلب .. فلو حدّد سعر القمح مثلاً
بخمسة دراهم فقد يكون هذا ظلماً للفلّاح لو شح محصول القمح وزاد عليه الطلب وقد
يكون ظلماً للمستهلك لو زاد المعروض من القمح وقل عليه الطلب .. وبهذا يترك الأمر
لحركة السوق ارتفاعاً وانخفاضاً وفي ذلك بابٌ للمنافسة الشريفة بين التجّار أيْضاً
.. هذا ما قصده الرسول الكريم الذي نهى في حديثٍ آخر عن الاحتكار وفحش التجّار
والتضييق على الناس عندما قال صلّى الله عليه وسلّم: "الجالب مرزوق والمحتكر
ملعون" .. بل أن علماء الشريعة رأوا أن ولي الأمر (الحاكم) من واجبه أن
يتدخّل ويحدّد السعر حمايةً للناس إذا ما رأى استغلالاً لهم من التجّار على أي
صورة.
وها هي دار الفَتّة (أقصد الفتوى) تقول
إن رفع الأسعار قرارٌ إلهي (والحاكم وحكومته أبرياء طبعاً) .. وإننا المفروض ما
نعترضش على أحكام ربنا علشان ما نبقاش كفرة وولاد كلب .. وأن نكتفي بالتضرّع
والدعاء إلى الله كي يُصلح الأمّة ويرفع الغُمّة.
وها هو مفتي الخيار (أقصد الديار) المصريّة
السابق ينهانا عن الدعوة على الحاكم الظالم لأننا احنا اللي ظَلَمَة واحنا اللي
بنضايق الزُعماء وبنعكنن عليهم واحنا اللي أكلنا الجبنة .. الله يخرب بيتنا احنا
يا شيخ.
وها هو داعيةٌ سلفي من حزب النَوَر (أقصد
النُور) يقول إننا نستاهل هذه الزيادة وأكتر كمان علشان ذنوبنا ومعاصينا الفظيعة
.. رغم إن فيه شعوب بتقدّس البقر وبتعبد بوذا وبيعملوا معاصي الدنيا والآخرة وما
بيحصلش عندهم كده وعيشتهم زي الفل.