أمثال صعيدية عبقرية مهجورة | خلاصة الحكمة والخبرة

السِر ف زير
( خيانة الأمانة وأمانة الخيانة ) (1)

مايو :

وصل دكتور "حجاب عبد الستّار الكاشف" لعيادته الكائنة بحيٍ راقٍ بوسط العاصمة في تمام السادسة مساءً، وبعد أن ارتشف فنجاناً من القهوة ببطءٍ وتمعّن؛ ضرب الجرس فحضرت الممرضة فأمرها بأن تُدْخِل المَرضى، فبدأوا بالدخول واحداً تِلو الآخر، وانهمك في عمله بتركيز: فكان يخلع ضرساً لذلك المريض، ويحشو آخراً لتلك المريضة، ويأخذ مقاس طاقم أسنانٍ لهذا الرجل المُسِن، ويلمّع أسنان هذه المرأة المتصابية، واستغرقه الوقت حتَّى انتهى من جميع المرضى فلم يشعر إلّا وقد أمست الساعة قريبةً من منتصف الليل، فقامت الممرضة بتنظيف الأدوات وإطفاء الأجهزة وسلّمته الإيراد واستأذنت في الانصراف، وتأهّب هو للعودة لمنزله ولكن استوقفه رنين الهاتف؛ وعندما ردَّ بنفسه - لأن الممرضة كانت قد انصرفت بالفعل - جاءه صوتٌ فخيم يقول في تؤدّة :

- مساء الخير.

- مساء النور.

- عيادة الدكتور "حجاب"؟

- أيوه يا افندم.

- لو سمحت عايز احجز كشف.

- حضرتك اتّصل بكره من الساعة خمسة.

- لأ.. أنا عاوز احجز للنهار ده.

- هو حضرتك ما معاكش ساعة؟.. احنا بقينا نص الليل وخلاص بنقفل العيادة.

- معلهش قول للدكتور يستنّى ساعة كمان.

- يا سيدي انا الدكتور.. وباقول لك تعالى بكره إن شاء الله.

- أهلاً يا دكتور.. معاك مدير مكتب نائب الرئيس.

- نائب الرئيس!

- أيوه.. نائب رئيس الجمهوريّة.

- لا يا شيخ؟.. وحياة خالتك؟

- أفندم؟

- تصدّق إنك بني آدم بايخ وما عندكش دم.. بطّلوا معاكسات بقى يا رِمَم.

ووضع "حجاب" السماعة بعنف، ثم ارتدى سترته وما إن تحرّك ناحية الباب حتَّى رنَّ الهاتف مرّةً أخرى فقفل عائداً ليجيب على الهاتف؛ وبمجرّد أن وضع السمّاعة على أذنه وقبل أن يرد فوجئ بذات الصوت يناشده في حزم :

- لو سـمــحت ما تـقـفــلش السكّـة.. أنا مش باعاكس.. ولو مش مصدّقني بُص م الشبّاك ح تلاقي عربيّة مرسيدس سودا بتاعة الحرس الخاص ووراها البوكس بتاع التأمين تحت العيادة.

- طيّب استنّى يا ظريف.. خلّيك معايَّ.

وذهب الطبيب إلى النافذة ليتيقّن من كلام المتحدّث، ولشَدَّ ما كان عظيم دهشته عندما رأى سيّارتيْن بنفس الأوصاف التي وصفها المتكلِّم، فعاد إلى الهاتف والتقط السمّاعة وأجاب المتحدّث وقد اكتست نبرات صوته بأمارات الجديّة هذه المرّة :

- الموضوع بجد ولّا إيه؟

- يا دكتور هوَّ احنا ح نهزّر ف ساعة زي دي؟

- أنا آسف جداً ع اللي قلته.. بس اصلي مستغرب خالِص.. بقى سيادة نائب رئيس الجمهوريّة جاي لي بنفسه!

- أصل سيادة النايب لسّه واصل من رحلة نيويورك.. واتّصل بيَّ من شويّة وهوّ جاي ف طريق المطار وأمرني إني أستدعي دكتور الأسنان بتاعه إكمّن ضرس سيادته قام عليه فجأة.. ولمّا اتصلت بالدكتور لقيته مسافر برّه ف مؤتمر.. حتَّى عيادة الأسنان في ديوان الرياسة عرفت إنهم بيجدّدوها ومش ح ينفع سيادة النائب يتعالج فيها اليومين دول.. وفيه موّظف معانا راح لك مرّة وشكّر لي فيك وادّاني نمرتك.. واديني باتّصل بحضرتك أهو.. فياريت ما تمشيش ده الوقت.. وسيادته ح يكون عندك ف خلال نُص ساعة تقريباً.. بس ما تجيبش سيرة لحد بالكلام ده علشان إجراءات الأمن.. أوكيه؟

- حضراتكم تأمروني.. أنا مش ح اتعتع من هنا.. وسيادته يوصل على أقل من مهله.

- طيّب شكراً يا دكتور.. ومش ح اوصّيك على سيادة النايب.. عايزك تاخده واحدة واحدة وتستحمله شويّة.. أصله بيخاف م الدكاتره وخصوصاً بتوع السنان.. بس لو انبسط من شغلك وريّحته ممكن نجيبك معانا هنا ف الديوان.. وطبعاً دي ح تبقى نقلة نوعيّة كبيرة ف حياتك المهنيّة والشخصيّة.

- إن شاء الله ح ابقى عند حسن ظنّكم دايماً.

- ربّنا يسهّل.. مع السلامة.

- مع السلامة يا فندم.. مع السلامة.. مع ألف سلامة.. ف رعاية الله.

وبالفعل لم تكَد تمضي نصف ساعة حتَّى سمع "حجاب" صوْت طرقٍ على باب العيادة فهرول يستقبل نائب الرئيس ودقّات قلبه تتسارع، ولمّا فتح الباب وجد رجلاً ضخم الجثة في بذلةٍ سوداء يرتدي نظّارةً سوداء رغم حلول الليل منذ ساعاتٍ طويلة، وكان يضع سماعة أذنٍ يتدلّى منها سلكٌ حلزوني يختبئ طرفه الآخر تحت ياقة قميصه الناصع البياض، ولم يترك الرجل أي فرصة "لحجاب" لفعْل أو قوْل أي شيء بل اندفع إلى داخل العيادة يتفحّصها ويفتّش بنظره كل ركنٍ في كل حجرة حتَّى دورة المياه، وبعد أن فرغ من مهمّته سريعاً تكلّم في جهاز لاسلكي كان في يده ولم يتفوّه سوى بكلمة واحدة : "تمام"، فأدرك "حجاب" أنه من الطاقم المخوّل بحراسة النائب، وبعــد بريهـة قصيرة برز إلى داخل العيادة نائب الرئيس وزلف ببطء إلى "حجاب" الذي تسمّر في مكانه، وقال له في وقار وقد بدت على ملامح وجهه علامات الغرور والتعالي :

- مساء الخير يا دكتور.. معلهش سهّرناك.

- أبداً يا فندم.. أنا تحت أمرك.. إتفضّل من هنا.. حصلت البركة.. أهلاً وسهلاً.. أهلاً وسهلاً.

واتّجها للداخل حيث حجرة الكشف ومكتب الطبيب تاركيْن الحرّاس متأهّبين في قاعة الانتظار وأغلق "حجاب" باب الحجرة وراءهما وانفرد بمريضه الهام الذي ما إن جلس واستلقى على كرسي الأسنان حتَّى تبدّلت ملامح وجهه من الغرور والتعالي إلى الخوْف والخنوع المختلطيْن بالألم والتوجّع وعاجل الطبيب بقوْله في تضرّع :

- على فكرة.. أنا خوّاف جداً.. ما يغرّكش منظري.. يعني اكشف عليَّ واكتب لي علاج يخلّي الوجع ده يروح من غير ما تستخدم الشنيور بتاعكوا ده.

- طب افتح بُق سيادتك كده.. إفتح اكتر.. ياااااه.. علاج إيه بس يا فندم.. هوَّ سيادتك سايب التسويس اللي ف ضِرسك كده ليه؟.. ده سرح لغاية العصب ولازم نعمل له حشو عصب.. يعني لازم ح استخدم الهاند بيس أو اللي حضرتك مسمّيه شنيور.. بس اطمّن ح ادّي حضرتك إبرة بنج موضعي الأوّل.. وإن شاء الله مش ح تحّس غير بالإبرة دي بس.

- لا لا لا.. بلا بنج موضعي بلا موضعك.. شوف لك طريقة غير دي.. أنا مستحيل اخد إبرة هنا.. ده انا مش طايق الهوا لمّا بيدخل بُقّي.. إيش حال بقى إبرة.

- ما ينفعش يا سيادة النائب.. ده طب ما فيهوش فصال.. ولّا اقول لسيادتك.. أنا ممكن ادّيك إبرة كاتالار ف الوريد..  والكاتالار ده عبارة عن بنج كُلّي بس خفيف بنستعمله مع الأطفال غالباً علشان نعرف نشتغل من غير ما يرفّصوا ويصوّتوا.. والبنج ده ح ينيّمك نُص ساعة بالكتير.. يا دوب تكفّي اكون خلّصت كل حاجة.

- برضه ما باحبّش الإبر.. ما ينفعش البنج ده أشمّه زي ما بنشوف ف الأفلام.

- ممكن سيادتك تستنشق هالوثان.. بس لازم ساعتها نجيب دكتور تخدير متخصّص ح يركّب لك أنبوبة توصل من بقّك أو مناخيرك لغاية جوّه الحنجرة.. والأنبوبة دي مش ح تخلّيني اخد راحتي ف الشُغل.. وبعدين الموضوع كلّه ضروري يبقى ف أوضة عمليّات مُجهّزة.. مش مجرّد عيادة أسنان.. إنما الكاتالار ده ما لهوش أضرار وممكن انا اديهولك ف الوريد ده الوقت هنا ف العيادة.. يعني مش ضروري دكتور تخدير ولا أوضة عمليّات ف مستشفى كبيرة.

- أمري لله.. أستحمل إبرة الوريد والسلام.. بس بالراحة والنبي.

- ما تخافش خالص.. وهات بس دراعك الشمال.

وأعـطــى الطـبيب حقنة المخــدر الكلي للنائب الذي نام في ســباتٍ عميق في أقل من دقيقة.. وبدأ الطبيب في العمل بسرعةٍ وإتقان.. فأنجز مهمّته في ثلث ساعة فقط، وانتظر قليلاً حتَّى يسترد النائب النائم وعيه، وحدث أثناء الاستفاقة أن بدأ النائب يُغَمْغِم بهلاوس وتخاريف غير مفهومة في أوّل الأمر، ما لبثت أن تحوّلت لكلامٍ واضحٍ صادر من العقل الباطن دون تحفّظ، وعندئذٍ انتبه الطبيب لما يصدر عن مريضه من مكنون اللا وعي الدفين، ففوجئ بالنائب يبوح بجملٍ غير مرتّبة ولكنها ذات مدلولٍ خطير :

{أيوه.. غصب عني.. رقّاصة رقّاصة.. إيه يعني؟.. ورقة جوازنا لسّه ف المحفظة.. ما اقدرش.. الريّس فين؟.. مش حكاية حب.. بس انا بني آدم من حقّي اعيش برضه.. ياما اشتغلت.. "سماهر".. "سماهر".. آآآآآه.. آآآآآه.. آآآآآه.. سيبني بقى حرام عليك.. آآآآآه}.

ولمّا علت أصوات تأوهات النائب.. اقتحم أحد الحرّاس الغرفة ليرى ما يحدث؛ فطمأنه الطبيب بأن النائب بخير وهذه التصرفات تحدث دائماً قبيْل أن يفيق المريض من التخدير الكلّي، وطلب منه الانتظار بالخارج، وانفرد الطبيب بمريضه مرّةً أخرى، وطرأت للطبيب فكرةٌ شريرة؛ إذ أنه صفع النائب على وجهه برفق ليعرف مدى عمق نوْمه بسبب التخدير؛ فلم يستجب النائب للصفعة ممّا شجّع "حجاب" على أن يدس يده في الجيْب الداخلي لسترة النائب لإخراج المحفظة، وأخذ يفتّش في محتوياتها بعناية حتَّى عثر على ورقةٍ كبيرةٍ مطويّة عدّة مرّات في شقٍ خفيٍ صغير، وعندما فردها فوجئ بما يقرأ فلم تعدو هذه الورقة إلّا أن تكون عقد زواجٍ عُـرفيٍ كـامـل البنود ومشــهود عليه من رجــليْن وممــهورٍ باسم النائب وتوقيعه تحت كلمتيْ الطرف الأوّل (الزوج)، أمّا تحت كلمتيْ الطرف الثاني (الزوجة) فقد كُتب تحتهما اسم "سميحة ماهر القرني" وشهرتها "سماهر" ثم بصمة لسبّابتها اليسرى، فشرد "حجاب" في تفكيرٍ عميق وبعد أن ربط بين ما قرأ وبين تخاريف النائب أدرك ما لا يصدّقه عقل؛ فقد أدرك أن نائب رئيس الجمهورية المحترم متزوجٌ عُرفياً بالراقصة المشهورة "سماهر"، ولكن ما الذي دفعه لذلك الفعل المشين الذي يمكن أن يودي بسمعته ومستقبله السياسي؟؛ هل هو الحب أم الرغبة كما اعترف في تخاريفه التي كان التخدير سبباً في استخراجها من مخزون اللا شعور في عقله الباطن؟، وما هي العواقب الوخيمة التي سوف تصيبه إن عرف بسرّه أحد؟، وكيفيّة الاستفادة من معرفة هذا السر؟، وما المقابل الذي سيدفعه النائب لمن يطّلع على هذا السر ويهدد بكشفه؟، وانتبه "حجاب" من كم الأسئلة التي انفجرت فجأة في رأسه على صوت النائب وهو يُتَمْتِم بصوْتٍ ضعيف :

- أنا فين؟.. إيه اللي حصل؟

فأُسْقِط في يد الطبيب الذي ألهته أسئلته ودهشته عن إعادة المحفظة لجيب صاحبها قبل أن يفيق، ولكنه استعاد رباطة جأشه سريعاً بعد أن قرر في لحظةٍ خاطفة أن يحتفظ بورقة الزواج العرفي ليجني من ورائها أقصى ما تستطيع يده أن تطول، وأصبحت مهمّته العاجلة الآن أن يعيد المحفظة في مكانها دون أن يشعر النائب؛ فخطرت له فكرة وشرع في تنفيذها بأن أجاب على النائب بقوله :

- حمد الله ع السلامة يا افندم.. أنا لسّه مخَلَّص حشو العصب حالاً.. قوم سيادتك من هنا.. أيوه.. واتفضّل بقى اقعد على كرسي المكتب بتاعي أَرْيَح.. بس اقلع الجاكيت علشان تاخد راحتك.. وريلاكس خالص.. أيوه كده.. هه حاسس بحاجة؟

و خلع النائب السترة وسلّمها للطبيب وجلس على الكرسي ورد عليه كالمُغَيَّب :

- مش حاسس بوجع.. إنما دايخ شويّة.

فقال له "حجاب" وهو يعطيه ظهره ويعيد المحفظة لجيب السترة متظاهراً بأنه يعلّقها على شمّاعةٍ بالمشجب المثبّت بجدار الغرفة :

- لازم كده يا فندم.. خمس دقايق وح تبقى تمام التمام.. تشرب عصير إيه بقى؟.. معلهش الممرضة روّحت.. وبعدين كده كده ما ينفعش سيادتك تشرب حاجة سخنة لحد بكره.. أنا عندي هنا كل أنواع العصاير ف الميني بار ده.

- لا لا.. مش ح اقدر اشرب حاجة لاحسن انا نِفْسِي غامّة عليَّ خالص.. ألف شكر.. وشكراً كمان على تعبك معايَّ.. الشهادة لله انت إيدك خفيفة جداً.. أنا ما حسّتش بحاجة الحمد لله.. ووجع الضِرس راح خالص.

- لا شكر على واجب يا فندم.. كفاية تشريفك ليَّ.. أنا بس باستأذن سيادتك إني اشوفك بعد بكره علشان اراجع على الحشو.. وسيادتك خلّيك مرتاح.. أنا ح اجي لك بنفسي.. مش محتاجين كرسي الأسنان.. أنا ح ابص ع الشغل بس.. علشان اطمّن إن كل حاجة على ما يرام.

- خلاص انا ح اخلّي مدير مكتبي يحدد لك ميعاد.. ويبعت لك عربيّة تجيبك وح يحاسبك بالمرّة.. ناولني بقى الجاكيت علشان اروّح.. حاسس إني بقيت كويّس.

وارتدي النائب سترته ورحل عن العيادة مع حاشيته وسط تعابير التحيّات والسلامات وعبارات التشريف والوداع ودعوات بالصحة والسلامة الصادرة من "حجاب" الذي ما إن أغلق باب عيادته عليه حتَّى هرول ليخبئ ورقة الزواج العرفي في مكمنٍ لا يصل إليه أحدٌ غيره، وعقد العزم على أن يجلس مع نفسه في صباح اليوم التالي - بعد أن يكون جسمه وعقله قد نالا قِسطاً من الراحة - ليفكّر برويّة كيف يستغل هذه الورقة أحسن استغلال.

وفي الصباح استيقظ كل من في منزل "حجاب" على وقع رنينٍ متصل للجرس مع دقّاتٍ عنيفةٍ متوالية على الباب تكاد تخلعه من مِرْبَعه، فهرع "حجاب" - مع زوجته وأولاده - ليفتح الباب فوجد رجالاً أشدّاء يوجّهون له سؤالاً إن كان هو دكتور "حجاب" فرد عليهم بالإيجاب فطلبوا منه أن يرافقهم حالاً إلى القصر الجمهوري حيث ينتظره نائب الرئيس، وبعد أن استأذن منهم ارتدى قميصاً وبنطالاً في عجلةٍ من أمره وانصرف معهم تاركاً أسرته في ذهول تسأل عمّا اقترفه الأب وما ينتظره من مصير.

 

 

(يتبع)