الطبول (2)
غسلنا وجوهنا في مقهىً قريب ثـم قـصـدنا
العربة فتناولنا شراب الليْمون وبعضاً من البسكوت، وكان الطريق غاصّاً بالمارّة
والسيّارات والعربات، وحرارة الشمس تحرق الرءوس وتستدر العرق، وتبادلنا الأحاديث
في صفاء كأن لم تكن بيننا معركة، وتذكّرنا ملابساتها بقلوبٍ ضاحكة، ولكننا لم نخلُ
من قلقٍ من ناحية عواقبها.
-
هل تمر بسلام؟
-
بعيدٌ ذلك كل البُعد.
-
حبسٌ انفرادي أو
صيام نهارٍ كامل.
وطويْنا الموضوع بقرفه لنواجه ما هو أهم في
حاضرنا، فهدف الرحلة يظل مجهولاً لا ينبئ عنه قائدنا حتى نستدل عليه من خط السيْر،
وكنا معسكرين عند مـشـارف الميدان، ولكن الميـدان مـفـتـرق طرقٍ مليء بالاحتمالات.
-
أنتّجه جنوباً أم
نمضى شَمالاً؟
-
الجنوب يعني الأهرام.
-
أهرام الجيزة أم
سقارة أم دهشور؟
-
ولا تنسَ الفيوم.
-
والشَمال یعنی
هليوبوليس أو عين شمس.
-
وهناك الصحراء في
الجنوب والشَمال معاً.
-
وهي أسوأ الاحتمالات.
ونفخ القائد في الصُفّارة فتوالت دقات الطبول
كالنداء المُلِح فهُرعنا إلى الطابور، ومـا كِـدنـا نـتـوسّـط الميْـدان حتى
أدركنا أننـا نـتّـجـه نـحـو الجنوب، فعرفنا الـهـدف بلا تحـديد، ولن يتـحـدّد حتى
نبلغ هضـبـة الأهرام، مضيْنا بأقدامٍ نشيطةٍ وحيويّةٍ رائعة، تستغرقنا الأناشيد
فلم نشعر بمرور الوقت، لذلك دُهِشنا عندمـا دُعـينا للتوقّف لتناول وجبة الغداء
وتبيّن لنا أن الساعة تمّت الثانية بعد الظُهر، عسكرنا على حافّة حقلٍ مزروعٍ
بالجرجير، نزعنا الأحذية وغسلنا أقدامنا في جدول ماء، فرشنا الحُصْر وجلسنا لتناول
الغداء بعد أن جاء كل منّا بتموينه من العربة وهو عبارةٌ عن طبقٍ يحوى باميـة
وقطعةٍ من الضأن ومغرفةٍ من الأرز وموْزة، أنسانا تناول الطعام همومنا الصغيرة كما
أنسانا الوقت فأثملتنا لذّته الموشاة بأطايب الأحاديث والنوادر، ولما فرغنا من
الطعام استلقيْنا على ظهورنا لنستمتع بالراحة في الفترة القصيرة المخصّصة للقيلولة،
وداعبنا النعاس ونحن مستسلمون لأحلام اليقظة، وكِدنا نستسلم للنوْم لوْلا أن همس
هامس:
-
انظروا.
تحوّلت الأنظار إلى الحقْل الذي يغوص تحت
مـسـتـوى الطريق بمتر فرأينا زميلا يتوارى وراء عربةٍ مقلوبة وهو يحتضن كائناً لم
نرَه ولكنّا رأينا جانباً من فستانه هفا به الهواء فتحرّك كالعلم.
-
أي جرأة!
-
سيجلب لنا متاعب
جديدة.
وتطوّع زميلٌ للذهاب إليـه لـتـحـذيره، وسرت
شهامة التطوّع إلى آخرين فـمـضـوا في أثره، وتطلّعت الرؤوس إلى العربة المقلوبة
باهتمامٍ وإشفاقٍ وتوتّر، وبحثت أعينٌ عن القائد حتّى عثرت عليه نائماً على سريره
السَفَري (الخاص بالسَفَر) وراء عربة التموين، ورأيْنا الزملاء وهم يتحاورون عند
العربة المقلوبة ولكننا لم نسمع كلمةً مما يدور فقال أحدنا:
-
إنهم يقنعونه
بالعودة.
فقال آخر ضاحكاً:
-
أو بالاشتراك معه!
وجرت الفتاة إلى مبنىً من البوص غير بعيد
فاختفت داخله دقيقةً ثم ظهرت مرةً أخرى في مدخله وهي تتوسّط عدداً من الفتيات، وهُرع
الزملاء إلى مبنى البوص فدب نشاطٌ محمومٌ فينا جميعاً، وَثَبنا قائمين، وزحفنا نحو
المبنى كجيشٍ من المجانين، وكانت الشمس تصب على المبنى دفقاتٍ حاميةٍ من أشعتها
فيكاد أن يشتعل ولم يبالِ أحدٌ بالحر ولا بالجوْ الخانق، وفـاح المكان برائحـة
عـرقٍ آدميٍ حـريف، واضطربت أركانه بالصحة والعافية وأنفاس الشباب الملتهبة، وشُحِنَت
بالعربدة المكتومة والزفرات الضاحكة والأطوار المستهترة، وفي حمأة الطرب المشبوب
تردّد صوتٌ ماجنٌ بغناء، رقْصٌ مستهترٌ متهتّك، واشتبك اثنان في معركةٍ مازحة، وعُدنا
واحـداً في أثر واحد، وارتميْنا فـوْق الحُصْـر مستسلمين لراحةٍ عميقة، وما لبثت
أن دوّت الصُفّارة وتتابعت دقّات الطبـول، قُمنا ننفض عن أنفسنا الكسل، انتظمنا في
الطابور، ولمحنا القائد متجهّم الوجه فلم ندرِ إن كان تجهّمه بسبب ذنبنا الأوّل أو
أنه فطن أيضاً لذنبنا الثاني ولكننا كنا أبعد ما يكون عن الندم، وهمس صوْت:
-
نجوْنا بمعجزة.
فقال آخر:
-
أو علينا أنا نتوقّع
عقوبةً مضاعفة.
وأخـذنا في السيْر، بعـزائـمٍ قـويّة مـضيْنا،
أسعفتنا روح التـحـدّى والصبر، وقلنا لأنفسنا إنه مهما كان ومهما يكن ومهما سيكون
فليْس أخلدَ من البهجة والمسرّة والمرح، ولبثنا على تلك الحال ساعةً ونصفاً أوْ
ساعتيْن، ورغماً عن إرادتنا سلّمنا بأن الشمس عنيفة، بل أعنف ممّا تصـوّرنا، بل هي
في الواقع لا تُحـَتـمَل، وتـصـبّـب الـعـرق حـتـّى بـلّل ملابسنا، وضاعف من تذمّرنا
إحساسنا بعدم طهارته، الحق أن التعب بدأ يزحف على عـضـلاتنا وأعـصـابنا مبكراً بالـقـيـاس
إلى الرحلات السابقة، وكلّما تقدّمنا اشتدّت وطأته وعنفت ضرباته أما الحر فأصبح
خـانـقـاً قـاتلاً، كلّا .. لم نذق هذا الجحيم من قبل، ولم تخـر قـوانـا كـمـا
خارت اليوم، وتراخت أوْتار أصواتنا وهي تنشد الأناشيد، ولأوّل مرّةٍ نشعر بوزن
الوقت وهو يتمطّى فـوْق مناكبنا، تغيّر كل شيْء، حال لوْنه وفسد طعمه، ففتر حماسنا
ثم خمد، حتى الأناشيد تبدّت لنا رتيبةً مكرّرَةً فاقدة المعنى والروح فخجلنا من
ترديدها، وخُيِّل لنا أننا موْضع سخرية المارّة والمنتظرين تحت مظلات الباص، ولم
تقف مشاعرنا المدمَّرة عند حد فأوْشكت أن تلتهم الرحلة نفسها التي بدت طويلةً بلا
نهاية، مُعذِّبةٌ بلا رحمة، خاليةٌ من أي معنىً أو عزاء، غيْر جديرةٍ بالطقوس التي
تحكمها والنظام الذي يضبطها والآمال المعقودة عليها، وقائدنا نفسه لاح قائداً بلا
قيادةٍ ولا جيْش، مُضحِكاً في غضبه، هزيلاً في عنفه، ألحّت عليْنا تلك الأفكار،
وكلّما اشتد إرهاقنا اشتدّت إلحاحاً وعنفاً ، ونفد صبر البعض فتوقّف عن الإنشاد أو
جعل يحرّك شفتيْه بلا صوْت، وجن البعض الآخر فجازف بالخروج من الطابور مع علمه بما
يعنيه ذلك من فصله من الفريق مجلَّلاً بالعـار منبوذاً من الروح الرياضيّة، وهي
فضيحةٌ لم تغِب عنّا عواقبها وآثارها البعيدة في نفس القائد والمشرفين هناك في
المدرسة، ولكنها في الوقت نفسه ميّزتنا بشيمة الصبر وأمّلتنا في تخفيف العقوبة،
وإن لم تـغـيّـر شـيـئـاً مـن فـتـورنا وإرهاقنا وحـال الخذلان التي ركبتنا،
وتتابع السيْر والغناء، ولم يعـد شيءٌ يحتفظ بعنفوانه إلا دقّات الطبول وصلابة
قائدنا غير المبالية، وأقرانٌ يُعَدّون على أصابع اليـد مـضـوا بهاماتٍ مرفوعة
وعضلاتٍ مشدودة يردّدون الأناشيد بحماسٍ وإيمان حتّى أثاروا الحنق والازدراء،
وعندما لاحت لأعيننا الأهرام الشامخة كانت الشمس قد مالت نحو الغرب، فوهنت حدّتها،
ودبّت في الجوْ نسمةٌ جعلت تلاطفنا في استحياء، وأخذ الطريق في الارتفاع فتضاعف
إرهاقنا واشتدّت ألامنا وتداعت أصواتنا، وبلغنا سطح الهضبة وقـد اخـتـفت الشمس
وتدثّر الكوْن بغلالةٍ داكنةٍ هادئة ردّدت أنفاساً ضعيفةً كأنها أنفاس شيخوخةٍ
فانية، ودوّى صوْت الصُفّارة فتساقطنا من الإعياء ونحن نتأوّه بأصواتٍ غير مبالية،
خمّنا أننا سنمكث تحت الهرم ساعةً أو أكثر قبل أن نستأنف السيْر إلى معسكرنا
الموغل في الصحراء ولكن قائدنا المنتقم قال بصوْتٍ سمعه الجميع:
-
لديكم ربع ساعة
كاملة!
ذُهِلنا!، تبادلنا النظر في صمتٍ ونحن نعلم
أن الأوامر لا تُناقَش، ولم نضيع الوقت في التحسّر العظيم، ولم يكن بدٌ من التضحية
بالراحة فقمنا لابتياع ما يلزمنا في مقامنا الأخير في حدود ما تسمح به اللوائح،
ومدّة الإقامة مجهولة لا يعلم بها إلّا القائد ولكنّا آثرنا الأخذ بالأحوَط، اشتريْنا
ما نحتاجه من سجائرٍ وصابونٍ وفاكهةٍ وقوارير المياه الغازيّة، ضاع وقت الراحة في
الشراء والمساومة وتنظيم السلع، وما فرغنا من ذلك حتى عادت الصُفّارة تدوّى ودقّات
الطبول تدق بلا نهاية فانتظمنا في الطابور الرهيب، يحمل كل مناسلة (سُباطة) مـوْزٍ
على يد وبطيخةً على اليد الأخـرى حـاشـيـاً جـيـوبه بالعلب والقـواريـر فـضـلاً عن
أدواته الأصليّة كالعصا والزمزميّة والحقيبة، وواصلنا الرحلة من غير أن ننال قسطاً
من الراحة، بعضلاتٍ منهَكَة وأعصابٍ متوتّرة وأنفسٍ غاضبة، وضاعف من متاعبنا
مقاومة الرمال الغزيرة لأقدامنا واختفاء معالم الدنيا في جوْف الظلام الهابط،
استحالت أصواتنا عواءً محشرَجاً، وتقلّصت عضلاتنا من حِدّة الآلام، فنسينا نسياناً
تامّاً مسرّات الرحلة كأنها لم تكن وتمنيْنا الموْت، وداعبنا أمل أن يعدل القائد
عن خطّته وأن يقنع بما أنزل بنا من عقابٍ صارم، فتسترد الرحلة بهجتها المأمولة
وأحلامها الضائعة ولكنه واصل سيْره بلا مبالاة، ولم يكتفِ بذلك فصاح بصوت كالرعد:
-
حركة سريعة ..
ابتدئ!