المقابلة السامية (3)
رجعتُ إلى مكتبي، قلتُ لنفسي: "اشتدّي
يا أزمة تنفرجي"، وقلتُ أيْضاً: "إن عذاب تلك الأيّام سيكفل لى دخول
الجنّة بغير حساب"، وقلتُ أيْضاً: "إنه ليْس بعد الظلام إلّا النور وإنه
إن عاجلاً أو آجلاً فـسـوف تدرکني رحمة مفرّج الكروب"، أمّا الأعين الساخرة
فلم تعتقني، لم ترحمني، ولم تقنع باستراق النظر، فهذا زميلٌ يتساءل:
-
كيف؟ .. متى؟ .. في
أي ظروفٍ غـريـبـةٍ أقـرضت المدير العـام خـمسـةً وعشرين قِرشاً؟!
وهذا آخرٌ يسأل:
-
ألم يرد المدير
العام ديْنه؟
ومرّةٌ لاحقني صوْتٌ يقول:
-
هذا هو الشحّاذ الذي
أقرض المدير العام.
فـدعـوْتُ الله أن يمدّني بصبر نبيّه "أيوب"،
وظل أملي في رحمته قويّاً لا يتزعزع، وتذكّرتُ سخرية آل "نوح" منه وكيْف
كانت العاقبة للمتّقين، ولم أذهب إلى كاتب الصادر بمكتب المراقب العام إلّا بعد
مرور أسبوعيْن كامليْن فأعطاني رقم وتاريخ الكتاب الذي أرسلتُ معه الشكوى إلى مكتب
المدير العام، وسألتُه بأدب:
-
متى يمكن أن أعرف
النتيجة في مكتب المدير العام؟
فأجابني بامتعاض وحنق لا مبرر لهما على
الإطلاق:
-
علم ذلك عند علّام
الغيوب.
على أي حالٍ قد وصلت الشكوى إلى مكتب المدير
العام، وسوف يتذكّرني مـن فـوْره، ولعلّه يستدعيني إلى مقابلته، أو يجبر في الأقل
خاطري، وانهالتْ عليَّ الأحلام السعيدة، ومَنّيْتُ نفسي بترقيةٍ أو علاوةٍ تدعم
رزق الأولاد، وكنت راجعاً إلى الأرشيف حاملاً البريد وأنا أتلو آية "الكرسي"
عندما اعترضني موظّفٌ ومضى يسألني:
-
هل حقّاً ......
وكنتُ قد ضِقْتُ بتحرش الساخرين فقاطعته قبل
أن يتم كلامه:
-
اخرس يا قليل الأدب.
فتراجع الرجل ذاهلاً وهو يقول:
-
أنت مجنونٌ بلا شك.
فصِحْتُ به:
-
اذهب وإلا خلعت الحذاء
ومزّقته على رأسك.
وسرعان ما حال بيننا أهل الخيْر والشر، وبعد
يوم استُدعيتُ إلى إدارة التحقيقات، قال لي المحقّق:
-
أنت مُتَّهَمٌ
بالاعتداء بالقوْل على مراجع الحسابات وبالشروع في ضربه.
فقلتُ بذُل:
-
أنا رجـلٌ مسكين ..
لقـد أراد أن يسخـر منـّي فزجرتـه .. هـذا كـل ما حصل.
وقـال مـراجع الحسابات إنه أراد أن يسألني عن
ورود مكـاتبـتـه من الخزانة، وشهد على صدق قوْله زملاءٌ له وزميلان من الأرشيف، وصَحَّ
صِدْقُه حتّى لي أنا، وأدركتُ أنني أسأتُ الفَهْم والتَصَرُّف، ودافعتُ عن نفسي
قائلاً:
-
كثيرون يسخرون مني
وقد حسبته واحداً منهم.
وسألني المحقّق:
-
لِـمَ يسخرون منك؟
فلُذْتُ بالصمت ولكن كثرةً من الشهود فضحت
حكاية القرض حتى هتفتُ:
-
ذاك محض افتراء ..
واقعةٌ لا أساس لها .. أُلْصِقَتْ بي ظُلماً.
وكادت المناقشة بيني وبين الشهود تجاوز حدود
الأدب إلى العنف، وغـادرتُ إدارة التـحـقـيـقـات مغلوباً على أمـري تماماً.
وبعـد أيّامٍ استدعاني رئیسي الكهل وقال لي
بحزن:
-
تقرّر خصم خمسة أيّامٍ
من مرتّبك.
فصرخت:
-
ذلك ظلمٌ بيّن ..
أنا لا أكاد أجد قوت الأولاد.
-
ليْتك تمالكت أعصابك.
-
أخطأتُ .. ولكن لي عُذري
.. تُرى هل تبلغ حكاية القرض مسامع سعادة المدير العام؟
فقال الكهل بثقة:
-
لا يجرؤ أحدٌ في
المصلحة على إبلاغها له.
رغم أحزاني جميعاً فإن ثقتي بالله لم تتزعزع،
وقلتُ لنفسي إنه ـ جل جلاله ـ سـيـخـرجنى من أحزاني كـمـا أخرج "يـوسف"
من سجنه، وبقدر ما حَلَّ بي من سوءٍ تماديْتُ في تخيّل السعادة الموعـودة وآمنت
بإقـبـالـهـا القـريب، وانتظرتُ طويلاً ثم ذهبتُ إلى كاتب الوارد بمكتب صاحب
السعادة لأسأله عمّا تم في شكواى فـقـال لي بجفـاءٍ مـجـهـول الأسباب:
-
إني أُخصّص يوم
الخميس للاستفسارات.
وكان اليوْم الأحد ولكني كنت قد لُقّنْتُ
الحكمة في إدارة التحقيقات فرجعت بلا تعقيب، وشكوْت حالي إلى رئيسي فمضى بي إلى
وكيل المخازن، وهو صـديـق رئيسي وقريبٌ لكاتب الوارد، فقَبِلَ الرجل أنا يُتَلْفِن
إلى قريبه مستفسراً عن شكواي، ولبث يصغى إلى كلامه غير المسموع لنا، ثم أعاد السمّاعة
وقال:
-
آسف .. لقد حُفِظَ
الطلب.
اغتالني الخبر فسقطت آمالي جُثّةً هامدة،
وقلتُ وأنا مطمورٌ تحت الأنقاض:
-
هل عُرِضَ الطلب على
سعادة المدير العام؟
-
طبعاً .. هو الذي
أمر بالحفظ.
-
مستحيل!
فابتسم الرجل بلا تعليقٍ فقلت:
-
كنت أتوقّع أن
يدعوني لمقابلته.
فحدجني الرجل بنظرةٍ غريبةٍ دون أن ينبس، وعُدْتُ
مع رئيسي وأنا أقول:
-
لا أصدّق.
فقال الكهل بنبرةٍ مواسية:
-
ولكِنّه المصير
المحتوم لجميع الشكاوى.
-
ولكِنّه أوعز إليَّ
بكتابتها.
-
ما زلت أعتقد أنك
كنت ضحية رجل مهذار.
-
كلّا .. كلّا.
-
إذن فلعلّه نسى ..
وشواغل المدير تُنْسي.
-
والعمل؟
-
سلِّم لله أمرك.
ولكن الإصـرار كـان قـد مَلَكَ عليَّ أمري،
وبكل هِمَّةٍ رحتُ أتحرّى مـواعـيـد المدير وحـركـاتـه وسكناته، وقررت ألا أُذْعِـنَ
للقـوّة الباغية ولا للأوامر المكتبيّة العمياء، وتحرّكتْ سيارة المدير لتنتظره
أمام العمارة، وقف البوّاب والسُعاة صَفيْن بالإضافة إلى شرطي الحراسة، وكنتُ
متوارياً وراء لافتةٍ كبيرةٍ في المدخل سُجِّل عليْـهـا دعـوةٌ لمزايدة، وترامت من
ناحية الفناء ضـجّـةٌ وتراءى موكب المدير قادماً، وعندما حاذاني في سيْره بَسْمَلْتُ
ثم وثبتُ نحوه لأجثو بين يديْه مستعطفاً، وصاح رجل:
-
المجنون .. حذارِ یا
صاحب السعادة.
ووقع اضطرابٌ شاملٌ وضوضاءٌ عالية، لم أدرك
بوضـوح مـا حـدث، مـادت بي الأرض، حـوصـرت تحت ضغط عشراتٍ من الأيْدي القويّة ، ماذا
أقول بعد ذلك؟، لقد جرى معي تحقيقٌ خطيرٌ باعتباري مجرماً سياسيّاً، ولمّا تبيّن
لهم خطأ الرأي وجّهوا لى تهمة الشروع في الاعتداء على المدير انتقاماً لحفظ شکواي،
وقد تعلّمتُ في السجن حرفة النجارة، وفي مـيـْدانـهـا أكـدح اليـوْم لتربية
الأولاد.
(تمّت ..... ولكن هناك تعقيبٌ هام من
"ابن أبي صادق" بالأسفل)
تعقيبٌ واجب:
تتناول هذه القصّة مشكلة أي مواطنٍ مقهور وأي موظّفٍ صغيرٍ منسي يعاني من نظامٍ بيروقراطي ظالم يحكمه التسلسل الهرمي للسلّم الاجتماعي والوظيفي، هذا السلّم الذي يقضي على أحلام الإنسان المدحور في مجتمعٍ يفتقر الى العدالة الأجتماعية أو حتى الوظيفيّة حيث تسود طبقة الأسياد وأصحاب المال والسلطة والنفوذ (كمدير المصلحة في القصّة) على شريحة العبيد المهمّشين المظلومين اجتماعيّاً ووظيفيّاً (كموظف الأرشيف بطل وراوي القصّة بضمير المتكلّم) .. وتستعرض القصّة كيف تحيط الطبقة العليا (التي تحتل قمة هذا الهرم الاجتماعي والوظيفي) نفسها بدائرةٍ أخرى (سكرتيرا مدير الإدارة والمراقب العام) لتحميها من التعامل والاحتكاك المباشر مع الطبقة الدنيا (التي تستقر في قاع ذلك الهرم)، فيشهد القارئ - عبر القصّة - كيف تنظر تلك الشريحة العليا نظرةً دونيّة لأفراد الشريحة الدنيا وكيف تستنكف سماعهم ومعرفة مشاكلهم حتى لوكان ذلك في إطار دوْلةٍ جديدةٍ (العمارة الجديدة التي انتقلت إليها المصلحة) تتظاهر بمراعاة مبادئ الاشتراكيّة والعدل والمساواة وحتى لو كان المواطنون المطحونون (ويمثّلهم هنا موظّف الأرشيف المسكين) هم السبب الأساسي في بناء وإنشاء هذه الدوْلة (كما كان موظّف الأرشيف سبباً مباشراً في اختيار مقر المصلحة الجديد في تلك العمارة الجديدة) بل والسبب أيْضاً في بقائها واستمرارها بتغذية مواردها وتمويل إنفاقها (ويرمز لهذا بالخمسة وعشرين قِرشاً التي اقتطعها موظّف الأرشيف من قوت أولاده ليمنحها لمدير المصلحة دون أن يستفيد بأي مقابل)، وتخلُص القصّة في النهاية إلى أن مصير كل مَن يتجرّأ مِن الطبقة الدنيا على فرض نفسه على الطبقة العليا واقتحام خصوصيّتها هو السجن (تماماً مثلما تم سجن موظف الأرشيف الذليل الذي جاوزت أحلامه الحدود المسموح بها عندما وثب نحو المدير راجياً عطفه فتم تلفيق التهم الجاهزة له)، وأنه لا سبيل للإفلات من ذلك القهر سوى بالتمرّد عليه والعمل الدؤوب على تغيير ذلك الواقع بحثاً عن مستقبلٍ أفضل (كما حدث مع الموظّف عندما تعلّم حرفة النجارة وترك وظيفته).
ملحوظة: تشبه هذه القصّة القصيرة رواية "المعطف" للأديب الروسي العالمي "نيكولاي جوجول" من حيث تناولها ومعالجتها لنفس القضيّة وذات التيمة الأدبيّة ألا وهي "الإنسان الضعيف في مجتمعٍ ظالمٍ لا يبالي إلّا بالأقوياء فقط".