المقابلة السامية (2)
فقصصتُ عليـه الجانب الذي يهمّـه مـن لقاء
العمارة فتفكّر قليلاً ثم قال:
-
تلك كلمةٌ طائرةٌ
عابرةٌ لا يُعَوَّل عليها.
-
لن أضيّع على نفسي
وأولادي فرصةً قَلَّ أن تجود بمثلها السماء.
-
نصیحتي أن تقلع عن
تصميمك.
فهتفتُ بحماس:
-
إنه أمل حياتي
الوحيد.
فجعل يهز رأسه مفكّراً فلم أرَ مفرّاً من إطلاق
الرصاصة الأخيرة فهمست في أذنه:
-
سأودع لديْك سِرّاً في
ضميرك النقي .. لقد اقترض سعادته منّي خمسةً وعشرين قِرشاً.
نظر الكهل في وجهي بذهولٍ متجسّمٍ فقلت
بحرارة:
-
صدّقني فأنا أحادثك
وأنا في كامل قواي العقلية.
وقصصت عليه قصة النقود التي أدينه بها فسألني
بارتياب:
-
هل سبق لك أن رأيت
مديرنا العام؟
-
كلّا.
-
مَن أدراك أن ذلك
الرجل هو المدير؟
-
لا شك في ذلك ألبتّة.
-
ولم لا يكون رجلاً
عابثاً استغل طيبة قلبك؟
-
مستحيل .. دعني أصفه
لك.
ولكنّه قاطعني قائلاً:
-
لا جدوى من ذلك فأنا
لم أرَه إلا لَـمْحاً منذ سنواتٍ ومن بعيد.
-
على أي حال أنا واثقٌ
من أنه المدير العام.
-
حكايتك حكاية.
فقلت متجاوزاً الجدل:
-
خُذني على قد عقلى
.. ودُلّني على كيْفيّة رفع شكوى للمدير العام.
-
عظيم .. تكتب الشكوى
على عرضحال تمغة وتقدّمها إليَّ بصفتي رئيسك المباشر فأعتمدها ثم تُرْفَع إلى مدير
الإدارة ليعتمدها بدوْره ثم تُرْفَع إلى المراقب الـعـام لـيـعـتـمـدهـا بـدوْره
ثم تُرْسَل إلى مكتب المدير العام .. وثمّة نصيحةٍ لوجه الله وهي ألّا تذكر أمام
أحد حكاية الخمسة والعشرين قِرشاً.
وكتبت الشكوى بعناية، قدّمتها لرئيسي
المباشر، وقّع عليها برجاء العطف، ومضيْتُ بها إلى سكرتير مدير الإدارة، دَسّها
تحت تلٍ من الشكاوى ثم انصرف إلى عمله، سألته:
-
متى تتفضّل بعرضها
على مدير الإدارة؟
فأجاب دون أن يرفع بصره عن أوراقه:
-
لا شأن لك بذلك.
-
ولكِنّها شكوى من نوْعٍ
خاص .. أعني أنني ما كتبتها إلا بإيعازٍ من سعادة المدير العام نفسه.
فرمقني بنظرةٍ غريبةٍ وتساءل ساخراً:
-
سعادتك قريبه؟
-
تلك هي الحقيقة بلا
سخرية.
-
ستُعْرَض في حينها
أو خُذها واذهب.
-
لا تزعل .. متى أرجع
لآخذها؟
-
بعد أن يتم عرضها.
-
ومتى يتم عرضها إن
شاء الله؟
-
ستُعْرَض في حينها.
وانصرف عنّي بحركةٍ حاسمةٍ طاردة فرجعت إلى
مكتبي وأنا أسب الكادر وشاغليه ما عدا سعادة المدير العام طبعاً، ورجوْتُ رئيسي أن
يتشفّع لي عند سكرتيـر مـديـر الإدارة ولكنّه رفض لغـرور الشاب وقِلّة أدبه.
ومرّتْ الأيّام وأنا أنتظر وأتصبّر، وذات
صباح وزميلٌ لي يراجع معي ميزان الوارد مال نحوي وسألني هامساً:
-
هل حقّاً أقرضتَ
المدير العام خمسةً وعشرين قرشاً؟
فانزعجت جداً وتولّاني الذُعْر وسألته عمّن
أخبره بذلك فقال إنه سمع همساً يدور حوْل الموضوع في الأرشيف، يا دافع البلاء
ارحمنا، واتّهمت رئيسي ولكِنّه أقسم لي بأولاده أنّه لـم ينبس بكـلـمـةٍ واحـدة،
فاتّهمتُ زوْجتي ـ ولها صديقات بين زوجات الموظّفين ـ ولكنها أنكرت إما عن صدقٍ أو
عن خوف، انسكب سم القلق في نفسي، وتوهمتُ أن الأنظار تلاحقني بدهشةٍ وسخرية، وأن
أصحابها عمّا قليل سيرموننی بالعته أو الجنون، ولذلك كان عليَّ أن أسرع في مسيرتي
قبل أن يقع ما ليْس في الحسبان، وذهبتُ إلى سكرتير مدير الإدارة، فلم يرد تحيتي ولكنه
أشار بامتعاضٍ إلى شكواي فتناولتُها شاكراً وهُرِعْتُ من فوْري إلى سكرتير المراقب
العام، قدّمتُ الشكوى، أردت أن أشرح له أهميّة الموضوع ولكنه بادرني قائلاً:
-
اتركها واذهب.
ولكي أُرضيه تحرّكت نحو الباب غيْر أنني سألتُه:
-
متى أرجع لتسلّمها؟
-
لا ترجع.
فمن اليأس تجرّأت على أن أسأل:
-
والشكوى؟
فرفع عيْنيْه إلى السقف كأنما يُشْهِدُ الله
على قِـحَتي (وقاحتي)، وعند ذاك تطوّع أكثر من شخصٍ من المحتشدين في الحجرة
ينصحونني بالامتثال وتنفيذ الأمر، حتى بُهِتُّ واجـتـاحني الخوْف، وتطوّع الساعي
لأخـذي من ذراعي بلطفٍ يوحي بالعطف، وأفـهـمني في الردهة بأن مكتب المراقب العام
يرسل بريده مباشرةً إلى مكتب المدير العام، فقلت:
-
وكيف أعرف أنها أُرْسِلَت؟
-
تعالَ بعد أسبوعٍ أو
عشرة أيام وقابل كاتب الصادر بمكتب المراقب العام فيعطيك الرقم والتاريخ وبهما
تستدل على مصير شكواك في مكتب المدير العام.
فقلت مدارياً عجزي:
-
تصـوّر أنني سألقى
من الاحترام في مكتب سعادة المدير العام ما لم ألقَ واحداً على مائةٍ منه في
مكتبكم!
فدعا لي الساعي قائلاً:
-
ربنا يرفع قَدْرك
أكثر وأكثر.