المقابلة السامية (1)
قُمْتُ بجولةٍ في العمارة الجديدة الخالية،
هي جديدةٌ بكل معنى الكلمة، فَوّاحةٌ برائحة الطلاء ما زالت، تحتل مُربّعاً صَقِعاً،
وعَمّا قليلٍ تُعَلَّق في أعلى مدخلها لافتةٌ كبيرةٌ تحمل اسم مصلحتنا العتيدة،
وكنتُ وراء الملابسات السعيدة التي أدّت إلى اختيارها وتأجيرها للمصلحة، كنتُ
كاتباً منسيّاً بالأرشيف ولكِنّي أُخْتِرْتُ كاتباً للجنة التي شُكِّلَت للبحث عن
مقامٍ جديدٍ للمصلحة يضم أشتاتها المتناثرة في أحياءٍ متباعدةٍ بالمدينة الكبيرة،
وكنتُ أعبر الطريق كُل صباحٍ أمام موْقعها في مسيرتي اليوميّة إلى المصلحة القديمة
فدعوْتُ اللجنة لمشاهدتها، وسرعان ما إتُخِذَتْ الإجراءات الإداريّة ثم وُقِّع
العقد مع مالكها، قمتُ بجولةٍ في العمارة الجديدة الخالية، لم تكن إجراءات النقل
قد بدأت بعد، وكنت مارّاً كالعادة
في الصباح فأغراني الزهوْ، وشعورٌ وهميٌ بالمِلكيّة بالقيام بجولةٍ بيروقراطيّة، وكان
البوّاب قد عرفني في الزيارات الرسميّة السابقة؛ فاستقبلني باحترام جاهلاً ـ لطيبة
قلبه ـ مدى البؤس الذي أعانيه كموظفٍ منسيٍ حقير ، ذلك البؤس الذي أكّده كوْنى رب
أسرةٍ مكتظّةٍ لا تذوق اللحوم إلّا في المواسم، وفي فناء العمارة صادفت رجلاً لا
أدرى من أيْن جاء، غاظني منه بصفةٍ خاصّة أنه كان يسير بأقدامٍ ثابتةٍ شديدة
الرسوخ والثقة، ظننتُه جاء يبحث عن شقّةٍ يستأجرها فتوقّعتُ منه تحيّةً متودّدةً
ولكنه تجاهلني بادئ الأمر تماماً، ومضى يُلقي على ما حوْله نظراتٍ متعاليةً خليقةً
بأن تثير حنق موظّفٍ ـ مهما قيل عن تعاسته ـ فهو مكتشف العمارة، فضلاً عن أنه ممثّل
السلطة التي ستحتلها بعد أيام قلائل، وتحفّزتُ للتحرّش به ولكن في حدود المعقول إذ
كان رَبْعةً متين البنيان مهيب الطَلْعة، وإذا به یبادرني ـ بلا تحيّةٍ ـ قائلاً:
-
أنت من طرف أصحاب
العمارة؟
فقلت باعتزاز:
-
أنا عضو لجنة
المصلحة التي استأجرت العمارة.
فقال بهدوء:
-
عظيم .. أريد أن ألُقي
نظرةً عامّةً على الداخل.
-
ولكن من حضرتك؟
فقال بتلقائيّةٍ وبساطة:
-
أنا مدير المصلحة.
صعقنى قوله فتشنّجت أطرافى وسرعان ما انحنيْتُ
بطريقةٍ آليّةٍ كرد فعلٍ سريعٍ للشحنة الكهربائيّة التي بعثها شخصه في كياني
المتهالك، وقلتُ بخشوع:
-
لا مؤاخذة يا صاحب
السعادة.
فقال بعدم اكتراث:
-
تقدّمنی.
اعتبرتُ أن السماء فتحت أبوابها في وجهي
وأغدقت عليَّ بركةً ورحمـة باختيارى مرشداً لسعادته، وتقدّمتُه في رشاقة، من مكانٍ
لمكان، واصـفـاً الموقع، مُـعَـدِّدا المزايا، مـُسـتـجـدياً نظراته الكريمة إلى
الحجرات والأبهاء والردهات، مشيرا بمنتهى الذوْق واللباقة إلى المرافق، وتطوّعتُ
قائلاً:
-
أعـتـقـد يـا صـاحب
الـسـعـادة أن الدور الثالث هو أليَق الأدوار بمقامكم .. فهو مرتفعٌ لدرجةٍ لا بأس بها تعتبر مانعاً
حاسماً لضوْضاء الطريق وفي الوقت نفسه لا تعد مشكلةً في الصعود أو النزول في حال
تعطل المصعد.
وفي فرصةٍ تاليةٍ قلت:
-
الرُكن البحري ذو
مزايا جغرافيةً لا يُستهان بها فالطريق يحدّه من جهتيْن أمّا الجهة الثالثة فتقع
بها محطّة بنزينٍ منخفضة .. فهو ممرٌ دائمٌ للهواء وضوء الشمس.
وفي فرصةٍ ثالثةٍ قلتُ مشيراً إلى أضخم حجرة:
-
هذه حجرتكم .. وممكن
وصلها بالحجرة التالية بهَدْم الجدار لتتّسع للاجتماعات وشَق بابٍ في الجدار
القبلى ليفتح على السكرتارية الخصوصيّة.
وقرأتُ أثر ذلك كلّه في وجهه السَمِح رضىً
وارتياحاً، ورجعنا إلى الفناء بعد جولةٍ سعيدةٍ موفّقةٍ وأنا ثملٌ بإلهامٍ سماوي
من عنف الفرح، وتفضّل سعادته فسألني:
-
وأنت في أي إدارة؟
فقلتُ متلقياً طاقة النجاة ببراعة:
-
كاتبٌ بالأرشيف يا
صاحب السعادة .. كاتبٌ منسي .. ولی شکوی قديمة.
ولكِنّه قاطعني قائلاً:
-
فيما بعد .. فيما
بعد.
فاعتذرتُ عن تسرّعي قائلاً:
-
لا مؤاخذة يا صاحب
السعادة .. سأرفع مظلمتي فيما بعد.
ومضى إلى الخارج وأنا أهرول في أثره فصادفه
بيّاع جرائد فـأخذ مجلةً وكتاباً بلغ ثمنهما خمسةً وعشرين قرشاً، وتبيّن لي أن
المدير لا يجد نقوداً صغيرةً تفي بالثمن وأن البيّاع لا يملك فكّةً لورقةٍ كبيرة،
حتّى هَمَّ المدير بإرجاع المجلّة والكتاب، ولكنني بادرتُ ـ مـدفـوعـاً بأريحيّةٍ
مُلْهِمة ـ بدفع المبلغ المطلوب، وتردّد المدير قليلاً ثم سلّم بالواقع قائلاً:
-
تعالَ من فوْرك إلى
مكتبى لأخذ نقودك.
وذهب يتمتم:
-
شُكراً.
تركني في دوّامةٍ من انفعالات السعادة
والأشواق إلى المجهول بحيْث كان من أيْسر الأمـور أن تـصـدمنى سـيـّارةٌ وأنا غارقٌ
في بحر الوَجْـد والأمل، وثَبَتَ في يقيني أن صفحةً جديدةً من الإشراق تُفْتَحُ في
تاريخي المليء بالمتاعب والمحن، فـقـد تعـرّفت بالمدير العام، وعملت لـه مـرشـداً
، وأطلعته على سوء حالي، ووعد بالنظر في مظلمتي، وفي لحظةٍ مباركةٍ محفوفةٍ بأنفاس
الملائكة أصبحت له دائناً بخمسةٍ وعشرين قرشاً، ومعاذ الله أن أطالبه بالديْن أو
أن أذكر أحداً به، فهو القربان الذي يهبني عطفه ويفتح لى عند الضرورة بابه، أجل
إنه مبلغٌ جـسـيـمٌ يـقـتـضـى اتـخـاذ إجراءات تقشِّفٍ جديدةٍ حتّى يتحقّق نوعٌ من
التوازن يكفل لى أدنى مراتب الحياة حتى ينقضي الشهر ولكن كُل شيءٍ يهـون إلا أن
أقطع بيدي أسباب القُربى التي تشدّني إلى رحمته.
وتم النقل إلى العمارة الجديدة، وكـالـعـادة اسـتـقـر
بنـا المقام ـ نحن موظفي الأرشيف ـ في البدروم، ولم أكف عن التفكير في العلاقة
الخفيّة السعيدة التي تربطني بصاحب السعادة، ولم أذهب إلى مكتبه للمطالبة بالمبلغ
كما أمر ولم يرسله إليَّ مع أحد موظفي مكتبه والحمد لله، ومرّت الأيّام تباعاً حتى
ساورني خوْفٌ أن يكون قد نسيني في غمار شواغله الكثيرة اللامحدودة، وأن تفلت من
يدى فرصة العمر، واستخرتُ الله، وتحوّطتُ عليْه ثم قرّرتُ أن أطلب مقابلة المدير
العام، وقصدتُ حجرة السكرتير الخاص ولكـن السـاعي اعترض سبيلي، وأفهمنى أن
السكرتير مشغولٌ جِدّاً، وأبدى استعداده لإبلاغه عن حاجتي، فقلت له:
-
أرجو تحديد موعدٍ
للتشرّف بمقابلة المدير العام.
فخطف الساعي نظرةً جـانـبـيّةً من بدلتي
المهلهلة ولكنه غاب عني دقيقةً وراء الباب المغلق ثم رجع وهو يقول:
-
اكـتـب حاجتك على
عرضحال تمغة وأرسلها بالطريق الإداري المتّبع.
ولم تُجْدِ معه أيّة محاورة فقد وجدته مغلقاً
صامداً مثل الباب الذي يجلس أمامه، ورجعتُ إلى مكتبي فريسةً لقَـهْـرٍ مُعَـذِّبٍ
ولكن بإرادةٍ مصمّمةٍ على الوصول مهما كلّف الأمر، ومن توّي لجأتُ إلى رئيسنا في
الأرشيف وهو كهلٌ يشاطرنا البؤس والهوان ولا يتقدّمنا إلا في العُمْر فطمعتُ أن
أجد عنده تجاوباً ورحمة، كاشفته برغبتي في مقابلة المدير العام وسألتُه الرأي
والنصيحة فسألني:
-
ولِـمَ تسعى إلى هذه
المقابلة العسيرة؟
-
أريد أن أعرض عليه
شكواي.
-
ألسنا كلّنا في
البلوى سواء؟
-
ولكِنّه شجّعني على
ذلك.
-
حقّا؟! .. متى وكيْف؟