الفصل الخامس
أقبل الشتاء وأصبحت "موللي" مصدراً
للمتاعب أكثر باطّراد، فهي تتأخّر عن مواعيد العمل كل صباح، وتنتحل الأعذار
المختلفة: أحياناً بدعوى تأخّرها في الاستيقاظ وأحياناً أخرى بدعوى أنها تعاني آلاماً
شديدةً برغم ما تتمتّع به من شهيّةٍ ممتازةٍ عند الأكل!، وكانت تختلق شتّى
المعاذير لتترك العمل، ثم تجري إلى البِركة تتطلّع طويلاً في صفحة المياه إلى
صورتها ثم سَرَتْ بين الحيوانات إشـاعـاتٌ خطيرةٌ عن صلاتها المريبة!
وبينمـا كـانـت "مـوللي" تتطلّع
إلى جـمـال ذيْلهـا وهي تمضغ الدريس أقبلت عليها "كلوفر" وانتحت بها
جانباً وهي تنبئها أن لديْها الخطير من الأمور: فقد شاهدتها من بعيدٍ عند الصباح
وهي تنظر نحو السور الذي يفصل مزرعة الحيوانات عن مزرعة "فوكس وود"؛ كما
شاهدت أحد رجال "بلكنجتون" يتحدّث إليْها عبر هذا السور!، وتساءلت "كلوفر":
-
ما معنى ذلك يا "موللي"؟
وهنا تلجلجت "موللي" قائلة:
-
آآآآ .. لم يكلّمني
أحد .. لم أكن هناك .. آآآ .. هذا زورٌ وبُهتان.
قالت هذا وهي تشب برأسـهـا ثـم تحـفـر الأرض
بحافرها؛ فقاطعتها "كلوفر":
-
انظري في عيْني ..
هل تُقْسِمين أن هذا الرجل لم يكن يداعب أنفك؟
فردت "موللي" وهي تشيح بوجهها بعيداً:
-
إن هذا ليس صحيحاً.
ثم انطلقت تعدو هاربةً في الحقل، ولاح خـاطـرٌ
بذهن "كلوفـر" فـانطلقت في صمتٍ إلى مربط "مـوللي" وقلّبت القَش
بـحـافـرها، فـوجـدت تحـتـه قِطَعاً من السُكّر ولَفّاتٍ من الشرائط المختلفة الألوان!
وبعد ثلاثة أيامٍ من هذا الحادث اختفت "موللي"
من المزرعة، ثم عَلِمَتْ الحـيـوانات بعـد ثلاثة أسابيع من هروبهـا بنبأ وجودها في
الجانب الآخر من بِلدة "ولنجدون"؛ فقد رآها الحمام وهي مُسْرَجةٌ إلى
عربةٍ صغيرةٍ حمراء خارج مبنى بلديّة المدينة على حين كان رجلٌ سمينٌ أحمر الوجه
يشبه عمّال البلديّة يداعب أنفها، ويطعمها بقطع السُكّر كـمـا كـان عـليـْهـا سِـرْجٌ
أنيقٌ ويُزَيّن مـعـرفـتـهـا شـريطٌ أرجواني، وكانت تبدو عليـْهـا مـعـالـم
السعادة الغامرة!، هكذا قـال الحمام، وبعد ذلك لم يعد أحد بالمزرعة يتحدّث بشيءٍ
عن "موللي"تشاحن بين سنوبول ونابليون.
وفي "يناير" كان الطقس قاسياً،
وكانت الأرض مغطّاةً بطبقةٍ صلبةٍ من الجليد، ولم يَعُدْ بالحقل عملٌ يؤدَّى؛ مما
أتاح للحيوانات فرصاً سانحةً للالتقاء فيما بيْنها في اجتماعاتٍ طويلةٍ بالحظيرة
الكُبرى حيْث كانت تدور المناقشات حوْل برامج عمل الموسم المقبل، وكان من المسلَّم
به بيْن الحيوانات أن تُتْرَكَ رسم سياسة إدارة المزرعة إلى الخنازير؛ لما تتمتع
به من ذكاء، وكانت هذه السياسات تُطْرَح بعد ذلك للتصـويت وتُقَرَّر بأغلبية
الآراء، وربما قُـدِّر لـهـذا الأسلوب النجاح لوْلا النزاع القائم والمستمر بين "سنوبول"
و"نابليون"، إذ يتربّص كل منهما بالآخر: فإذا ما اقترح أحدهما زراعة
الشعير احتج الآخر بتفضيل زراعة القرطم!، وإذا ما قال أحدهما إن أرضـاً مـعـيّنةً
تَصْلُحُ لزراعـة الكرنب احتج الآخـر بأنها لا تصلح إلّا للبطاطس!، وكـان لكلٍ منهـمـا
أتبـاعـه الذين يناصـرونـه بـحـمـاسٍ عند الـتـصـويت، وكانت "لسنوبول"
دائماً الغَلَبة عند الاقتراع نظراً لبراعـتـه الجـدلـيـّة برغـم مـا يـتـمـتّع به
"نابليـون" مـن براعةٍ في التخطيط وحَـشْـد الأنصار، وكانت الأغنام تدين
له بالزعامة؛ ولهذا فقد كان يوعز إليْها بمقاطعة "سنوبول" في اللحظات
الحاسمة بهـتـافٍ غريب: "ذوات الأربع أخيار .. وذوو الرجليْن أشرار".
وفي حـقـيـقـة الأمر فإن "سنوبول"
كان باحـثاً مـجـتـهـداً وقـد درس باستفاضةٍ أعداداً من المجلّات المتخصّصة في
أصول الزراعة والتربية الحـيـوانـيـّة سبق أن وجـدها في مـخـلّـفـات مـسـتـر "جـونز"،
وكانت لديْه مـشـروعـاتٌ عِـدَّةٌ لتحسين الصَـرْف وأصـول الـتـخـزين وتسـمـيـد
الأراضي، وقد قام بوضع خطّةٍ معقَّدةٍ تقوم بتنفيذها جميع الحيوانات بقضاء حاجتها
من الرَوَث (فضلات البراز) مباشرةً في الأوْقات والأماكن الاستراتيجيّة من الحقل
اختصاراً للجهد في عمليّات النقل، ولم يكن لـ"نابليون" خططٌ مثيلةٌ إلّا
أنه اتهم "سنوبول" بالتعويق وحُب الجدل وإضاعة الوقت.
وكان من أعصف الخلافات بيْن الخنزيريْن ما
دار بيْنهما من مناقشةٍ بخصوص مشروع بناء طاحونةٍ هوائيّة: ففي المرعى الممتد أشار
"سنوبول" إلى بقعةٍ معيّنةٍ من الأرض قريبةٍ من الربوة بعد أن اختبر
تربتها، وزعم أنها المكان الأمثل لتشييد الطاحونة التي يمكن منها توليد الكهربا
لإنارة الحظائر ولتدفئتها في الشتاء، كما يمكن تركیب منشارٍ كهربيٍ بها لنشر
الأخشاب، وكذلك مطحنة، وآلةٍ لدرس الغِلال، وكذلك إدخال آلات الحَلْب الكهربي، وهي
أمورٌ لم تكن الحيوانات قد سمعت بها من قبل؛ فهي تعيش بمزرعةٍ عتيقة، كل ما بها من
أدواتٍ وآلاتٍ بدائيٌ للغاية؛ ولذلك فقد استبدّت بها الدهشة وهي تسمع لشرح "سنوبول"
عن آلاته العجيبة التي ستقوم بالأعمال الشاقّة بدلاً منها على حين ترعى هي في سلام
وتستغل أوقات فراغها في الثقافة والتفكير!
وفي غضون أسابيعٍ قليلة كان "سنوبول"
قد انتهى من رسمه لتصميم الطاحونة مستعيناً في التفاصيل الآليّة (الميكانيكيّة)
بثلاثة مراجعٍ قديمةٍ بالمزرعة هي: "ألف شيءٍ يمكنك القيام به من منزلك"
و"كل رَجُلٍ يستطيع أن يبنيَ بنفسه" و"عِلْم الكهرباء للمبتدئين"،
وقد اتخذ "سنوبول" مكتباً خاصّاً لتنفيذ رسومه في حجرةٍ صغيرةٍ كانت تُسْتَعْمَلُ
قديماً كحضّانةٍ للبيْض ذات أرضيّةٍ خشبيّة، وكان "سنوبول" يخلو لنفسه
لساعاتٍ طوال بيْن كتبه، وبيْن فتحة ظِلْفه إصبعٌ من الطباشير يخطّط به على الأرض
وهو في حالة انـفـعـالٍ شـديـد!، وبمرور الأيّام تحوّلت تلك الخطوط إلى رسومٍ معقّدةٍ
ذات تروسٍ وأعمدةٍ تملأ نصف أرضيّة الحجرة!
ولقد كانت الحيوانات وكذلك الطيور تحضر
للمرسم كل يوم مرّةً على الأقل تُمْعِنُ في الرسم وكان من منغّصات حياتها أنها لا
تستطيع أن تقرأ رموزه!، أمّا "نابليون" فقد أحجم عن الحضور أو مشاركة
الحيوانات في اهتمامها؛ كما أعلن صراحةً أنه يعارض فكرة إقامة الطاحونة، وذات يوم
دخل إلى حجرة الرسم وتطلّع متهكِّماً برسوم التصميم، ودار حوْلها بتؤدّةٍ وتمعّن،
ثم توقّف في ركن الحجرة ناظراً إليْها ثانيةً بطَرْف عيْنه، ثم رفع فجأةً إحدى
رجليْه وبال عليْها، ثم خرج بعد ذلك دون أن ينبس بكلمة!
وكعادة الحيوانات في الخلاف على الرأي فقد
انقسمت على أنفسها ما بيْن مؤيدٍ للبناء ومعارض، وخصوصاً أن "سنوبول"
نفسه لـم يُنْكِر الصعوبات الجمّة التي تعترض تنفيذ مشروعه؛ فإن على الحيوانات أن
تحمل الأحـجـار إلى الموْقع ثم تبنيـهـا وفـقـاً للـتـصـمـيم؛ كـمـا أن هذه
الطاحونة تحتاج إلى مراوِح لكي تعمل، وكذلك ينبغي إيجاد الأسلاك الكهربيّة والمولِّد
الكهربي (ولم يكن "سنوبول" قد ذكر الكيْفيّة التي يمكنها بهـا الحـصـول
على الأدوات الكـهـربـيـّة)، وقد قطع "سنوبول" على نفسه العَهْد
بالانتهاء من بناء الطاحونة في ظرف عامٍ واحد.
أمّا "نابليون" فقد أعرب عن رأيٍ
مخالِفٍ في ضرورة ترك الكماليّات من الأمور إلى الضروريّات: كمضاعفة العمل لزيادة
إنتاج الحاصلات الغذائية، وقد أبدى تخوّفه إذا ما وَجَّهَت الحيوانات جهودها في
بناء الطاحونة أن ينخفض الإنتاج الغذائي؛ ومن ثَمَّ تتعرّض للمجاعة، وانقسمت
الحيوانات إلى فريقيْن لكلٍ منهما شعاره: الفريق الأول يدعو لمشروع "سنوبول"
الذي يحقّق خَفْضَ عـدد أيّام العمل بالأسبوع إلى ثلاثةٍ فقط، ورفع المعارضـون بالفريق
الثاني شعار "نابليون" في العمل على زيادة الإنتاج، وكان الوحيد الذي
بقي على الحياد في هذه المهاترات هو الحمار "بنيامين" الذي كان يشك في
إمكان تحقيق البرنامج الأول من تشييد الطاحونة وما يتبعها من تخفيض ساعات العمل،
وكذلك يشك في البرنامج الآخر وإمكان زيادة الإنتاج وكان يقول: إن الحياة هي الحياة
بكل ما فيها من شقاء سواء شُيّدَتْ الطاحونة أو لم تُشَيَّد!
وبجانب المناقـشـات العنـيـفـة عـن الطاحونة
فـقـد دارت بالمزرعة مناقشاتٌ مثيرةٌ حوْل ضرورة تحصين المزرعة استعداداً لجولاتٍ
أخرى قد يقوم بها الآدميّون لإعادة مستر "جونز" إلى مزرعته مرّةً ثانيةً
للثأر من هزيمتهم في معركة "حظيرة البـقـر"، وكانت الحيوانات ترجِّح أن
يقـوم الآدميّون بمثل هذه المحاولات بعد أن انتشرت أخبار المعركة؛ مما أوْجد روحاً
من المقاومة السلبيّة بين عامّة حيوانات المملكة.
وكما هو الحال دائماً فإن خلافاً قد نشب بين "نابليون"
و"سنوبول"؛ فقد كان رأي الأوّل هو ضرورة جَلْب الأسلحة وتمرين الحيوانات
على كيْفيّة استعمالها على حين كان رأي "سنوبول" إرسال بعثاتٍ دعائيّةٍ
من الحمام ونشر مبادئ الثوْرة بيْن الحيوانات الأخرى في جميع المزارع، واحتج "نابليون"
بأن التسليح أمرٌ حَيَوى؛ وإذا ما عجزت الحيوانات عن الدفاع عن أنفسها فإن مصيرها
المحتوم آتٍ لا ريْب.
وكانت الحيوانات تستمع للرأيّيْن وإن كانت لا
تستطيع أن تستقر على رأيٍ منهما؛ فقد كانت في حالة انسجامٍ وَقتيٍ مع كِلا المتكلّميْن
كُلّما انتهيا من حديثهما.
وأخيرا حَلَّ اليَوْم الذي انتهى فيه "سنوبول"
من إتمام تصميماته، ففي صباح يوم "الأحد" اجتمعت الحيوانات بمبنى
الحظيرة للـتـَصـويت على فكرة ابتداء العمل بالطاحونة، وبيْنما كان "سنوبول"
منهمكاً في عرض أفكاره أخـذت الأغنام تقـاطـعـه من وقتٍ لآخـر، ثم وقف "نـابـلـيـون"
مـعـارِضـاً وشـارِحـاً أن المشـروع مـحـض هراء! وأنه ينصح زملاءَه بالتـصـويـت ضِـدَّه،
ثم جلس ثانيةً في مكانه بعد أن تكلّم ثلاثين ثانيةً غيْر مكترِثٍ بما تركه من أثر!،
وعندئذٍ قام "سنوبول" مدافعاً عن فكرته، وحينما ابتدأت الأغنام في
مقاطعة حديثه صرخ فيها طالباً الصَمْت وقد قـدّم عـرضـاً وافياً لما يمكن أن تؤدّيه
الطاحونة لرفع مـسـتـوى مـعـيـشـة الحيوانات وتخفيف أعباء العمل في عباراتٍ رشيقة،
وأطلق العنان لخياله في المستقبل الذي يحلم به بعد اكتمال البناء وقد استأثر بقلوب
سامعيه حينما تكلّم عن كيْفيّة الاستعانة بالكهربا في الدراس والطحين وإنارة
الحظائر وتسخين المياه وتبريدها.
وفي هذه اللحظة الحاسمة وقف "نابليون"
مُلقياً نظرةً ذات مغزى على غريمه "سنوبول"، وأطلق من حنجرته نداءً
مبحوحاً بنغمةٍ لم يألفها منه أحدٌ من قبل!، وفي الحال سمع الحضور أصـوات نباحٍ
مخيف أعقبه دخول تسعة كلابٍ شرسةٍ إلى مبنى الحظيرة وفي أعناقها أطواقٌ مُطَعَّمَةٌ
بالنحاس، واتّجهت الكلاب إلى حيْث يجلس "سنوبول" الذي فَرَّ مذعوراً بعد
أن فَلَت بالكاد من أسنانها بقفزةٍ سريعة!، وفي لحظةٍ كان "سنوبول" يولّي
الأدبار والكلاب في أثره على حين تجـمـّعـت الحـيـوانات عند البـاب لمشاهدة مجريات
الأحداث وهي في حالةٍ شديدةٍ من الرعب، وكان "سنوبول" يوالي الفرار عبر
المراعي متّجهاً إلى الطريق العام في أقصى سرعةٍ يستطيعها خنزير، والكلاب في
أعقابه، وزلقت رِجله فوقع، ثم نهض مـواليـاً الـعـدو، وقـد كـاد كلبٌ منهـا أن
يطبق فكّيْه على ذيْله، ثم ضاعف "سنوبول" من جريه ودلف عبر حفرةٍ قريبةٍ
من سور المزرعة إلى الخارج، وكان هذا المشهد هو آخر عهد الحيوانات به!
وفي صمتٍ ورعبٍ زحفت الحيوانات عائدةً إلى
أماكنها بحظيرة الاجـتـمـاع وبعـد فـتـرةٍ وجـيـزةٍ عـادت الكلاب ثانيةً ولم يدُر
بخلد الحيوانات من أيْن وردت هذه الكلاب؟، ثم أسعفتها ذاكرتها بأن هذه الكلاب إنما
هي بعيْنها الجراء التي ولدتها "جيسى" و"بلوبل" والتي عزلها "نابليون"
وأخذ على عاتقه مسئوليّة تربيتها!، وبرغم أن هذه الكلاب لم تـكـن قـد بلغت بـعـد
تمام نموها فـإنـهـا كـانت في ضـخـامـة الـذئاب ووحشيّتها، واقتربت الكلاب من "نابليون"
وهي تهز ذيْلها له تماماً كما اعتادت أمهاتها أن تفعل في حضور مستر "جونز".
ثم اعتلى "نابليون" كومةً من القَشِّ
في نفس المكان المرتفع الذي كان يعتليه "ماجور" من قبل وأعلن أنه منذ
هذه اللحظة فإنه يأمر بتوقّف اجتماعات يوم "الأحد" الصباحيّة؛ فهي في
رأيه إضاعةً للوقت من غيْر جدوى؛ وذكر أنه بخصوص المستقبل فإن شتّى المشاكل المتعلّقة
بالعمل في الحقل ستكون من اختصاص لجنة من الخنازير تحت رياسته لدراستها في
اجتماعاتٍ مغلقة على أن تبلّغها له فيما بعد .
وأصبح النظام الجديد هو أن تجتمع الحيوانات
في صباح أيّام "الآحاد" لتحيّة العلم وترديد نشيد "يا وحوش إنجلترا"،
ثم تُتْلَى عليْها الأوامر الصادرة بخصوص عمل الأسبوع كلّه بلا مناقشات.
وصاحب الرهبة والذهول التي تملّكت الحيوانات
بعد التخلص من "سنوبول" أشد الاستياء لهذه القرارات وربما اعترض بعضها،
وقد كان من الممكن أن يعترضوا على هذه القرارات لو تهيّأت لهم وسيلةٌ للاعتراض،
حتى "بوكسـر" نفـسـه ؛ فـقـد أبدى اكتئابه وامـتـعـاضـه بأن أرجع أذنيـه
للخلف، وهز رأسه طويلاً يميناً ويساراً، وحاول أن يفصح عن أفكاره ، ولكنه لم يجـد
في النهايـة مـا يقـوله، وبرغم ذلك فإن بعض الخنازير كانت أكثر إفصاحاً عن غضبها؛
فقد صدرت عن أربعةٍ منها صيْحات الاستياء وقد وقفت على أرجلها الخلفيّة، وحينما
ابتدأت في عرض وجهة نظرها تحرّكت الكلاب التي كانت تجلس حول "نابليون"
وصدرت عنهـا زمـجـرةٌ عميقة، فسكتت الخنازير في الحال، واستسلمت للصمت، ثم انطلقت
الأغنام في ثغاءٍ عالٍ تردّد شعارها المختار "ذوات الأربع أخيار! .. ذوو
الرجليْن أشرار" لمدّة ربُعْ ساعة؛ ممّا استحالت معه أية محاولةٍ أخرى
للاحتجاج.
وبعد انفضاض الاجتماع توجّه "سكويلر"
إلى الحيوانات؛ ليشرح لها الوضع الجديد مبتدئاً كلامه بأنه على ثقةٍ أن رفيقاته من
الحيوانات تفهم تماماً مدى تضحية الرفيق "نابليون" بقبوله الأعباء
الإضافيّة التي لا بد أن تقع على عاتقه، وقال لها:
-
لا تتصوّروا أيها
الرفاق أن أعباء الزعامة سهلةٌ أو هيّنةٌ أو أنهـا من الأمور التي تبعث على
السعادة .. إن الرفيق "نابليون" هو أوّل من يؤمن بأن الحيوانات كلها
سواسية .. وكان بودِّه أن يترك لها حريّة اتخاذ القرارات إلا أنه يخشى عليْها مغبّة
اتخاذ الحلول الخاطئة.
وتساءل "سكويلر":
-
كيف تكون الحال لو
أنكم اتّبعتم "سنوبول" وأحلامه المضلِّلة .. وهو كما تعلمون لا يزيد عن
كوْنه مجرماً .....
وقاطعته إحداها بأن "سنوبول" قد
أبلى بلاءً حسناً في معركة "زريبة البقر" فرد عليـْهـا بأن الشـجـاعـة
وحـدهـا لا تعني شيْئاً، وأن صـفـاتٍ أخـرى كالإخلاص والطاعة هي أكثر أهميّة؛
واستمر في حديثه فقال:
-
أما بخصوص المعـركـة
فـسـيحين الوقت الذي فـيـه تـعـرفـون أن كـثـيـراً من المبالغات قد نسجها الخيال
حول دور "سنوبول" .. إن النظام أيها الرفاق بل النظام الحديدي هو سندنا؛
فإن أعـداءنـا يـتـربـّصـون بنا .. وعند الكبـوة الأولى من جانبنا فإنهم سيُطْبِقون
علينا .. أيها الرفاق، هل تقبلون عودة مـسـتـر "جونز" ثانيةً؟
ومن غـيْـر شك فلم تكن الحـيـوانات لترغب في
ذلك، وقد أفحمتها حجج "سكويلر" وأنه لا بأس من التضحية بندوات يوم "الأحد"
إذا ما كان في الاجتماعات ما يهدد بعودة "جونز" وعصابته.
وعندئذٍ تكلّم "بوكسر" وقال:
-
إذا ما كان الرفيق "نابليون"
قد بعثك بهذه الحجّة فلا شك أنه صادق.
ومنذ ذلك التاريخ فإن "بوكسر" اتخذ
لنفسه شعار: "نابليون دائما على حق" بجانب شـعـاره الخاص "سـأعـمل
أكثر ".
ثم أقبل الربيع وابتدأت الحيوانات في حرث
الأرض على حين كان المَرْسَم الذي سبق أن خصّصه "سنوبول" لنفسه ما زال
مغلقاً، وقد نسيت الحيوانات كُل ما يتعلّق بمشروع الطاحونة بعد أن ظنّت أن تلك
الرسوم قد مُحِيَت من على وجه الأرض.
وفي صباح يوم "أحد" كانت الحيوانات
تجتمع في الحظيرة الكبيرة؛ لتستمع إلى الأوامر الأسبوعيّة، وقد أصبح برنامج ذلك
اليوم يبتدأ برفع العَلَم، ثم المرور في طابورٍ تنحني فيه الحيوانات أمام جمجمة "ماجور"
العجوز (التي كانت قد أخرجتها من قبره، وثبّتتها على قاعدة، ثم وضعتها تحت العلم
بجوار البندقيّة) ثم تدخل بعد ذلك إلى الحظيرة الكبرى، ولم تعد الحيوانات تخلو
بعضها إلى بعضٍ في اجتماعات تتبادل فيها الرأي كما كان يحدث سابقاً؛ فقد كان
نابليون يتـصـدّر المجلس وبجـواره "سكويلر" في جانب و"مينيمس"
وهو خنزيرٌ ضخمٌ في الجانب الآخر، كـانـت لـه مـوهبةٌ ممتازةٌ في تأليف الأغـاني
والأشعار، وتحيط بالثلاثة الكلاب التسعة على هيْئة نصف دائرة، على حين تجلس بقية
الخنازير خلفها، أما بقية الحيوانات الأخرى فقد كانت تجلس في مواجهة "نابليون"
الذي كان يتلو عليْهـا الأوامر الأسبوعيّة في أسلوب بلاغاتٍ عسكريّة!، ثم ينفضُّ
الاجتماع بعـد تردید نشـيـد "یا وحوش إنجلترا".
وبعد ثلاثة أسابيعٍ من طرد "سنوبول"
فوجئت الحيوانات ببلاغٍ من "نابليون" في صباح يوم "الأحـد" ينبـئـهـا
فـيـه بـوجـوب الابتـداء في بناء الطاحونة بدون إبداء الأسباب، وقد حذّرها من
ضخامة العمل الذي سَتُقْدِمُ عليه ومن وجوب التضحية في سبيله بما في ذلك احتمال
تخفيض وجـبـاتـهـا الغـذائيـّة!، وذكر أن لجنةً خـاصّـةً من الخنازير قـد قـبـعت
في الأسابيع الثلاثة الأخيرة لإعداد المشروع الجديد بعد إدخال كثيرٍ من التعديلات
والتحسينات عليه؛ ممّا يُحْتَمَل معه امتداد فترة التنفيذ إلى عاميْن.
وفي المساء جمع "سكويلر" الحيوانات
وذكر لها أنه في حقيقة الأمر لـم يكـن الـرفـيـق "نابليـون" مـعـارضـاً
بتـاتـاً للمـشـروع، بل إن العكس هو الصحيح، وإن فكرة إنشاء الطاحونة كانت من وحيه
هو، كما أذاع أن الرسوم الخاصّة بها كانت قد سُرِقَت من بيْن أوراقه، وأن المشروع
من بدايته إلى منتهاه إنما هو في الحقيقة من ابتكاره!، وهنا قاطعته إحداها بقوْلها:
-
إذا كان الأمر كذلك
ففيم إذن كانت كُل معارضة "نابليون" للمشروع؟
فحدجها (رماها بنظرةٍ حادّة) "سكويلر"
بخبثٍ وقـال:
-
إنكم لا تعلمـون
بعـد أيـّهـا الرفاق مدى دهاء الزعيم بكل بساطة .. لقد كان "نابليون"
يتصنّع مثل هذه المعـارضـة؛ ليتخلص بهـا من "سنوبول" ومن تأثيره السيّء
وأخـلاقـه الذميمة .. إن ما قام به "نابليون" هو ما يُسَمَّى بالمناورات
"تاكتيك".
ثم قال "سكويلر":
-
والآن فقد حان وقت
العمل بدون إبطاء.
وكان "سكويلر" منفعلاً ويميل بجسمه
من جانبٍ إلى آخر، ويهزُّ ذيْله بعصبيّة، ويطلق ضحكاتٍ صاخبة!
ومع أن الحيوانات لم تفهم ماذا كـان يعني "سكويلر"
بلفظ مناورات "تاكتيك" فإن طريقته في الإلقاء وما حوْله من الكلاب
الثلاثة التي كانت تصحبه لم تدَع أمامها من سبيلٍ إلّا الاقتناع.