العريس (1)
عند تلك النقطة من الحديث مال نحوي حتى شعرت
بأنفاسه تنداح فوق صدغي وقال:
-
إعزِم وتزوّج.
استجبت لاقتراحه، كنت في الواقع أتلهّف عليه،
بِت مؤمناً بأن الزواج هو المغامرة الوحيدة القيّمة الباقية لي في الحياة، قلت:
-
فكرةٌ طيّبة.
-
وماذا تنتظر؟
-
أنتظر العروس بنت
الحلال.
-
هل بحثتَ عنها بجد؟
-
لا وقت عندي للبحث.
فقال واهتمامه بالموضوع يزداد بقوّة:
-
يوجد حلٌ لكل موقفٍ
مُعَقَّد، ما هي شروطك؟
-
عروسٌ مناسبة .. هذا
ما أريد.
-
ست بيتٍ أم عاملة؟
-
ست البيت مفيدة والعاملة
لها مزاياها غير المنكورة.
-
العاملة تملك إيراداً؟
-
الفقيرة مقبولةٌ عندي
وذات الإيراد مقبولةٌ أيضاً.
-
ألك مواصفاتٌ خاصّةٌ
في الجمال؟
-
حسبي أن تكون
مقبولة.
-
شروطك يسيرة .. أنت
تريد امرأةً حسنة المعاشرة.
-
بلا زيادة.
فقال بثقة:
-
طلبك موجود .. هل
تعرف أسرة "ميري"؟ .. "عابد میري"؟ .. كريمته هي مَن أرشحها لك.
وقادني ذات يومٍ إلى أسـرة "عـابـد
مـيـري" فـقـدّمني لهم - الأب والأم والفتاة - والحق أنّي غادرت بيتهم عاشقاً
أو قريباً من ذلك، تبدّت لي الفتاة مثالاً للرزانة والأنوثة والكمال البيْتي،
أحببتُ وقار الأب وأبّهة الأم.
وفي ذلك اللقاء تم الاتفاق الأوّلي وهو ما
يقابل الترشيح للوظيفة فی اصطلاحاتنا الحكوميّة، وبقي الأهم وهو مسوّغات التعيين
وتقرير مكتب الأمن، ومن ناحيتي تحرّيت عنهم فـجـاءتني تقاريرٌ متناقـضـةٌ كالمتوَقَّع،
قيل لي: "نِعْمَ التوْفيق .. أسرةٌ ولا كـل الأسر .. ضمنتَ الطمأنينة والسلام
في الحياة والموت"، وحذّرني آخرٌ قائلاً: "لا تغرَنَّك المظاهر ..
ستخنقك أغلال العبودية"، وسمعت حكاياتٍ عن جنون بعض أفراد الأسرة وانتحار
آخـرين ولكـن لـم يوهِن ذلك من عـزمي، تحصّنت بخـبـرتي الطويلة بالحـيـاة والبشر،
وأسكرتني نشـوةٌ متحفّزةٌ للمغامرة ودق أبواب المجـهـول، وقلت لنفسي: "إن
الحياة نفسها شبيهةٌ بهذا الذي يقال .. تلقيْناها وهي مثالٌ للأمان حتى بعد الموت
ثم تكشّفت لنا عن مجهولٍ جليلٍ واحتمالاتٍ مبهَمَة وما زلنا نعشقها ونتعلّق
بأذيالها حتّى الموت".
وفي الوقت نفسِـه تعـقّـبـتني التـحـريات
تغوص في أعـمـاق ذاتي و تاریخي، فساورني قلقٌ غيْر قليل، ورجوْتُ أن يسود التسامح
وينتصر في النهاية، وجاءني صديقي الوسيط وقال لي:
-
لم أعرف أسرار صحّتك
إلّا هذه الأيّام.
فدُهِشتُ وتساءلت:
-
حتّى عن الصحّة يتحرّون؟
-
طبعاً .. كثيرون لا تزكّيهم
في الختام إلّا صحّتهم القويّة.
-
إنّي بحمد الله
أتمتع بصحّةٍ جيدة.
-
ولكن توجد رصاصةٌ
مستقِرّةٌ من قديم في صدرك تحت الترقوة.
فضحكتُ منتشياً بالذكريات وقلت:
-
ذلك تاريخٌ قديم.
-
ولكن كيْف نَفَذَت
إلى صدرك؟
فقلت بعد تردّد:
-
في مظاهرةٍ وطنيّة.
-
تلك حجة كل مصابٍ
برصاصة قديمة.
-
أيمكن أن يشكّوا في
ذلك؟
-
العجوز أصبح يشك في
الثوْرة نفسِها مع أنه كان من معاصريها .. هو اليوْم يقول إنه لم تندلع ثوْرةٌ ولم
يُطلَق رصاصٌ ولم يُستَشهَد أحد.
-
هذا جنونٌ رسمي!
فابتسم الصديق قائلاً:
-
على أي حال فمِن حُسْن
الحظ أنه قيل له إنك أُصِبت بها في ملهىً للغناء والرقص.
-
أتعِد ذلك من حسن
الحظ؟
-
نسبيّاً .. يمكن
الدفاع عن عَبَث الشباب وطيْشه .. أمّا التورّط في شئون السياسة فيُعَرِّض الإنسان
لأخطارٍ مجهولة وبالتالي تتعرّض لها أسرته .. على أنني دافعت عنك في هذا الشأن.
-
ماذا قلت؟
-
قلت إنك لم تنتمِ
لحزب .. ولا تنتمي لرأي .. وأنك مخلصٌ للدوْلة .. لم تكن من الليبراليّين ولا
الشيوعيّين ولا الإخوان وذلك بلا شك يزكّيك كزوجٍ مأمون المستقبل.
فقلت بانقباض:
-
ولكن من الظُلم أن
يقال إنني تعرّضت للقتل في ملهىً للرقص.
-
ما عليْنا .. وما
حكاية خوفك من الصراصير؟
فضحكتُ عالياً وقلت:
-
حتى هذا؟
-
قيل إنك تهدر وقتاً
ثميناً في رَش المطبخ والحمام والحجرات .. وأن منظر صرصورٍ خليقٌ بأن يفزعك لدرجة
الصراخ .. حتّى ولو كان من النوع الألماني الصغير الرشيق.
-
أهكذا تصفه؟
-
الأمر تافه .. يبدو
تافهاً .. ولكن ماذا يعنيه؟ .. هذه هي المسألة .. ويقال أكثر من ذلك إنك تتوَهّم
أن البلد ستتحسّن أحواله كثيرا إذا نجحت في إبادة الصراصير.
غضبتُ ولا شك وأنا أتابعه ثم سألته بازدراء:
-
أيهتمّون حقّاً في
بيْت "عابد ميري" بتلك السخافات؟
-
يا عزيزي إنهم
يحترمون بعض الذكريات المتعلّقة بالصراصير.
-
کلا!!
-
هو الحق .. كانت لهم
جَدّةٌ تؤمن بأن الصراصير تحمل بعض أسرار الوجود.
فقلت ساخراً :
-
إذن نحاول احترام
الصراصير حُبّاً في آل "ميري".
ورحتُ أفكّر ـ عـقـب انفرادي بنفـسي ـ في
طريق الزواج المعـقّـد وهوس التحريّات التي تسبقه، كأن الناس يطمحون إلى الظفر
بالتوافق المنشود بين الزوجيْن كاملاً غير منقوص، جاهزاً بلا عناء التجربة، قبل خوْض
الحياة الزوْجيّة، متناسين قُدرة الإنسان الخارقة على التكيّف من تحديات الواقع،
فالإنسان الذي عاشـر عصـور الصيد والرَعْي والزراعة والقَحْط والجَليد فتغلّب على
عناء المواجهة وحل التناقضات القاسية وحقّق ذاته على الوجه المقبول الذي قَرَّ له
البقاء في الحياة، ذلك الإنسان قادرٌ بلا شَك على التكيّف مع عروسه الجديدة مهما
يكن من تنافر ماضيه وماضيها.
وفكرت أيضـاً فـيـمـا كـان يؤخذ عليَّ في
الماضي من عـدم الانتماء لحزبٍ من الأحزاب، وما رُميتَ به بسبب ذلك من تُهَم
البلادة وقِلّة التربية الوطنيّة وغَلَبَة العَبَث والتَفاهة والأنانية وكيف انقلب
ذلك إلى نقطة قوّة تزكّيني في غمار التحريّات التي تنهال على منقبة عن المستور من
خطایاي!
وجاءني صديقي الوسيط بعد ذلك بأسبوعيْن فتفحّصتُه
بقلق وقلت:
-
طبعاً ما زالت
التحريّات جارية؟
فضحك باقتضابٍ وقال:
-
الحديث كان عن
السلوك الشخصي.
-
هو على أي حال من
ذيول الماضي الذي قرّرت تغييره من جذوره.
-
أنا نفسي قلتُ ذلك
.. ولكن الماضي يتـمـثّـل لـبـعض الناس وكـأنّه الحقيقة الوحيدة الراسخة.
-
يا له من موقفٍ سخيفٍ
حقاً.
فقال برقّة ليخفّف من وَقع حمولته:
-
كلامٌ قيل عن القمار.