لا تهاجر
تعليقٌ واجبٌ قبل أن تقرأ هذه القصيدة:
قال بعض المغرِضون أن الشاعر "أحمد مطر" كان قد لامس حدود الكُفر والإلحاد بأن نَظَم هذه القصيدة عن هجرة الرسول المباركة، وأنه عرّض بالنبي (عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم) عندما قال له: "لا تُهاجِر"، وأنه وصف نساء الأنصار بأنهم قيناتٌ يقُلن للرسول الكريم: "أنت مجنونٌ وساحر" .. إلخ.
ولكن حقيقة الأمر أن الشاعر يُخاطِب في قصيدته تلك الإنسان العربي ويُناقِش واقعه المُتردّي في وطنه وإحساسه العميق بالخوْف وعدم الأمان على حياته وحريّته وكرامته حتى غدت الهجرة مستحيلة بل وصعبة في ظل القهر المتفشّي في أوطاننا البائسة.
وإذا كانت هجرة المواطن العربي أمراً حيويّاً ومطلوباً رغم أنه صعبٌ ومحفوفٌ بالمخاطر لأن الظروف غير المواتية تقف حائلاً بينه وبين هروبه من واقعه المرير إلّا أن ظروف وسياقات الرسول - صلّى الله عليه وسلم - كانت مُناسِبةً تماماً للهجرة من حيث توافر الإيمان بالله والدليل والصاحب والبيئة المستقبِلة والعوْن الإلهي.
أمّا ذِكره لآية النسف فقد قصد منها أن يُدلِّل على أن قراءة النص القرآني بعيداً عن سياقه قد لا تكون صائبةً بل تؤدّى إلى التباس الأفكار والبُعد عن المعاني المقصودة.
والشاعر "أحمد مطر" - بما له من قيمةٍ وقامةٍ شعرّيةٍ وثقافيّةٍ وحضاريّة - يعايش الآن حالة الانحطاط التي تحياها الأمة العربيّة على كل المستويات السياسيّة والاجتماعيّة والحضاريّة وما ترتب على ذلك من استبدادٍ وتخلُّفٍ اقتصاديٍ وثقافيٍ وماجتماعي تتجرّعه الأُمّة جيلاً بعد جيل في الوقت الذي وصلت فيه الأمم الغربية إلى التقدُّم والرُقي في مختلف المجالات.
القصيدة:
لا تهاجِر
كل مَن حوْلك غادِر
كل ما حوْلك غادِر
لا تَدَعْ نفسَك تدري بنواياك
الدفينة
وعلى نفسِك مِن نفسِك حاذِر
هذه الصَحْراءُ ما عادت أمينة
هذه الصَحْراءُ في صَحْرائِها
الكُبرى سجينة
حوْلَها ألفُ سفينة
وعلى أنفاسِها مليونُ طائِر
ترصُد الجَـهْرَ وما يخفَى
بأعماقِ الضمائِر
وعلى بابِ المدينة
وقفت خمسونَ قَيْنة (جارية
وظيفتها الغناء)
حَسْبَما تَقضي الأوامِر
تضربُ الدُفَّ وتشدو: "أنت
مجنونٌ وساحر"
لا تهاجِر
أيْن تمضي؟ .. رَقَمُ الناقةِ
معروفٌ
وأوْصافُك في كُلِّ المخافِر
(أقسام الشرطة)
وكلابُ الريح تجري ولَدَى الرملِ
أوامِر
أن يماشيك (يسير معك) لكي يرفعَ
بصماتِ الحوافِر
خَفِف الوطء (تمهّل في مَشْيك)
قليلاً
فأديمُ الأرضِ (ظهر الأرض ومَن
عليها) من هَذي العساكِر
لا تهاجِر
اخفِ إيمانَك
فالإيمانُ ــ أستغفرُهم ــ إحدى
الكبائِر
لا تَقُل إنك ذاكِر
لا تَقُل إنك شاعِر
تُب فإن الشِعرَ فحشاءٌ وجَرْحٌ
للمشاعِر
أنت أُمّيٌ (جاهل)
فلا تقرأ .. ولا تكتبْ
ولا تحملْ يراعاً (القَصَب الذي
تُصْنَع منه الأقلام) أو دفاتِر
سوف يُلقونَك في الحَبْس
ولن يطبعَ آياتِك ناشِر
امضِ إن شِئْتَ وَحيداً
لا تَسَلْ أيْن الرجال
كل أصحابِك رهنَ الاعتقال
فالذي نامَ بمأواك أجيرٌ متآمِر
ورفيقُ الدربِ جاسوسٌ عميلٌ
للدوائِر (مؤسّسات الدولة كالاستخبارات والشرطة)
وابن مَن نامت على جَمْرِ الرمالِ
في سبيلِ الله: كافِر
نَدِموا من غيْرِ ضغطٍ
وأقّروا بالضلال
رُفِعَت أسماؤهم فوق المحاضِر
وهوت أجسادُهم تحت الحبال
امضِ إن شِئْتَ وحيداً
أنت مقتولٌ على أيةِ حال
سترى غاراً (كهفاً)
فلا تمشي أمامه
ذلك الغارُ كَمينٌ
يختفي حين تفوت
وترى لُغْمَاً (متفجرات عندما
يُداس عليها) على شكلِ حمامة
وترى آلةَ تسجيلٍ على هيئة بيْتِ
العنكبوت
تلقُط الكِلْمةَ حتى في السكوت
ابتعد عنه ولا تدخل وإلا ستموت
قبل أن يُلْقِي عليك القبضَ
فرسان العشائِر
أنت مطلوبٌ على كل المحاوِر
لا تهاجِر
اركَب الناقةَ واشحَن ألفَ طَن
قِف كما أنت ورتِّل آيةَ النسف (وهي
الآية رقم 97 من سورة "طه": "وَانظُرْ إِلَىٰ
إِلَٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ
لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا")
على رأسِ الوَثَن
إنهم قد جَنَحوا للسِلْم فاجنح
للذخائِر
ليعودَ الوطنُ المنفيُ منصوراً
إلى أرض الوطن