الخطاب
أوقفوني وأنا أضحكُ كالمجنونِ وَحدي
من خطابٍ كان يلقيه أميرُ المؤمنين
كلّفتني ضِحكتي عشرَ سنينْ
سألوني - وأنا في غرفةِ التحقيق - عمَّن حرّضوني
فضَحِكْت ..
وعن المال .. وعمَّن موّلوني
فضَحِكْت ..
كتبوا كلَّ إجاباتي .. ولم يستجوبوني
قال عنّي المدّعي العام ، وقال الجُندُ حين اعتقلوني
إنني ضدَّ الحكومة
لم أكن أعرف أنَّ الضحك يحتاجُ لترخيصِ الحكومة
ورسومٍ ، وطوابع ..
لم أكن أعرف شيئاً عن غسيلِ المخِّ ..
أو فَرْم الأصابع
فعلى طولِ الصحارى العربيّة
ممكنٌ أن يكتبَ الإنسانُ ضدَّ الله .. لا ضدَّ الحكومة
فاعذروني ، أيّها السّادةُ ، إن كنت ضَحِكْت
كان في وِدّي أن أبكيَ .. ولكنّي ضَحِكْت
كنتُ بعدَ الظهرِ في المقهى .. وكان البهلوان
يلبس الطرطور بالرأس
ويُلقي كلَّ ما يطلبهُ المستمعون عن حزيران
الذي صار مع الأيام .. ما يطلبهُ المستمعون
واحتفالا مثل عيد الفِطرِ والأضحى
أراجيح ، وكعكاً ، وفطائر
وزيارات مقابر
كنت أسترجعُ أفكاري، وكان المُخبرون
كالجراثيمِ: على كلِّ الفناجينِ ، وفي كلِّ الصحون
كنت أصغي - كألوفِ البسطاء الطيّبين - لكلام البهلوان
وهو يحكي .. ثم يحكي .. ثم يحكي
مثلَ صُندوقِ العجائب
وتذكّرت ليالي رمضان
وأراجوازَ الذي كان له ألفُ لسانٍ ولسان
وتذكّرت "فلسطينَ" التي صارت حَقيبة
ما لها في الأرضِ صاحب
كان في حنجرتي مِلْحٌ ، وحزني كان في حَجْم الكواكِب
فاعذروني - أيّها السّادة - إن حطّمتُ صُندوقَ العجائب
وتقيّأتُ على وجهِ أمير المؤمنين وكبيرِ الياوران واسترحت
كان في ودّي أن أبكي ..ولكنّي ضَحِكْتْ ..
نشروا في صُحُفِ اليوْم تصاويري على أوّلِ صفحة
واعترافاتي على أولِ صفحة
فضحكت ..
قدّموني للإذاعاتِ طعاماً ولأسنانِ الصحافة
جعلوني دونَ أن أدري خُرافة
ربطوني بالسّفاراتِ .. وأحلافِ الأجانب
فضحكت ..
إنني لم أشتغلْ من قبلُ قوّاداً .. ولا كنتُ حِصاناً
للأجانب
أنا عبدٌ من عبادِ الله مستورٌ ومغمورٌ ومحدودُ المواهب
أسمعُ الأخبارَ كالناسِ .. وأستقبلُ مأمورَ الضرائب
زَوْجتي طيّبةُ القلبِ، وعندي وَلَدان
وأبي حاربَ ضِدَّ التُركِ في الشام
.. ومات
أنا لا أفهمُ في النحوِ وفي الصَرْفِ وفي علمِ الكلام
غَيْرَ أني لم أعدْ أفهمُ - من بعد حزيران - الكلام
لم أعدْ أهضمُ حرفاً من أكاذيب أمير المؤمنين
صارت الألفاظُ مطّاطاً
وصارت لغةُ الحكّامِ صَمْغاً وعجين
خَدّروني بملايينِ الشعارات .. فنِمْت
وأروني "القدسَ" في الحُلْم
ولم أجد "القدسَ" ولا أحجارها حينَ استفقت
فاعذروني - أيّها السّادة - إن كنتَ ضَحِكْت
كان في وِدّيَ أن أبكي .. ولكنّي َضِحْكت
كنتُ في المخفرِ مَكسوراً كبللورِ كَنيسة
نافخاً سورة "ياسين" بوجهِ القاتلين
لم أكنْ أملكُ إلا الصبرَ .. واللهُ يحبُ الصابرين
وجِراحي كبساتين "أريحا"
يمطرُ الياقوتُ منها .. ويضوعُ الياسَمين
و"فلسطينُ" على الأرضِ حقيبة
سَقَطَت تحتَ نعالِ المُخبرين
لم يزُرْني أحدٌ في السجن
إلا جبلُ "الكَرْمِلِ" والبحر وشمس "الناصرة"
كنت وحدي
وملوكُ الشرقِ كانوا جُثَثاً فوقَ مياه الذاكِرة
كنت مجروحاً ومطروحاً على وجهي كأكياسِ الطَحين
أيّها السّادة: لا تندهشوا ..
كلُّنا - في نظرِ الحاكمِ - أكياسُ طَحين
كلُّنا - بعد حزيران - خراف
نتسلّى بحشيشِ الصَبر .. والله يحبُّ الصابرين
أيّها السّادةُ:
إني وارثُ الأرضَ الخراب
كلّما جئتُ إلى بابِ الخليفة
سائلاً عن "شرمِ الشيخِ" وعن "حيفا"
و"رام الله" و"الجولان" أهداني خطاب
كلّما كلّمتُهُ - جَلَّ جَلاله - عن حزيران
الذي صارَ حشيشاً نتعاطاهُ صباحاً ومساء
واحتفالاً مثل عيدِ الفطرِ والأضحى وذكرى "كربلاء"
رَكِبَ السيّارةَ المكشوفةَ السقف وغطّى صدرَهُ بالأوْسمة
ورشاني بخطاب
كلّما ناديتُهُ: يا أميرَ البرِّ والبحرِ ويا عالي الجناب
سَيْفُ "إسرائيلِ" في رقبتنا
سَيْفُ "إسرائيلِ" في رقبتنا
سَيْفُ "إسرائيلِ" في رقبتنا
رَكِب السيّارةَ المكشوفةَ السقفِ .. إلى دارِ الإذاعة
ورشاني بخطاب
ورماني بين أسنانِ الجواسيسِ وأنيابِ الكلاب
فاعذروني - أيّها السّادة - إنْ كنتُ كَفَرْتُ
وصَفوا لي صبرَ "أيّوبِ" دواء .. فشربت
أطعموني ورقَ النشّاف - ليلاَ ونهاراَ - فأكلت
أدخلوني لـ"فلسطينِ" على أنغام ما يطلبُهُ
المستمعون
أدخلوني في دهاليزِ الجنون
فاعذروني - أيّها السّادة - إن كنتُ ضَحِكْت
كان في ودّي أن أبكي ..ولكنّي ضَحِكْت