"مصر"
هيّ أُمّهم (1)
دقّت الساعة الثانية
عشرة من منتصف ليْلة السابع من أبريل وبدأ حفل عيد ميلاد الفنّانة "فجر"
يمتلئ عن آخره بالروّاد والمهنئين بعد أن فرغوا من أعمالهم التي تستغرقهم أطراف
النهار وآناء الليْل فيبدأون في الساعات الأولى من كل صباح في السهر والتجمّع
لممارسة حياتهم الاجتماعيّة الطبيعيّة حين يأوي باقي الناس العاديّين للرقاد
استعداداً للكد والعمل في اليوْم التالي.
و كعادتهم دوْماً
فقد تقسّموا إلى ثُلَلٍ أو كما يقولون بالعاميّة المصريّة "شِلَل" ؛ كلّ
ثُلّةٍ منهم تلتف حوْل مائدةٍ مستديرةٍ كبيرة في قاعة الفندق الكبير الذي استأجرته
الفنّانة ليسع هذا العدد الكبير، وبعكس أصناف الماكولات والمشروبات التي تنوّعت وتباينت
بكثرة على كل مائدة فقد توحّدت نوْعيّة كل ثُلّةٍ واقتصرت على صنفٍ واحدٍ من المهن
غلب على كل مائدة: فتلك مائدة الممثّلين وهذه مائدة المطربين والأخرى مائدة
النقّاد وهكذا، وباستثناء ما جاء في كتاب "مجمع الحِكَم والأمثال" "لأبي
الفضل الميداني" بشأن الطيور التي على أُلافها (أشكالها أو أمثالها) تقع وبشأن
الحمام الذي لا يجتمع بجماعة الصقور وبشأن اللقالق التي لا تعيش إلّا مع اللقالق
فقد ترى في الحفل أفراداً من مهنةٍ ما لا تمانع البتّة في الجلوس مع من يخالفها في
طبيعة عملها أو يغايرها في سلوكها فتأكل على جميع الموائد وذلك تأسيساً على أن لكل
قاعدةٍ شواذ.
وطفقت
"فجر" على الطواف بين ضيوفها الذين أحضروا لها الهدايا الفاخرة ليقدّموا
فروض الطاعة والولاء لواحدةٍ من أعمدة الفن المصري المعاصر، وتعالت الضحكات وزادت
القهقهات بين الضيوف في القاعة التي لفّها ضبابٌ كثيف إثر ما انكب عليه الساهرون
من تدخينٍ للسيجار والسجائر والنرجيلة وما تيسّر من باقي الأصناف الأخرى، وأقدمت
"فجر" على مائدة الممثّلين الذين باركوا لها عيد ميلادها وتمنّوا لها
عمراً مديداً سعيداً في حين سألها أحدهم :
- حاطّة كام شمعة ف
التورتة بتاعة الليلة دي يا نجمة؟
وسرعان ما أجابته في
دلال :
- شمعة واحدة بس.
وبدأ الباقون في
مجاذبتها أطراف الحديث ليثبتوا حضورهم بمجاملتها ويؤكّدوا وجودهم بالمزاح معها :
- معنى كده إن انتي
نُغَّة ولسّه بتسنّني بقى؟
- ها ها ها.. بس
برضه أحسن م اللي انتي عملتيه ف عيد ميلادِك اللي فات.. بقى يا خنشورة ما تحطّيش
ولا شمعة ف التورتة بتاعتِك.. ليه؟.. لسّه ما اتولدتيش؟
- واللهِ يا جماعة أنا
مش عارف ليه بتخبّوا عمركم الحقيقي وكأنه من الأسرار الحربيّة.. أنا عن نفسي ما
بتكسفش اقول إن عمري السنة دي بقى تلاتة واربعين.
- صح.. طول عمرك
صريح.. يا راجل ده انت بقى لك خمس سنين رابط على التلاتة واربعين.. إيه هوَّ الزمن
عندك وقف خلاص؟.. ها ها.
- ما بلاش إحراج بقى.
- طب بلاش حكاية
السِن دي يا "فجر".. قولي لنا أخدتي كام ف آخر فيلم؟
- الله أكبر من عينك..
أخدت خمسة جنيه.
- لا صحيح.. دول
كتبوا ف الجرايد إنّك أخدتي أربعتاشر مليون.
- كدّابين.. واللهِ
ما اخدت غير إتناشر بس علشان ظروف البلد اللي احنا فيها دي.
- برافو عليكي.. هيّ
دي الوطنيّة بصحيح.. ما هو احنا برضه يا جماعة لازم نقف جنب بلدنا ف الظروف الصعبة
دي.. أنا كمان خفّضت أجري ف المسلسل اللي من انتاج التليفزيون المصري اللي باصوّره
ده الوقت.. رضيت بتمانية مليون بس واللهِ من غير ما افتح بقّي.. مع إن الضرايب ظالماني
وعاملة عليّ تقدير جزافي بميت ألف جنيه السنة اللي فاتت.
- يا خبر!!.. ودفعتهم؟
- لأ.. المحاسب
بتاعي بيطعن فيهم.. احتمال ينزّلوهم لتلاتين بس.
- للأسف ما فيش
فايدة فينا.. ما زلنا بنبص للفن والفنّانين نفس النظرة المتخلّفة بتاعة زمان مع
إننا ف القرن الواحد وعشرين.
- المفروض يلغوا
الضرايب من علينا خالص.. مش كفاية إن احنا اللي شايلين على كتافنا مهمّة تثقيف
المجتمع والارتقاء بذوقه.. وبنحرق ف أعصابنا علشان نرسم البسمة على وش الناس ونخلّيهم
يحلموا بغد أفضل.. المفروض إن المبدعين اللي زيّنا يبقى لهم استثنا ف كل حاجة.. مش
كفاية نتعالج على حساب الدولة ولا تتخصّص لنا معاشات استثنائيّة ولا تتحل كل
مشاكلنا بالتليفون وبس.. فين النقابة؟!
- ده فيلم
"الإنسانة والبتنجانة" اللي أنتجته قعدت أصوّر فيه شهرين بحالهم.. ويا
دوبك غطّى مصاريفه بالعافية.. واللهِ ما طلعت منّه غير بستّة مليون بس.. وده
بالتوزيع الخارجي كمان.
- الناس دي فاكرة
إننا بناخد الفلوس ونحطّها تحت البلاطة.. مش عارفة إن الفنّان مصاريفه كتيرة.. لِبس
ومظاهر وسفر وهدايا ودعاية وحفلات.. طب بذمّتِك يا "فجر" الحفلة بتاعتِك
دي اتكلّفت كام؟
- مش عارفة بالظبط
بس إيجار القاعة وشويّة الأكل والشرب دول بس بواحد ونص مليون.. بس كلّه يرخص علشان
خاطر عيونكم.
- تسلمي يا صاحبة
الكرم كلّه.. بس فين الشمبانيا أومّال؟.. هي حفلة زي دي تنفع من غير شمبانيا يا
شيخة!
- جايّة حالاً.. بس
تلاقيهم مستنيّين بقية المدعوين ييجوا كلّهم وبعدين ينزّلوا بالشمبانيا والويسكي
مرّة واحدة علشان ما تسخنش.
- الله ينوّر يا ست
الكل.. كل سنة وانتي طيّبة.
- وانتم طيّبين
جميعاً.. عن إذنكم أشقّر على باقي المعازيم.
- اتفضّلي.
- اتفضّلي.
- إذنِك معاكي يا
فنّانة.
ويمّمت
"فجر" شطر مائدة المطربين الذي توقّف أحدهم عن غنائه عندما اقتربت منه وقالت
له :
- منوّر عيد ميلادي
يا "سامر".
- ده نورِك يا
فنّانة.. كل سنة وانتي طيّبة.. وصلتِك هديّتي؟
- وصلت يا حبّي.. والله
ما فيه داعي تكلّف نفسك كده.
- أبداً واللهِ.. معلهش
دي حاجة على قد ما قُسُم كده.. إنتي عارفة إنّي طالع م الجوازة مفلّس.. تجهيز
الفيللا وفرشها والفرح ورحلة الهاني موون والعربيّة بتاعة العروسة أخدت منّي اللي
ورايا واللي قدّامي.. يا ريتني كان معايا فلوس أكتر وانا كنت أجيبلك بدل الخاتم
السوليتير عشرة.
- ربّنا يقوّيك.. بس
عروستك قاعدة جنبك زي القمر.
- ربّنا يخلّيكي يا
نجمة.
- ح تغني لنا إيه
النهار ده؟
- ما انا كنت لسّه
بادندن أهُه.. ح اقول لكم كل الأغاني بتاعتي وح اسمّعكم الأغنية الوطنيّة اللي
ألّفت كلماتها ولحّنتها بنفسي.. إسمها "مصر يا كل آمالي".. عايز آخد
رأيكم فيها قبل ما اغنّيها قدّام الريّس ف حفلة تحرير سينا اللي جايّة.
- بالتوفيق يا رب..
وسلّم لي ع الريّس لمّا تشوفه.
- طبعاً طبعاً.. ده
حبيبنا كلّنا.
- بالحق.. عملت إيه
ف الموضوع بتاع تهرّبك م التجنيد؟
- ولا حاجة.. أخدت
إعفا.. مش اتجوّزت أجنبيّة.
- طب ألف مبروك.. ده
انت لو بعد الشر كنت دخلت الجيش كنت ح تتعب قوي.
- لا يا شيخة جيش
إيه.. هوَّ انا بتاع جيش برضه.. ده كفاية القلق اللي ف سينا.. دي لو حكمت كنت ح
اقطع صوباع من صوابعي علشان ما ادخلهوش.. ده انا كنت اقطع دراعي كلّه.. ها ها ها.
- آه وتبقى
"أبو دراع" التاني.. ههههههه.. ياللا.. عن إذنكم أروح اشوف النقّاد
حبايبنا ف الترابيزة اللي جنبكم.. أحسن دول زعلهم وحش.. ها ها ها.
وعند مائدة النقّاد الفنيّين
تجمّع أغلبهم وقد اعتادوا أن يطعّموا حواراتهم ببعض ألفاظ اللغة العربيّة المقعّرة
ليبرهنوا على ثقافتهم وعمق تفكيرهم الراقي :
- مساء الخير يا
جماعة.
- مساء النور يا
"فجر" هانم.
- مساء الأنوار يا
ست الكل.
- يا مسا الفل.
- أوعوا تكونوا
بتتكلّموا عنّي.
- يا ستّي ده احنا
بالكلام عنِّك نتشرّف.. وفي حبّك لا نتكلّف.
- يا سلام.. كنتم
بتقولوا إيه يا ترى؟
- واللهِ كنا بنشكّر
ف فيلمك الآخراني "حلاوة شعر" اللي بيعتبر فتح جديد في عالم السينما.
- صحيح عجبكم؟