الكنز الملعون (1)
"عبدون"
رجلٌ أسمرٌ في الأربعينيّات من عمره طويل القامة عريض المنكبين مفتول العضلات، إبنٌ
لرجلٍ أسوانيٍ بسيط كان يعمل تُرجُماناً للسيّاح فيشرح لهم بلغاتهم المعالم
الأثريّة للفراعنة وعظمة حضارتهم ومكنون أسرارهم، وورث الابن - "عبدون"
- عن أبيه أسرار عمله وخبايا حرفته التي تكسّبها من عِشرته الطويلة للآثار
الفرعونيّة ولكنه - للأسف - لم يرث حبّ هذه المهنة ولا احترام هذه الحضارة، وعلى
عكس النوبيّين الخلوقين وسكّان أسوان الطيبين كان "عبدون" سيء الخلق
فاسد الذوْق وضيع الطويّة يبحث عن المال أيْنما وُجِد بغض النظر عن سلامة الحصول
عليْه أو قانونيّة مصدره أو كـوْنه حلالاً أم حراماً.
واغتنم
"عبدون" الفرصة إبّان الانفلات الأمني الذي أعقب انسحاب قوّات الشرطة والخفراء
من كل الأماكن الهامّة في "مصر" بعد ثورة 25 يناير 2011 وعزم على أن
يسطو على أحد مقابر النبلاء الواقعة بالبر الغربي لمدينة "أسوان"، وبصفته
خبيراً بهذه المنطقة الأثريّة الهامّة وقع اختياره على اقتحام مقبرة الأميرة
"ساتت حتب" إحدى أميرات الأسرة الثانية عشرة فقد عُرِف عن هذه المقبرة
المجاورة لمقبرتيْ "ميخو" و"سابني" الواقعتيْن بالمنحدر
الجبلي والمعروفة بقبّة الهواء بأنّها تحوي العديد من الآثار والتحف النفيسة التي
لا تقدَّر بثمن، وخطّط "عبدون" لجريمته في ليْل الثلاثين من يناير
كـوْنها ليلةً غير مقمرةٍ مناسِبةً للتخفّي تحت جنح الظلام الحالك، واتفق مع صاحبه
"إدريس" على أن يرافقه في جريمته ليساعده فيها، ولم يأتِ اختيار
"إدريس" من فراغ بل جاء بعد تفكيرٍ عميق حيث رأى "عبدون" أن
صاحبه هو أنسب من يعاونه بهذه المهمّة فهو عاطلٌ عن العمل ويحتاج مالاً بشدّة كما
أنّه يجهل الآثار وقيمتها فلن يطمع في الكثير ولم يكن "عبدون" صريحاً مع
نفسه عندما لم يفكّر أيْضاً في أن "إدريس" يماثله في سلوكه الدنيء وطبعه
الخسيس.
وفي الموْعد المحدّد
وقف "عبدون" عند مرسى المراكب ينظر في ساعته السويسريّة الصُنْع فقد
تأخّر عليْه "إدريس" فأخذ يلعنه في سريرته ويندم على اختياره له، وقبل
أن يستبدّ به القلق كثيراً لمحه على البعد يسير الهوينى فأشار له يحثّه على
الإسراع ثمّ ركبا مركباً أقلّهما في هدوء عبر النيل من ضفّته الشرقيّة لضفّته
الغربيّة، وعندما أدركا الشاطئ وربطا المركب بحبلٍ إلى أحد الصخور استقبلتهما
عاصفةٌ رمليّة قويّة فهرولا صعوداً إلى حيث المقابر المقصودة وقد لمحا شبح طائرٍ
أبيض يحلّق فوْقهما ويصاحبهما في مسارهما أيْنما ساروا وحين وصلا إلى مدخل مقبرة
الأميرة "ساتت حتب" أضاء "إدريس" كشّافه وسلّطه نحو الطائر
فوجده صقراً أبيض قد حطّ على أحد الصخور الكبيرة القريبة من المقبرة وبدأ يحملق
فيهما ويدقّق نظره نحوهما بعيْنيْه الحادّتيْن وكأنه يخبرهما بأنّه يعرف ما يدور
بذهنهما ويدرك ما ينويان فعله، وصوّب "إدريس" حجراً نحو الصقر فلم يصب
الحجر الصقر الذي لم يهرب أو يطِر بعيداً بل وقف مكانه في تحدٍ وكبرياء وعاجله
"إدريس" بحجرٍ ثانٍ وثالث فطاشا بعيداً وظلّ الصقر مكانه محدقاً فيهما
بغرابة، ولم يكرّر "إدريس" فعلته بعد أن وبّخه "عبدون" واتّهمه
بصغر العقل والتفاهة ليتبارى مع طائرٍ صغير وأمره بأن يلتفت إلى ما جاءا من أجله ويترك
الطائر وشأنه، وبعد أن نجحا في كسر القُفل الحديدي لباب المقبرة ولجا إلى داخلها
فأبصرا دهليزاً صغيراً نُقِشَت على جدرانه كتابةٌ هيروغليفيّة قرأها
"عبدون" بصوتٍ عال : "سيذبح الموْت بجناحيْه
السامّيْن كل من يحاول أن يبدد أمن وسلام هذه المقبرة أو يعكّر صفو صاحبتها، وكل
من يقوم بدخول هذا القبر أو يقوم بأعمالٍ شريرةٍ تجاهه أو يدمر محتوياته فسيكون
التمساح وفرس النهر خصماه في الماء والثعبان والعقرب خصماه على الأرض"، حينئذٍ تملّك الرعب والخوْف من "إدريس" وتذكّر
لعنة الفراعنة فاقترح على "عبدون" أن ينسحبا فوْراً ولكن الأخير طمأنه
بأن لعنة الفراعنة ما هي إلّا خرافةٌ اختلقها المصريّون القدماء ليبعدوا اللصوص عن
المقابر ويخيفوهم من الاقتراب منها وأنحى عليْه باللائمة والتوْبيخ ليتذكّر أنه
رجلٌ وليس إمرأةً تخاف من ظلّها، فتشجّع "إدريس" وتقدّم نحو باب غرفة
الدفن فدفعه بقوّةٍ فهبّ فجأة هواءٌ باردٌ ذو رائحةٍ غريبة وكأنه يحمل بين نسائمه
عبق التاريخ السحيق ورائحة الموْت والهلاك فدبّ الفزع والرهبة في أوْصاله وصمّم
على أن ينتظر بالخارج ويترك "عبدون" يدخل وحده إلى غرفة الدفن ولم ينتظر
قرار "عبدون" بل هرع خارج المقبرة وهو يتعثّر على الأرض ما بيْن خطوةٍ وأخرى.