"أرواح بلا قبور" | الصديق الرجيم (3)
- عايزك تساعدني ف
حاجة كنت قريت عنها قبل ما ادخل المستشفى.. طريقة نطلّع بيها الجن منّي.
- اللي هيّ؟
- فيه عالِم ف
الظواهر اللي فيما وراء الطبيعة بيقول إن الجان بيعيشوا ف الأماكن اللي فيها
قاذورات زي دورات المياه وإنّهم بيخافوا من النار جدّاً.. علشان كده بيلبسوا البني
آدم اللي بيرمي عليهم حاجة سخنة أو حارقة وينتقموا منّه.. زي الست اللي ما بترميش
الزيت المغلي ف الحوض علشان ما يتسدّش وترميه ف الكبانيه.. وزي اللي بينضّفوا
الكبانيه بميّة نار.. وزيّي كده لمّا رميت السيجارة الوالعة ف عين الكبانيه.. والعالِم
ده بيقول أن الجنّي من دول لو اتعرّض للنار ح يهرب على طول.
- يعني قصدك إنّنا
نحرقك بالنار علشان الجن اللي لابسك يطلع؟.. طب ما انت كده ح تموت محروق.. يبقى
عملنا إيه؟
- لأ.. أنا عايزك
تيجي لي قبل المغرب بشويّة.. طبعاً بعد ما تدّي حرّاس الأمن والممرّضين قرشين
علشان يسيبوك تقابلني ف الجنينة الورّانيّة المهجورة اللي ما حدّش بيروحها.. وتجيب
لي معاك رباط شاش وحبّة بنزين ف إزازة بلاستيك وعلبة كبريت وموس.. ح الف الشاش
حوالين دراعي واكب عليه البنزين واولع فيه واجرح نفسي بالموس ف كف إيدي علشان الجن
يطلع م الجرح زي ما دخل.. واهو أعيش بدراع محروق أحسن ما أعيش هنا طول عمري.. ها
قلت إيه؟.. إنت حلفت لي إنّك تساعدني.
- بس أوعي تكون عاوز
تحرق نفسك وتنتحر أو ناوي تولّع ف المستشفى؟
- وح استفيد إيه
لمّا أعمل كده؟.. إنت ح تفكّر زي الناس التانية.. أنا عاوز ارجع ابقى زي بقية
البني آدمين.. أنا اتدمّرت يا "أحمد".. أهلي اتخلّوا عنّي وخطيبتي
سابتني واترفت من شغلي.. باقي لي إيه تاني؟.. أرجوك.
- حاضر.. أنا ح
ارتّب كل حاجة وربّنا يقدّم اللي فيه الخير.
و للأسف فعلت كل ما
كان يريده "عاطف" بدافع الصداقة والأخوّة ولم أشك ولو للحظة أنّه يرسم
لي فخاً لا فكاك منه، وبعد أيّام قابلت "عاطف" في الحديقة المهجورة قبل
المغرب بعد رشوة بعض العاملين وشرع في تنفيذ مخطّطه بدقّة فاختار مساحةً شاغرة
منزوية من الحديقة بعيداً عن الحشائش والأشجار وتناول أحد الفروع الجافّة ورسم به
دائرة بداخلها نجمة خماسيّة على الأرض الرمليّة ووقف في مركزها ولفّ رباط الضماد
على ذراعه اليسرى وسكب عليه قليلاً من الوقود وأشعل فيه النار ثم أشار لي بحزم لأقف
بجانبه داخل الدائرة وشبّك يده اليسرى بيدي اليمنى فلم أستطع أن أرفض حتّى لا أفسد
الأمر كلّه فتركت يدي داخل راحة يده وأنا خائف من أن تمتد ألسنة النيران من ذراعه
إلى يده ثم إلى يدي، ثم تناول شفرة الموسى بأصابع يده اليمنى وشق جرحاً بظاهر يده
اليسرى فاندفعت منه الدماء دون أن تطرف له عيْن وكأنّه تدرّب على هذه الإجراءات والطقوس،
أمّا أنا فقد كنت في غاية الارتياع والتوجّس عندما بدأت أسمع صراخاً وعويلاً غليظاً
صادراً من "عاطف" رغم أن فمه كان مطبقاً ونظرت تجاه جرحه فوجدت دخاناً
كثيفاً قد بدأ يخرج مع تعالي نبرة الصريخ والنحيب ثم اتسع الجرح وبزغ منه رأس كائنٍ
بشع له نفس الملامح التي وصفها لي "عاطف" من قبل، واستمر الكائن في
البروز شيْئاً فشيْئاً وكأنّه يهرب من النار المشتعلة في ذراع "عاطف" حتّى
بدا أنّه على وشك الخروج تماماً إلّا أنّه ارتد في الدخول داخل الجرح مرّةً ثانية
لَحْظَتَها فاجأني "عاطف" بحركةٍ خاطفة إذ مدّ يده اليمنى حاملاً الموسى
وأحدث جرحاً قطعيّاً كبيراً برسغ يدي اليمنى التي كان يتشبّث بها فحاولت بكل قوّتي
إفلاتها منه والفرار من قبضته إلّا أن تمسّكه بيدي كان قويّاً جداً كمن يتعلّق
بالحياة نفسها فلم أستطع التخلّص من يده إلى أن بدأ الكائن المريع في الخروج من
جرح "عاطف" نهائيّاً بالكامل والنفاذ داخل جرحي أنا لأصير أنا الملبوس،
وقبل أن أفقد الوعي رأيت بعيْنيّ المشوّشتين "عاطف" وقد يبدو أنّه استرد
نفسه وعافيته وانحنى فوقي بعد أن سقطت وقال وهو يخلي سبيل يدي :
- معلهش بقى يا
"أحمد".. إنت صاحبي آه.. بس "المعرّي"
قال زمان : "إذا كان إكرامي صديقي واجباً فإكرام نفسي لا محالَ أوْجبُ"..
ربّنا معاك بقى.
ومن يوْمها لم أرَ
"عاطف" الذي خرج من المستشفى ليعود لحياته وأهله مرّةً أخرى في حين
انقلبت حياتي رأساً على عقب وسرت على دربٍ طويلٍ من المعاناة حتّى استقرّ بي
المقام هنا: مستشفى الأمراض العقليّة.. ليتكرّر معي نفس السيناريو الذي تحقّق مع
صديقي فلم أجد أحداً يقدّم لي يد المساعدة حتّى الآن، ومن يدري فقد علمت أن ابن
عمّي وأخي في الرضاعة ورفيق طفولتي "عمر" سوف يقضي أجازته الصيْفيّة
القادمة في "مصر" وربّما يزورني فأنجح في إقناعه بمساعدتي فأنا أعرفه
جيداً: رجلٌ ساذجٌ يُقَدِّر قيمة الصداقة والأخوّة.