"أرواح بلا قبور" | المظلّة السوْداء (2)
وبعد شهريْن ذهب
الحاج "عبد الغني" إلى مركز "فاقوس" "بالشرقيّة"
ليبتاع مساحةً من أرضٍ زراعيّة بقرية هناك تسمّى "العزّازي" كان قد
عرضها صاحبها للبيْع في إعلانات الصحف، ولكن صاحِب قطعة الأرض غالى في ثمنها فأخفقت
البيعة وفشلت الصفقة فعاد الحاج إلى "القاهرة" وحيداً مساء هذا اليوْم
العاصف المطير، وأثناء مروره بأحد الطرق الفرعيّة المنعزلة المظلمة كان الحاج يسير
بسيّارته بسرعةٍ منخفضة لصعوبة الرؤية في الظلام والمطر ينهمر بغزارة ففوجئ بجذع
شجرةٍ ضخم يقطع الطريق بكامل عرضه فتوقّف وقبل أن يرجع القهقرى خرج عليه بعض
الأشخاص من وراء النخيل الذي يصطفّ على جانبيْ الطريق وأغلقوا الطريق خلف السيّارة
بجذع شجرةٍ آخر وأحاطوا سيّارة الحاج من كل جانب وأمروه بالنزول فترجّل عن
السيّارة والخوف يتملّكه فهجم عليْه رجلان منهم وأمسكا بذراعيْه فشلّا حركته وأجبراه
على الركوع وتقدّم ثالثٌ وهو يشهر سكّيناً كبيراً مشرِعاً في ذبح الحاج فأمسك
برأسه من شعره وقبل أن يلمس نصل السكّين رقبته لتقطع أوْداجه سرى في الأنحاء صوْت زمّارة
إنذار (سارينة) الشرطة يدوّي بوضوح فارتبك اللصوص وتركوا الحاج "عبد
الغني" وهو منهارٌ على الأرض المبللة وركبوا سيّارته ولكن محرِّكها لم يدُر
فتركوها بما فيها كما تركوا الحاج ولاذوا بالجري والفرار خائفين أن تلقي الشرطة
القبض عليْهم واختفوا بيْن أشجار النخيل مستترين تحت جنح الظلام حالك السواد.
ومرّت الدقائق
ثقيلةً كأنّها دهورٍ طويلة على الحاج "عبد الغني" وهو راكـعٌ على الأرض
جاثياً على ركبتيْه لا يستطيع أن يتمالك أعصابه ولا يقوى على الوقوف على ساقيْه منتظراً
وصول الشرطة بعد أن بشّرت بقدومها أصوات صافرات إنذار سيّاراتها، ولكن الشرطة لم
تظهر بل بزغ من بيْن ثنايا الظلام شيْخٌ عجوز يرتدي جلباباً أبيض فوقه عباءةٍ
بيضاء ويعتمر طاقيةً من القطن ناصع البياض راكباً درّاجةً قديمةً صدِئة يصدر عن
عجلاتها صوت صريرٍ حاد وهي تدور ببطء، وتعجّب الحاج "عبد الغني" من هذا
الرجل المسن ذو البشرة البيضاء والملامح الدقيقة والوجه المشّع نوراً والذي يسير
في مثل هذه الساعة المتأخّرة بملابس صيْفيّةٍ خفيفة وهو لا يعير أي اهتمام لهذا
الجوْ الشديد البرودة أو لهذه الأمطار المدرارة، وعندما وصل هذا الشيْخ إلى حيث
الحاج أقرأه السلام وأفهمه أنّ لديه بالدرّاجة بوقاً يُصدِر أصواتاً تشبه صوت
صافرات إنذار الشرطة وأنّه استخدم هذا البوق عندما كان خارجاً لحاجةٍ يقضيها ولمح
قطّاع الطرق ينوون قتله وسرقة سيّارته ومتعلّقاته فأنقذه من بيْن أيْديهم بعد أن
توهّموا أن الشرطة تسعى في إثْرهم، وهدأت نفس الحاج واستعاد رباطة جأشه فشكر
الشيْخ كثيراً وأراد أن يكافئه بمالٍ وفير خاصةً وقد بدا على الرجل رقّة الحال وضيق
ذات اليد ولكن الشيْخ رفض رفضاً قاطعاً بعزّة نفسٍ نادرة وإباءٍ وأَنَفة وقال
للحاج "عبد الغني" :
- إيه يا حاج.. إنت
بتشتمني ولّا إيه.. ده ما يجيش من بعد خيرك واللهِ.
وطلب الشيْخ من
الحاج أن يمضي إلى حال سبيله بسرعة قبل أن يكتشف اللصوص الحيلة فيعودوا ليقتصّوا
منهما فأطاعه الحاج وترجّاه أن يقبل منه مظلّةً (شمسيّة) سوداء ذات يدٍ خشبيّة
مطعّمة بالأصداف كانت معه بالسيّارة لتقيه الأمطار المنهمرة وهو في طريق العوْدة
لبيْته فأخذها الشيْخ شاكراً وقفل عائداً من حيث أتى واختفي مرّة أخرى وسط قطع
الليْل المظلم على درّاجته البالية ذات الصرير الحاد، أمّا الحاج "عبد
الغني" الذي لم يصدّق نجاته فقد هرول بالانصراف من هذا المكان المخيف الذي
كاد أن يُقتَل فيه دون أن تتبادر لذهنه المضطرب عدّة تساؤلاتٍ منطقيّة هامة : فمن
أيْن يا ترى جاء هذا الشيْخ الهَرِم؟، وما الذي أخرجه من منزله في هذا التوقيت
الغريب وهذا الطقس السيء؟، وأنّى له بهذا البوق العجيب الذي يُصدِر صافرات الإنذار؟،
وما الذي يقصده بعبارة "ما يجيش من بعد خيرك" رغم أنّهما يتقابلان لأوّل
مرّة؟، أمّا الأدهى من هذه التساؤلات فهو أنّ الحاج لم يلفت انتباهه - ربّما بسبب
خضّة الفزع التي تعرّض لها - الحالة التي كان عليّها الشيخ ؛ فقد كان الشيخ جافّاً
وثيابه ناشِفةً نظيفة رغم سيْره في وحل الأرض الطينيّة ووقوفه تحت المطر مدةً
طويلة كانت كافيةً لتبلّله وتخضّل ملابسه بل لو أمعن الحاج نظره قليلاً في الشيخ
لاكتشف أن قطرات المطر وزخّاته كانت تحيد بعيداً عن اتّجاهها قبل أن تصل جسم
الشيْخ أو تلامسه.
وانصرمت أيّامٌ عدّة
بعد هذا الحادث وتلقّى الحاج "عبد الغني" مكالمةً من الحاج
"نادر" الذي اعتذر له عن التأخّر في دفع ثمن حصّة الغزول التي تنازل له
عنها الحاج "عبد الغني" عن طيب خاطر وطلب منه أن يضرب له موعداً بعد
أسبوع يكون قد تسلّم خلاله ثمن أوّل دفعةٍ من إنتاج مصنعه في "شبرا الخيمة"
فيسدّد له منها ما عليْه من نقود، وأبلغه الحاج "عبد الغني" أنّه ليس
متعجّلاً في تحصيل هذه النقود وأنّه سيمرّ عليْه بنفسه بمقر شركته "إن جي
تِكس" عندما يكون قريباً من هناك لأحد أغراض العمل.