"شيء من الخبث" | الفصل السادس (2)
وفي أحد أيام الأحد وبعد القدّاس الذي يجمع
أفراد عائلة "الصلايبة" انصرف الأطفال ليلعبوا ويلهوا في فناء الكنيسة وانزوت
النسوة في الخلف يتسامرن في حين جلس الكبار والشباب في المقدّمة يتناقشون في شئونهم
وشئون البلد، وافتتح المقدّس "عيسى" المناقشة وتبعه البقية تترى، كلٌ
يدلي بدلوه ويقول رأيه، ومثلهم مثل بقية أهل البلد كانوا متعجّلين في جني ثمار
الثوْرة الوليدة.
- الرب يبارككم يا رجّالة.
- ويباركك يا ابونا.. بس البركة ح تحل علينا ازّاي
واحنا سايبين حقوقنا؟
- بس بالرّاحة يا ابني.. مالك سُخن كده ليه وداخِل
شِمال؟
- بقى بعد اللي بيحصل فينا ده كلّه ويبقى عندنا
برود أعصاب يا ابونا؟
- يعقوب بيقول في رسالته: {إذن يا إخوتي الأحبّاء
ليكن كل إنسانٍ مسرعاً في الاستماع؛ مبطئاً في التكلّم؛ مبطئاً في الغضب}.. والمثل
بيقول: اللي تفكّه بإيدك ما تفكّهوش باسنانك.. قول لي بس إيه اللي مزعّلك؟
- ما انتوش شايفين يا جماعة؟.. البلد بتتغيّر
وكل الناس بتطالب بحقوقها.. واحنا محلّك سر.. ح نفضل مُضطّهَدين زي ما احنا.
- كل الأقليّات ف كل البلاد كده.. حقوقهم
متّاكلة.
- أوّلاً احنا مش أقليّة.. أنا ما باحبّش
الكلمة دي.. ثانياً حتّى الأقليّات لها حقوقها اللي لازم تاخدها.. إن شا الله
بالعافية.
- يا جماعة ماتنسوش إننا عايشين مع المسلمين
من زمان وكويّسين مع بعض.
- وكمان ما تنساش إن احنا أصحاب البلد
الأصليين وإن أجدادنا عايشين فيها من ألفين سنة.. والمسلمين همَّ اللي جم علينا وغيّروا
كمان إسم البلد علشان تبقى على إسم كبيرهم زمان "محمد الدهشان".
- لا يا جدعان أنا مش موافقكم على كده.. المسلمين
دول اخواتنا وطول عمرنا واحنا سمن على عسل.
- آه.. عسل اسود يا اخويا.
- خلّيك إنت نايم في عسلك كده وقافل بُقَّك
لغاية ما نروح ف ابو نِكلَه.
- دول اخوان "وديع" وجماعة "شحاته"
ده الوقت بعد ما "عتريس" انخلع بقى صوتهم عالي قد كده.
- يا راجل.. بقى مش عايزهم يتكلّموا.. سيبهم
يعلّوا صوتهم شويّة.. ما كانوا مكتومين أيام "عتريس" اللي كان كل شويّة
يرميهم في الحجز ويعذّب فيهم.. يا راجل ده اللي كان بيربّي دقنه فيهم بس كان
بيتّاخد تحرّي.. ويا يرجع يا ما يرجعش لأهله.
- صحيح.. واحنا أيّاميها ما كانش حد بيدوس
لنا على طرف.. وكان وضعنا أحسن منهم بكتير.
- أهو جه الوقت اللي ح ينداس فيه على دماغاتنا
بالجزمة القديمة.. صدّقني لو حد تبع "وديع" أو الأسخم منه
"شحاته" مسك العمودية ح يطفّحنا الدم.
- لو حكموا زي الإسلام ما بيقول يبقى ما فيش
خوف منهم.. أنا قريت شويّة في القرآن بتاعهم ولقيته بيوصّي علينا وبيأمر الحاكم
المسلم بحسن معاملة أهل الكتاب وأهل الذمّة.. اللي هو احنا.
-هأو.. سلم لي على الكتاب والذمّة.. بقى بالذمّة
ده كلام ناس عاقلين.. ده إذا كان المسلمين نفسهم مرعوبين منهم وبيقولوا إنهم ح
يحرّموا عليهم عيشتهم.. ما بالك بينا احنا بقى.
- بس ح يخلّوا الناس تمشي ف الشارع بأدبها وأي
واحد يتجاوز حدوده ح يأدّبوه.. يعني شويّة العيال المسلمين الصيّع اللي عاكسوا
البت "كاترين" مش ح يستجروا يعملوا كده تاني.. ده بسببهم قامت خناقة
كبيرة بيننا وقع فيها ناس ياما.
- يا سيدي ما فيه عيال مسيحيين بيعاكسوا بنات
مسلمة برضه.. وفيه قلالات أدب مسيحيين بيعاكسوا بنات مسيحيّة.. ما تدخّلوش
الخناقات العادية اللي بتحصل بين أي حد ف الدين.. طب ما فيه اخوات بتتخانق وفيه جيران
بتتعارك.. ما تلخبطوش عيشة على ام الخير.
- يعني ما سمعتش عن الواد المسلم اللي غوي البت
"كاميليا" وخلاها تسلم وتهرب معاه.. ولمّا رجّعناها لأبوها بالعافية وحبسناها
في الكنيسة هاج علينا المسلمين وكانوا عايزين يهجموا على الكنيسة ويطلّعوها لولاش احنا
وقفنا لهم.. بس بعد ما فيه ناس مننا ومنهم ماتوا ف العركة.
- برضه دي حوادث فرديّة ما لهاش دعوة بالدين..
ما "فاطمة" هربت مع "حمّوده العش".. و"تريز" هربت
مع "جرجس" واتجوّزوا بعيد عن أهلهم.
- إزّاي بقى؟.. لأ طبعاً دي مش زي دي.. دول
عايزين يسحبوا المسيحيين ويخلّوهم يستسلموا.. لغاية امّا ما يبقاش فيه مسايحة في البلد.
- والمسلم اللي يقلب مسيحي يقولوا عليه مرتد ويحلّلوا
قتله.
- ويا ريت ترسى على كده وبس.. دول هدّوا لنا
البناية اللي بنيناها جنب الكنيسة علشان نعمل فيها حضانة ومستوصف.. مع إن البُنا
كان على أرضنا.
- ما عساكر الهجّانة رجعوا بنوها لكم تاني ويا
دار ما دخلك شر.
- بعد إيه؟.. بعد ما عملنا معاهم خناقة لرب
السما مات فيها ناس ياما.. والرب وحده هو اللي يعلم الهجّانة كان غرضهم إيه.. يمكن
بيرقّدوا لنا على مهموز تاني.
- ولّا لمّا عملوا لنا هُليلَة لمّا اتعيّن
عمدة مسيحي في البلد اللي جنبنا.. وراحوا هناك بربطة المعلم علشان يعملوا مظاهرات
مع الناس اللي هناك.. ويشيلوا العمدة المسيحي من العموديّة.. مع إنه راجل طيّب وإيده
نضيفة.
- يا جماعة أنا ما بقولش إن احنا ما عندناش
مشاكل.. بس برضه فيه حاجات هايفة بنيجي عندها وبنتصدّر.
- زي إيه بس؟
- زي العركة اللي قامت بيننا وبينهم ومات
فيها راجل غلبان عياله اتيتّمت من غير ذنب.. وكان السبب مطب عمله واحد مسلم قدّام
الجامع.. والكلام ده ما عجبش سوّاق مسيحي.. بقى ده اسمه كلام؟
- يعني لوكنا احنا اللي عملنا مطب قدّام
الكنيسة كانوا سكتوا لنا؟.. وبعدين الراجل اللي مات ده كان مسيحي.
- وكان ممكن اللي يموت مسلم.. أنا قصدي ما
نتلككش لبعض ف أيتها حاجة فارغة.. لازم نبلع لبعض شويّة.
- والله بقى الكلام ده تقوله لهم همَّ.. إحنا
حاطّين جِلّة ف حنكنا وساكتين ومستحملين لغاية ده الوقت.. وعاملين بالمثل اللي بيقول:
اللي ما تقدر له.. اصبر له.. بس للصبر حدود على رأي الست.
- ربّنا ما يجيبش حاجة وحشة.. بس احنا عايزين
نفكّر ازّاي نحط إيدينا الأول على مشاكلنا المهمّة الأساسيّة.. وسيبكم من التوافه بقى.
- فعلاً.. أوّل حاجة إن احنا نعرّفهم إن فيه
مشاكل أساساً.. ولازم تتحل بالتفاهم ومش بالضحك على الدقون.. يعني مش مجيّهم
الكنيسة ف أعيادنا ولا عزومتنا ليهم على الفطار ف رمضان هيَّ اللي ح تحل المشاكل..
والموضوع يصفصف على عاش الهلال مع الصليب وكل سنة وانت طيّب.. لازم نتصارح علشان
ما نبقاش شايلين من بعض.. يعني نعيش مع بعض على ميّه بيضا.
- أهم مشكلة هيَّ إن احنا نبقى زيّنا زيّهم..
ما فيش حد احسن من حد.. يعني إيش معنى همَّ من حقّهم يبنوا جوامع ومساجد وزوايا زي
ما همَّ عايزين.. واحنا متحرّم علينا نبني كنيسة ف أملاكنا أو حتّى نصلّح دورة
ميّه ف الكنيسة من غير موافقة العمدة شخصياً.. مش ده الخط الهمايوني اللي عملوه
لنا من زمان؟.. واحنا كمان رحمة عن غيرنا.. ده فيه كفور حوالينا ما فيهاش كنايس
أصلاً.. ولمّا يتجوّز أو يموت حد من المسيحيين اللي فيها ما يلاقوش مكان يجمعهم.. وساعات
المقتدر منهم يركب مواصلات بالشئ الفلاني علشان ييجي كنيستنا هنا.. إنما الغلابة
بيصلّوا في بيوتهم حتي ف الأعياد.. مش دول بني آدمين برضه ومحتاجين دور عبادة؟
- وإيش معنى ف المدرسة بيدّوا العيال ف النصوص
آيات من القرآن يحفظوها.. ما يدّوهم كمان آيات من الإنجيل.
- وليه ما يخلّوش اللغة القبطية هيَّ اللغة
الأجنبية التانية.. مش دي برضه اللغة المصريّة الأصليّة بعد الهيروغليفي؟
- وليه ما بيدرّسوش التاريخ القبطي؟.. إيش معنى
الفرعوني والإسلامي والحديث؟.. ولا تاريخ القبط ده سقط من الزمن خالص؟
- والمفروض كمان يبقى لنا برامج دينية
مسيحيّة توعّينا وترشدنا و توعظنا ولو مرّة ف الأسبوع.. يا فرحتي يذيعوا لنا القُدّاس
بتاع عيد الميلاد وعيد القيامة وخلاص على كده.. مش احنا بندفع ضرايب ولينا نصيب ف الإذاعة
برضه؟
- يا جماعة لازم تعترفوا بإننا عايشين ف بلد
إسلاميّة ومعظم سكّانها مسلمين.. يعني لازم نرضي ونلتزم بالقوانين الإسلاميّة
بتاعة البلد.. ما هي أي بلد مسيحيّة بتفرض قوانينها المسيحيّة على المسلمين.. زي "فرنسا
المحطة" لمّا منعت النقاب والحجاب ف المدرسة والجامعة.. والمسلمين التزموا.
- أنت معانا ولا معاهم؟.. وبعدين المفروض إن
قوانينهم ما تمشيش علينا في الحاجات اللي تخصّنا.. زي الجواز والطلاق مثلاً.. وزي مطلبنا
بعدم تنفيذ حكم الإعدام ف القاتل المسيحي.. ما هو احنا لو ح نعدمه يبقى بنكرّر نفس
الغلطة بتاعته وبنقتل روح برضه.. ده قتل وده قتل.
- وطبعاً الوظايف والمراكز الكبيرة محجوزة
للمسلمين بس.. دي حتّى مدرسة الغفر والهجّانة ما بياخدوش ف الدفعة أكتر من اتنين ف
الميّة مسيحيين.. وده لو أخدوهم كمان.. فيها إيه يعني لمّا واحد مسيحي يمسك
العموديّة ولا حتّى يمسك شياخة البلد أو شياخة الغفر.. همَّ عايزينّا نزرع ونقلع ف
أرضهم ونبقى خدّامينهم وبس؟.. ولا عايزينّا نبقى فواعليّة نشيل طوب وزلط وخلاص؟
- يا راجل حرام عليك.. ما انت عندك الدكتور
"كيرلّس" الأجزجي والباشمهندس "حليم" والأستاذ
"ألبير" الناظر و"ألفونس" اللي ماسك محطة السكة الحديد و"سيدهم"
أفندي اللي هوَّ الكل ف الكل ف بنك التسليف وغيرهم كتير.. وهوَّ يعني كان فيه عمدة
مسلم ف "كفر الأماريك" ولّا كان فيه شيخ بلد مسلم في "محلة الانجليز"؟
- بس ما تنكرش إن الناس اللي انت قلت أساميهم
دول قليلين بالنسبة لعددنا والباقي كله أرزقجيّة.. واحنا ح نروح بعيد ليه؟.. ما هي
الانتخابات أهِه ع الأبواب.. كام واحد قبطي ح يدخل المجلس المحلّي؟.. يا دوبك كام واحد
كده غير اللي بيحنّوا علينا بيه ويعيّنوه ف المجلس.. بقششة يعني.
- هه خلاص.. فيه مشاكل تانية حد شايفها؟
- آه.. حد يقدر يقول لي فين أرض عم
"مينا" الله يقدّس روحه؟.. دي كانت سبعة وتلاتين فدّان.. لمّا مات وما
سابش وريث الأوقاف حطّت إيديها ع الأرض.. مش كنا احنا أوْلى بيها؟.. ريعها كان راح
للمسيحيين الغلابة.. أو كانت اتوزّعت على القبط الفقرا.
- صدّقوني يا جماعة المطالب دي كلها حقّانية..
ولو المسلمين مش موافقين عليها يبقوا يسيبوا لنا حتّة أرض من البلد تبقى للمسيحيين
بس.. إحنا مش أقل من "السوادنة" اللي اتقسّمت.
- بس يا وله.. إنت عايز تعملها حرب أهليّة؟..
إحنا طول عمرنا بلد واحدة وح نفضل بلد واحدة.. بلاش تلعب في دماغ الناس وتزقّهم على
حاجات تأذينا كلنا مسيحيين ومسلمين.
- طب احنا ح نقدّم الطلبات بتاعتنا دي لمين..
للعمدة الجديد؟
- لأ.. ضروري نطالب بيها ده الوقت.. إحنا
نعمل مظاهرات احنا كمان.. هوَّ احنا يعني ما نشبهش ولا ما نشبهش؟
- يا جماعة الحقوق ما تتّاخدش بالشكل ده.. وبعدين
مش عايزين نحتك باخواننا المسلمين ف الساحة القدّامانيّة.
- مش لازم الساحة القدّامانيّة.. إحنا نعمل
المظاهرات في الوسعاية اللي قدّام محل الخواجه "كاسبيرو" بتاع
الراديوهات.
- فلتكن مشيئة الرب.. ميعادنا الأحد الجاي هناك.
وتفرّق المجتمعون كلٌ إلى حال سبيله يفكّر في
وجوم فيما تخبئه لهم الأيام، وتمنّوا لو مرّت الأمور بسلام دون أن تسفر عن ضحايا
كما تعوّدوا.
وفي الأحد التالي كانت الساعة تشير إلى ما
بعد السادسة مساءً بقليل حين بدأت جموع المسيحيين أمام محل الخواجة
"كاسبيرو" في إشعال الشموع ابتهالاً إلى الرب وتضرّعاً له، وإذا بأصوات
جمال الهجّانة تقترب من الوسعاية في صخبٍ واضح، وفجأة انطلقت أصوات طلقات كثيفة من
الرصاص لم يستطع أحد تحديد مصدرها فساد الهرج والمرج أنحاء الوسعاية وهرول الأقباط
يجرون في شتّى الاتجاهات لا يلوون على شيءٍ اللّهمَّ إلّا النجاة بحياتهم وحياة من
معهم، وإذا بعدّة أفرادٍ منهم يسقطون صرعى مما أوْغر صدور كل من كان في الوسعاية وأدركوا
أنهم هالكون لا محالة فقرروا أن يواجهوا قوات الهجّانة وينتقموا لقتلاهم، وبالفعل
هجم بعض شباب المسيحيين المظلومين والمصدومين على بعض عساكر الهجّانة المساكين
الذين أُسْقط في يدهم فهم لم يطلقوا الرصاص على إخوانهم المسيحيين بل فقط ينفّذون
أوامر رؤسائهم الضبّاط عندما أمروهم بالتوجّه إلى الوسعاية ولم يتخيّل الجنود - وفيهم
مسيحيّون - أن يستغلّهم قادتهم ويزجّوا بهم في أتون هذه المعركة الملتهبة، وحاول
بعض هؤلاء الجنود - بعد أن هجم عليهم الأقباط وأنزلوهم عنوةً من فوق جمالهم وأعملوا
فيهم الضرب والركل - أن يشرحوا لهم أن بنادقهم ليست بها ذخيرة وأنه لا يد لهم فيما
حدث وأن طرفاً ثالثاً غير معلوم هو المسئول عن إطلاق النار ووقوع الضحايا؛ ولكن
هيهات أن يسمعهم أحد من المسيحيين وهم يرون أشقائهم وأصحابهم مدرجين في دمائهم، أمّا
باقي الجنود الذين أفلتوا من قبضة المسيحيين الغاضبين فقد دبّ الرعب والهلع في قلوبهم
وأرادوا الهرب بأية وسيلة فطفقوا يضربون الجمال بشدّة وبدون وعي حتّى يهربوا من
الوسعاية إلى مكانٍ آمن وينجوا بحياتهم؛ فهاجت الجمال في عصبيّة وأخذت تجري في كل
مكان وتدهس من يقف في طريقها مما زاد في عدد القتلي من الجانبين.