"شيء من الخبث" | الفصل الرابع (3)
وفي هذه الأثناء وفي منزل الشيخ
"إبراهيم" كانت "عزيزة" أرملة "محمود" تبكي بصوْتٍ
مكتوم وهي تتلو سورة "الفاتحة" لروح حبيبها الذي قتله رجال
"عتريس" في ليْلة عرسهما وبعد كتب الكتاب منذ أيّام وكان ذلك بمثابة
الشرارة التي أشعلت النار في صدور أهل البلد قبل أن تشعلها في مشاعلهم، وسمعت
"عزيزة" طرقاً على الباب فتوجهت ناحيته لتستطلع مَن الطارق فقد كانت
وحيدة في الدار حيث ذهب الشيخ "إبراهيم" مع باقي رجال الحارة للحراسة.
- مين بيخبّط؟
- أنا عمّك الشيخ "إبراهيم".. إفتحي
يا "عزيزة".
- اتفضّل يا آبا الشيخ.
ولمح الشيخ الدموع تترقرق من مُقْلَتي "عزيزة"
الواسعتيْن اللتيْن تفيضان حزناً وألماً فأراد أن يواسيها رغم أنه في حاجةٍ لمن يأخذ
بيده فلم يكن "محمود" مجرّد ابنٍ فحسب بل كان كل حياته التي كان يعيشها
من أجله وحده بعد أن ماتت أم "محمود" وتركته وحيداً، فعاجلها بقوْله والألم
يعتصر قلبه :
- وبعدها معاكي يا "عزيزة".. أيش
آخرة حزنك يا بنتي.. سلّميها لله.. ربّنا استرد وديعته خلاص.. {لله ما أخذ وله ما
أعطى، وكلٌ إلى أجلٍ مُسمَّي، فلتصبر ولتحتسب} صدق رسول الله.. إنتي مش مؤمنة
بالله ولا إيه؟
- ونِعْمَ بالله يا آبا.. غصب عني واللهِ.. مش
قادرة اصدّق.. بقى أنا مش ح اشوف "محمود" تاني؟
- "محمود" ده الوقت في منزلة
الشهداء والقدّيسين والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقا.. إدعي له يا بنتي ربّنا يغفر
له ويرحمه.. وادعي لنا بالصبر والسلوان احنا وكل أهالي الشُهدا.. ده مافيش حارة ما
فيهاش شهيد واتنين.. وكلّهم يا وِلداه شباب زي الورد وكانوا زينة البلد.. همَّ
عمرهم على قد كده.. وعلى رأي المثل: إبن يومين ما يعيش تلاتة.. بس ربّنا ينتقم م
اللي كان السبب ويجعل متواه جهنّم وبئس المصير.
- خلاص يا شيخ "إبراهيم".. أنا ح اسكت
أهه.
- أيوه كده يا بنتي.. كفكفي دموعك.. يا إمّا بقى
تروحي دار أهلك يشوفوا صرفة معاكي.
- لأ.. أنا مش ح افوتك أبداً يا آبا
"إبراهيم".. "محمود" ح يفضل جوزي وانا مراته لغاية ما اقابل
ربّنا.. ندرٍ على ما اقلع الاسود ولا اسيب دار جوزي أبداً.
- يا بنتي انتي لسّه صغيّرة.. وانا مش عايز
حزنك على "محمود" ينسّيكي نفسك.. عموماً مش أوانه الكلام ده اليومين دول.
- أنا سامعه حد بينادي عليك يا آبا.
- آه.. ده تلاقيهم الجماعة استعوقوني.. ح اروح
بس بيت الراحة اعمل زي الناس واطلع لهم.
أمّا على الجهة العكسيّة للبلد فقد جلس
"عتريس" ورجاله في قصرهم الكائن في "دره" يضحكون في صخبٍ ومجون؛
فكل مخطّطاتهم تسير على الوجه الأكمل وما زال زمام المبادرة في حوْزتهم.
"عتريس" :
- خ خ خ خ خ.. الله يضحّكك يا
"عليش".. ده انت مسخرة.
"عليش" :
- واللهِ ده اللي حصل يا عمدة.. بقوا يا عيني
واقفين ف السمس خمس ساعات لغاية ما خلّصنا كلامنا.. ها ها ها.. ويا ريته خلص.. ده
لسّه بقية الظبّاط ح يتكلّموا.. ده كفاية "البنجري".. ده عايز له يومين
لوحده.. ها ها ها.
"عدنان" :
- ها ها ها.. اللّهمَّ اجعله خير.. صحيح يا
"بنجري" محضّر لهم إيه؟
"البنجري" :
- أوّل حاجة ح ندّي التحية العسكرية للشهدا
بتوعهم.. وبعدين ح نقف خمس دقايق حداد.. وبعدين ح نقرا الفاتحة.. وبعدين ح نقرا
ربع كده ولا ربعين قرآن.. وبعد كده بقى عينك ما تشوف إلّا النور.. ح اتفتح ف الكلام
وماحدش ح يقدر يفرملني.. وانتم عارفين اخوكم بقى.. ما بتوصّاش.
"طهطاوي" :
- ويا تري الفاتحة دي على الشُهدا اللي ماتوا..
ولّا اللي لسّه ح يموتوا؟
"عتريس" وقد تجهّم وجهه فجأة :
- شُهدا إيه.. الله يكحمهم مطرح ما راحوا..
ما ف داهية.
"رفيق" :
- على فكرة يا عمدة.. أنا محتاج قرشين كده
أمشّي بيهم نفسي.. مش علشاني.. علشان الغفر وعلشان عايزين نشتري سلاح جديد وذخيرة
ياما.. ده انا شيّعت ناس بفلوس من معايا يشتروا لنا كنابل دخان من "كفر
الأماريك".. وقلت احاسبك بعدين.
"عتريس" :
- بتعمل إيه قنابل الدخان دي؟.. بتموّت؟
"عويس" شيخ الخفر الجديد :
- أوسخ يا عمدة.. دي بتخلّي الواحد من دول
يعيّط ويتخنق ويجري من قدّام الكُنبلة زي الرهوان.. والصنف الجديد بقى اللي احنا ح
نجيبه فيه سُميّات كتير ممكن تسبّب العمى والنزيف والتشنجات والشلل والموت كمان.
"طهطاوي" :
- أهم حاجة ما تكونش بايظة أو تاريخها خلصان
زي اللي فاتت.. وتحاسب حضرة العمدة على إنها جديدة.. وتضرب الباقي ف جيبك.. إن كنت
حرامي إتّقي الله ف صنعتك.
"عتريس" غامزاً بعينه اليسرى "لطهطاوي
" :
- اسم الله على الجِلّة م النجاسة يا اخويا..
قال يعني انت ما عملتهاش قبل كده.
فأطرق "طهطاوي" برأسه محرجاً في حين
انطلق "رفيق" يقول :
- أعدم ولادي ما سمسرت ولا ميلم.. حد الله بيني
وبين الحرام.
"عتريس" مبتسماً في سخرية :
- طبعاً ما سمسرتش ولا ميلم.. ده انت مسمسر
ألوفات.. زي الألوفات اللي عكشتها لما كنت ماسك تجديد موقف الأوتومبيلات نمرة
تلاتة.. يا كوميسونجي يا رمّة.. إيّاكش تكونوا فاكرين إني نايم على وداني.. أنا
عندي بلاوي كل واحد فيكم.. بس انا بافوّت بمزاجي.. ما انتم لازم تُرْزَقوا برضه.
فأطرق برأسه كل من في المكان في إحراجٍ مماثل
لإحراج قائد الهجّانة، فقال "عتريس" وقد أحس بالانتعاش لأنه كاسرٌ لعيون
رجاله :
- قوم ياد يا "طهطاوي" لافيني القُفّة
اللي تحت السرير اللي ف أوضة النوم.. ح تلاقي فيها فلوس.. ما تمدّش إيدك عليهم أنا
عاددهم كويّس.. وما تنساش تجيب لي الخزنة الحديد الألماني اللي ف دوّار العموديّة
أحط فيها النقديّة بدل ما انا ملقّحهم كده ف القُفّة العِرّة دي.
"طهطاوي" :
- يا عمدة ح تعمل بيها إيه؟.. ما انا عارف
إنك طلّعت كل فلوسك وفلوس عيالك برّه البلد.. وحطّيتها ف بنك "سويسنا"
اللي ف البندر.. خلّي بقى الفكّة في القُفّة.
"عتريس" غاضباً :
- إنت بتتجسّس عليَّ يا هباب البرك انت؟
"طهطاوي" :
- يطسّني ترماي لو اقصد كده.. أنا بس عرفت
الموضوع ده بالصدفة لمّا كنت باهرّب فلوسي للبنك أنا كمان.. وعلى فكرة كل الرجّالة
عملوا زيّنا.. بصراحة احنا خايفين يعملوا معانا زي ما كانوا عايزين يعملوا معاك
لمّا طلبوا مننا نصادر أموالك وأراضيك ونرجّعها لاصحابها.. واحنا اخدناهم على قد
عقلهم لغاية ما ينسوا الموضوع ده.
"عتريس" :
- أخسر ديني على دين النصارى لوْ حَد برّانا
عرف أنا فلوسي فين لأكون قاطع خبركم كلّكم.
"طهطاوي" :
- يا عمدة يعني ح نفضح نفسينا برضه.. سبق وقلت
لك إننا ف بؤجة واحدة.. واللي يلطّك يلطّنا احنا راخرين.
"عتريس" :
- طب إنجّر هات اللي قلت لك عليه.. خلّيني أدي "رفيق" فلوسه.. وارُش قرشين على الرجّالة علشان يمنجهوا نفسهم.. مش خسارة فيهم.. ولو الأمور كلها مشيت زي ما انا عايز ح ازروّطكم فلوس.. مش ح تلاحقوا تصرفوها ف إيه ولا ف إيه.