"شيء من الخبث" | الفصل العاشر والأخير (3)
وانصرف "موفّق" متّخذاً طريقه إلى الجامع
ولكنه في حقيقة الأمر لم يكن ليذهب إلى الجامع قبل أن يعرج على دارٍ له فيها لقاءٌ
هام، وفي ذات اللحظة كان الشيخ "إبراهيم" يخرج من داره ويسير في نفس الاتجاه
تقريباً من أجل أن يفتح باب المسجد للمصلّين ويعد العُدَّة لزائري بيت الله؛ فقد
كان يحب أن يكنس السجّاد بنفسه وينظّف مكان الوضوء ويملأ الأزيار بالماء عسي أن
يضيف الله له ثواب هذا العمل إلى ميزان حسناته، وأثناء سيْره لمح خيال أحد الأشخاص
على بعد يسير حثيثاً فاندهش لأنه غير معتاد على رؤية أحد في هذه الساعة من قبل، فنادى
عليه :
- السلام عليكم.. إنت مين يا للي هناك؟
ولكن هذا الشخص لم يسمع النداء خاصةً أن اتجاه
الريح كان يأتي من ناحيته، لحظتها ارتاب الشيخ "إبراهيم" في هذا الشخص وقرر
أن يتبعه في سِرّيّة دون أن يشعر به، وعند مفارق الطرق انعطف الشخص يساراً فتأكّد
الشيخ أن هذا الشخص لا ينتوي الذهاب إلى الجامع الذي يقع يميناً فسعى وراءه لكن من
بعيد، ثم عرج هذا الشخص إلى الحارة المؤدية إلى دار الضابط "طهطاوي"
التي تقع منعزلةً في آخر الطريق، وعند بوّابة الدار تلفّت هذا الشخص ليتأكد أن لا
أحد يتبعه فتكشّفت ملامح وجهه تحت مصباح البوّابة للشيخ "إبراهيم" فإذا
به "موفق" العمدة الجديد التي تزوّج "فؤادة"؛ وغرق الشيخ في ذهولٍ
ووجوم لم يدوما طويلاً حيث تسلّل الشيخ إلى الحديقة بحريّة لغياب الحرس والخدم في
هذه الساعة ومنها إلى نافذة القاعة المضيئة التي كان يجلس فيها "عتريس" و"طهطاوي"،
واقترب الشيخ أكثر ليتسمّع ما يدور بيْن هؤلاء الثلاثة وهو يكاد لا يصدّق عيْنيْه
أو أذنيْه :
- يا أهلاً بابن اختي الهُمام.
- أهلاً بك يا خالي "عتريس".
- مَرْحَب يا عريس.
- مرحبا بك يا عم "طهطاوي".
- إيه يا وله.. الجواز طلع حلو؟
- يعني هيَّ أوّل مرّة يتجوّز فيها يا سي "عتريس"..
قول له: العموديّة طلعت حلوة؟
- أنا لحقت أبقى عمدة.. أصبروا علىَّ كام شهر
كده علشان اقول لكم على إحساس العمدة.
- يا اخويا ما احنا عارفينه الإحساس ده.. إنت
ناسي إن خالك قعد تلاتين سنة عمدة؟.. وأنا يا حسرة قعدت سنة و شويّة بس.
- يا سلام على ده إحساس يا وله.. حاجة عَظَمَة..
كأنك ملكت الدنيا وما فيها.
- بس انا بقى يا خال مش ناوي اقعد السنين دي كلها..
رَكَك بس اظبّطكم انتم وحبايبكم ف البلد زي ما اتفقنا.. واعْكُم القرشينات ويا
فكيك.. أنا إيه اللي يقعّدني ف هَم العموديّة ده؟
- ها ها هاي.. ده بس رأيك ف الأوّل.. إنما
لمّا تدوق حلاوة السُلْطَة والجاه والمال ح تتبّت ف العموديّة بإيديك واسنانك.. ياما
كان نفسي اشوف "كمال" ابني عُمْدَة قبل ما اموت.. يا للا.. رِزقك انت
ياد يا "موفّق".
- معلهش يا سي "عتريس" كل حي بياخد
نصيبه.. رِزق الشباب ورا الباب.
- بس انت يا "طهطاوي" خدت
العموديّة على كَبَر.. ربنا بيرزق الديب العجوز بالنعجة السمينة.. ها ها ها.
- عجوز إيه يا خال.. ده الدهن ف العتاقي.. ده
عم "طهطاوي" رزعني قلم إنما إيه.. ساوِرني لحد ده الوقت.
- قلم إيه يا "طهطاوي".. إنت اتجننت؟
- ده ساعة ما كنت عامل نفسي باعذّبه ف دوّار
العموديّة القديم.
- ما احنا ما اتفقناش على كده يا عم "طهطاوي".
- يعني هو احنا كنّا اتفقنا على إنك تِتِف عليَّ
يا وسخ.
- معلهش بقى.. أصلي اندمجت.. بس إيه رأيك فيَّ
لمّا كنت عامل نفسي باتكهرب.
- لأ.. الحق يتقال.. أستاذ.. ولا "فريد
شوقى" ف عِزُّه.. ده انا نفسي كنت ح اصدّقك وافتكر إن فيه كهربا ف السلك.. مع
إن دوّار العموديّة القديم متشال منه الكابل العمومي أصلاً.
- بس أهم حاجة إن انت كنت..... إيه الصوت ده؟
- مش عارف.. إطلع يا "موفّق" شوف
فيه إيه برّه قوام.
وخرج "موفّق" ليستطلع مصدر الصوت
فوجد شبح رجل يشرع في الهروب، وقد كان ذلك هو الشيخ "إبراهيم" الذي تعثّر
في أحد فروع الأشجار في الحديقة أثناء إسراعه في الرحيل لإخبار أهل البلد بحقيقة
الخائن "موفّق" وحقيقة اللعبة الخبيثة التي مورست عليهم، وقبل أن يبتعد
الشيخ كان "موفّق" قد أخرج مسدسه الكاتم للصوت وصوّب عليه رصاصتيْن
أصابته إحداهما في ظهره فأردته على الأرض، وجري "موفّق" نحو الرجل الذي خرَّ
صريعاً ففوجئ بأنه الشيخ "إبراهيم" الذي نظر إلى "موفّق" نظرة
نفورٍ وازدراء وتلفّظ بصعوبة قائلاً :
- صحيح.. صدق الراوي لمّا قال ع الربابة :
"شيء من الخوف ما يأذيناش بس الكتير منه موت.. وشيء من الخبث إن بينّا عاش
يبقى خسارة فينا قوت".. روح يا شيخ.. منّك لله.
ولم يزِد الشيخ فوق ذلك وفارق الحياة، وكان
"عتريس" و"طهطاوي" قد لحقا "بموفّق" وعرفا بما صار
فسأله "عتريس" :
- كان فيه حد معاه؟
- لأ.. ما اظنّش.
- طَب خلاص.. قوم انت قوام روّح قبل ما نور
الفجر يطلع.. واحنا ح نربط الجِتَّة بحجر تقيل ونتاويها ف الريّاح اللي قُصادنا.. ومش
لازم نشوف بعض الكام يوم اللي جايين دول.
- وما تنساش يا "موفّق" تعمل اللي احنا
اتفقنا عليه قبل كده.. إنت ده الوقت العمدة.. "فؤادة" ف عصمتك.. والهجّانة
تحت طوعك.. والغفر معاك.. وإيدك مطلوقة ف أهل البلد تعمل فيهم ما بدا لك.. ماشي؟
- ماشي.. كل حاجة ح تبقى أَلِسْطَة.. ما
تنعوش هَم أي شيء طول ما انا العمدة.. و"فؤادة" وأهل البلد تحت رحمتي.