الفصل الثالث (2)
وانصرفا من العيادة إلى منزل
"عبير" ثم إلى المستشفى حيث أدخلها العمليّات وقاد زملاءه بنفسه لتركيب
القسطرة الوريديّة في الفخذ، وأحس "كريم" بأنه مسؤول عن مريضته التي
تفتقر إلى وقوف أحدٍ بجانبها، وللحق فقد كان الرجل لا يتورّع أبداً عن بذل كل ما
في وِسعه لخدمة مرضاه جميعاً بلا استثناء بل ويعاملهم كأنهم أفرادٌ من عائلته التي
افتقدها منذ نعومة أظافره، ولكن مشاعره النبيلة تجاه مرضاه تزايدت وتضخّمت مع
"عبير" بالذات بعد أن أشرف على حالتها بالمستشفى وأبى أن يعود لمنزله
قبل أن يطمئن عليها وتفيق من المخدّر وتعود إلى وعيها، وحين أفاقت فتحت عيْنيْها
فوجدت "كريم" يجلس على كرسيٍ بجانبها وقد غفا دون أن يشعر من شدّة
إجهاده فابتسمت وأكبرت ذلك الموقف من طبيبها الذي وجدت فيه صفاتٍ قلّما تجدها في
رجال هذه الأيّام، فتجربتها مع زوجها علّمتها أن الرجال الآن يتسمون بالأنانيّة
والقسوة والاستبداد وحب السيطرة على المرأة، أمّا صفات الطيبة والعطف والحنان
والرأفة والحنو على الجنس الناعم الضعيف فلا تتواجد أصلاً وإن وُجِدت فلابد أن
يكون وراءها غرضٌ ما، وأطالت نظرها نحو "كريم" الرجل النائم بجوارها
فلمحت يده اليسرى وقد تزيّن بِنْصَرها بخاتم الزواج الفضّي فلم تستطع أن تمنع
نفسها من أن تحسد زوجته على هذا الرجل الرائع، وأخذت تتساءل : هل هو سعيدٌ مع
زوجته؟ كيف يتعاملان معاً؟ هل تمتلك الزوجة نفس صفات زوجها؟ هل لديهما أولاد؟
..... وبينما هي تغرق في تساؤلاتها تنبّهت على صوت "كريم" الذي صحا من
نومه القصير قائلاً :
- حمد الله ع السلامة .. فُقتي إمتى؟
- لسّه حالاً .. بس ما رضيتش اصحّيك .. شكلك
تعبان .. كتّر خيرك على كل اللي عملته علشاني.
- يا ستّي لا شكر على واجب .. أقوم انا بقى
اروّح أحسن احنا داخلين ع الفجر .. خدي بالِك من نفسِك وما تتحرّكيش كتير علشان
القسطرة ما تطلعش من مكانها .. وانا ح اجي ابص عليكي ع الضُهر بعد ما يعملوا لِك
أوّل جلسة غسيل .. ياللا .. سلامُ عليكم.
- وعليكم السلام .. مع ألف سلامة .. ربّنا
يحميك.
وعاد "كريم" إلى منزله بُعَيْد
الفجر فوجد "بسمة" تغط في سباتٍ عميق استيقظت منه بعد أن أحسّت بزوجها
وهو يضّجع بجانبها ليريح جسده المنهك فسألته وهي مغمضة العيْنيْن :
- إنت جيت يا "كريم"؟
- لأ .. لسّه ما جيتش؟
- إنت بتهزّر؟
- لا يا ستّي أنا باتريق.
- على إيه؟
- على نفسي .. نامي نامي.
واعتدلت الزوجة وفتحت عيْنيْها وقد طار منهما
النوم وقالت وهي تتثاءب :
- لا بجد .. فيه إيه؟
- يعني مش حاسّة فيه إيه؟ .. فيه إني جاي من
شُغلي متنيّل تعبان ومحتاج الاقي مراتي مستنيّاني تحط لي لقمة اتسمّمها .. مش اجي
ألاقيكي نايمة نومة أهل الكهف كده.
- وانا ايش عرّفني ح ترجع إمتى؟ .. ما انت ما
لكش مواعيد.
- هوَّ يعني انتي كلّفتي خاطرِك وسألتي عليَّ
بالتليفون لمّا اتأخّرت .. مش يمكن يكون جرى لي حاجة.
- وانت عايزني افضل طول الليل صاحية مستنّياك
.. ما انا طول اليوم مهدودة ف الشُغل ومع ولادك .. دي كلّها ساعتين من ده الوقت
ويبدأ البرنامج المشحون بتاع كل يوم.
- طيّب يا ستّي .. ربّنا يخلّيكي لولادِك ..
واتفلق انا.
- إنت مكبّر المواضيع كده ليه؟ .. ما انت
لمّا بترجع البيت كل يوم بتصحّيني واحط لك الأكل .. حالاً ح اسخّنهولك.
- مش عايز حاجة .. ما ليش نِفس .. مش عايز
منِّك حاجة.
- إنت حر .. اللي بياكل على ضرسه بينفع نفسه
.. تصبح على خير .. ألحق أنام لي ساعة أحسن م النكد اللي انت مصبّحني عليه ده.
وأدارت "بسمة"ظهرها لزوجها وتظاهرت
بالنوم في حين سرح "كريم" بخياله مقارناً بين طبائع زوجته الآن وطبائعها
فيما مضى وتمنّى لو ظلّ عمره كلّه مشلولاً ليحوز اهتمام زوجته التي كانت رقيقةً
ليّنة تستجيب لأوامره وتبحث عن راحته.