الفصل الثاني | سفاح كرموز (2)
وفي المساء كانت الساعة تشير إلى ما بعد
العاشرة حين وصلت "منيرة" إلى شونة "سعد" المنزوية على جانب
الطريق ودخلت دون أن يراها أحد في تلك المنطقة البعيدة عن منازل أهل الحي؛ فقد
كانت منطقة قنال ترعة "المحموديّة" معزولة عن العمران وقتذاك؛ فقط تمتلئ
بالورش والمصانع والمخازن التي تغلق أبوابها قبل صلاة المغرب، وكانت شونة "سعد"
تنقسم إلى جزئيْن : الأكبر هو المخزن المسقوف الذي توضع به البضاعة والأصغر عبارة
عن فناء (حوش) غير مسقوف ولكنه مسوّر بسياجٍ (سورٍ) مرتفع، وما إن اقتربت
"منيرة" من مدخل الحوش الخارجي حتى انفتح باب المخزن المسقوف وبرز منه
"سعد" مرحّباً بها فدخلا المخزن وأغلق "سعد" بابه من الداخل
بعد أن تلفّت خلفه يميناً ويساراً حتى يتأكد من عدم وجود أحد.
وفي الداخل استوت "منيرة" على
مقعدٍ خشبي أحضره لها "سعد" فجلست عليه وهى تمصمص شفتيها قائلةً في
تعجّب :
- مصصص! .. يا اختاي! .. إيه يا راجل .. بقى
انا جايّة لك من آخر الدنيا علشان تقعّدني على كرسي خشب .. طب ما كنّا رحنا أي
قهوة قريّبة وخلاص!
- أنا باقول تريّحي بس على بال ما اجيب كاسين
نشربهم.
- لأه .. أنا ح نريّحوا ع المرتبة القطن اللي
ع الأرض دي .. أومّال انت جايبها ليه.
- أصلي ساعات بابات هنا ف الشونة .. حاطط
المرتبة على جنب .. بانام عليها.
- بتنام عليها لوحدك يا خلبوص .. هي هي .. ده
انت باين عليك ميّه من تحت تبن يا واد انت.
قالتها "منيرة" وهي تضحك وترتمي
بثقل جسدها على تلك الحشيّة القطنيّة بعد أن وضعت حقيبتها جانباً وخلعت حذاءها
وتحرّرت من مِلْحَفَتها (ملاءتها اللف) وإزارها واستكملت حديثها قائلةً
"لسعد" الذي اختفى وراء كومةٍ كبيرة عالية من أثواب الأقمشة
المُخّزَّنة:
- أيوه كده .. كده أريح .. بس انت فارش إيه
ناشِف تحت الملاية؟
- أصلي فارش فوق المرتبة حتّة قماش جِلد كنت
جايبها م المدبغة .. و بعدين حاطط الملاية فوقها .. علشان ما تتوسّخش.
- ما تتوسّخش من إيه يا ده العدي .. إنت
بتعملها على روحك ولّا إيه؟ .. هههههههه .. يا عم تعالَ بقى .. بتعمل إيه كل ده ..
كل ده بتصب كاسين.
- طب غمّضي الأول علشان جايب لِك هديّة.
- الله .. هديّة! .. ماشي .. آديني غمّضت
أهو.
وغطّت "منيرة" عينيْها بيديْها وهي
تفكّر في ماهيّة الهدية التي لم تكن غير ساطورٍ أخفاه "سعد" خلف ظهره
حتى اقترب منها فهوى به على أم رأسها فشجّه شجّاً عميقاً حتى برز منه مخّها وانبثق
منه الدم مدراراً فخرّت الضحيّة صريعةً في الحال دون أن تنبس ببنت شفةٍ أو تند
عنها صيْحةٌ واحدة، وأسرع "سعد" وتفقّد شنطتها فوجدها مليئةً بأوراق
البنكنوت الماليّة والتي يبدو أنها إيراد محلّها التجاري لذلك اليوم فقد جاءت بعد
أن أغلقته مباشرةً، وأخذ "سعد" يحصيها فوجدها تقارب الثلاثمائة وعشرين
جنيهاً، ثمّ جرّدها من مصوغاتها الذهبيّة الكثيرة التي كانت تتحلّى بها ولم ينسَ
أن يُحضر كمّاشةً كانت عنده بالمخزن لينزع بها سِنّاً ذهبيّة من بين أسنان القتيلة
فوضعها مع الأموال والحُلي بعد أن نظّفها من الدماء، وفي خلال دقائق شرع
"سعد" في حفر حفرةٍ عميقة في الأرضيّة الترابيّة بأحد الأركان الخلفيّة
المنزوية للشونة مستخدماً جاروفاً كان قد أحضره خصّيصاً لذلك، وبعد أن فرغ من عمله
لفَّ جثّة "منيرة" بالملاءة التي كانت ترقد عليها فوق الحشيّة وألقى بها
في الحفرة ثمّ ردم فوقها ما كان قد استخرجه من رمالٍ وتراب أثناء الحفر ثمّ قام
بتسوية الأرضيّة فوق الحفرة لتتساوى مع ما حولها ثمّ جمع التراب الزائد ووضعه
جانباً ثمّ رشَّ بعضاً من المياه على تلك التُربة الرمليّة لتسكين الأتربة
وتلبيدها ثمّ أتي ببعض العروق الخشبيّة الغليظة وفرشها بانتظام فوق الحفرة ثمّ وضع
فوق ذلك كلّه عدّة أثوابٍ من الأقمشة فاختفت تحتها الحفرة تماماً ولم يظهر لها
أثر، وجلس "سعد" يلتقط أنفاسه ويستريح قليلاً بعد هذا المجهود المضني،
وأخيراً قام فأوقد ناراً و سخّن فوقها بعض المياه التي نظّف بها آثار الدماء من
على القماشة الجلديّة التي كان يغطّي بها الحشيّة القطنيّة ثم جفّفها جيّداً
بمنشفة ثم نثر عليها بعضاً من عطر "ريحة القسيس" المنتشر بالأسواق آنذاك
ليغطّي على رائحة الدماء الذفراء.
وبعد أيّام سمع "سعد" من التجّار
والدلّالات أن "منيرة" اختفت في ظروفٍ غامضة وأن أخاها اتّهم أهل زوجها
باختطافها لخلافاتٍ بينهم على الميراث، ولم يتطرّق الشك إلى "سعد" الذي
زارها في حانوتها صباح نفس يوم اختفائها ممّا شجّعه على أن يذهب لشارع
"فرنسا" المشهور بمحلات بيع وشراء الذهب ليبيع ما سلبه من ضحيّته
الأخيرة إلى أحد الصاغة الذي كان يعرفه جيّداً بحجّة أن هذه الحلي تخص أمّه وقد
أرسلتها له من الصعيد ليتوسّع في تجارته "بالأسكندريّة" مع وعدٍ بإحضار
المزيد كلما سنحت الفرصة.
ومرَّ شهرٌ واحدٌ فقط وأوشكت نقود
"سعد" على النفاذ بسبب تبذيره الشديد على عشيقاته ليُشبع ملذاته التي لا
تنتهي، ومع آخر خمسة جنيهاتٍ ظلَّت في حوْزته عاود الكَرَّة ثانيةً ؛ ولكنه هذه
المرّة فكّر في "وزيري فام مرقص" فهو مناسبٌ جداً لمتطلّبات
"سعد" نظراً لأنه تاجر أقمشةٍ متجوّل وعلاقاته كثيرة فلن يستطيع أحد أن
يحصيها أو يحصرها إذا ما اكتُشِف اختفاؤه، وهو طاعنٌ في السن فلن يقدر على مقاومة
"سعد" عندما يقتله، وهو أيضاً رجلٌ غني رغم مظهره البسيط وبُخله الواضح،
وفوق ذلك كله فهو سهل الإغراء لطمعه وجشعه المعروف بهما فيمكن "لسعد" أن
يستدرجه للشونة بسهولةٍ ويسر.