المعذبون في الأرض (12) | مصر المريضة
لم أَكَدْ أصعد إلى السفينة وأستقر فيها،
وأفرغ من هذه المواسم البغيضة التي لا بد منها لكل مُبحِر مهما يكن الثغر الذي
يُبحِر منه، حتى علمت بأن مصر مريضة، فاستمعت للنبأ غير حافل به ولا آبِه له ولا
مُلقٍ إليه بالًا. فالنبأ منشور في إحدى الصحف الفرنسية التي لا تصدر في مارسيليا،
وما أكثر ما يُنشَر عن مصر من هذه الأنباء التي لا تصوِّر حقًّا ولا تدل على شيء،
إلا ما يكون في نفس الذين أبرقوا بها من بغض لمصر أو ميل إلى الكيد لها، والنعي
عليها، والإسراف فيما يذاع عنها من أنباء السوء!
والصحف الفرنسية في هذه الأشهر الأخيرة قليلة
العطف على مصر، شديدة الضيق بها، سريعة إلى التحدث عنها بما لا يحب المصريون،
تنتهز لذلك الفرص إنْ سنحت، وتخلقها إذا لم تسنح، وقد كان بيننا وبين فرنسا تلك
الخطوب التي أحفظتنا على الفرنسيين وأغرتنا بهم، وأحفظت علينا الفرنسيين وأغرتهم
بنا، فالقارئ المستبصر خليق أن يصطنع كثيرًا من الحرص والأناة حين يقرأ أنباء مصر
في فرنسا، وحين يقرأ أنباء فرنسا في مصر. ولست أخفي على القارئ أني لم أكَدْ أسمع
ما نُشِر في تلك الصحيفة من أن مصر مريضة، ومن أن مرضها شيء يشبه أن يكون وباءَ
الكوليرا، ومن أن الحكومة المصرية قد أخذت تتأهَّب لمقاومة الوباء، حتى رفعتُ كتفي
وهززتُ رأسي، وابتسمت ابتسامة ساخرة من هؤلاء الصحفيين الذين يريدون أن يكيدوا فلا
يحسنون الكيد، وأن يكذبوا فلا يحسنون تخيُّر الأكاذيب.
ومضى يوم ويوم والسفينة تجري إلى غايتها،
يعنف بها البحر حينًا ويرفق بها حينًا آخَر، دون أن يتحدَّثَ أحد إلى أحد بهذا
النبأ السخيف الذي نشرته صحيفة سخيفة، ومرَّ بها القارئون مرًّا سريعًا، ولكننا
نمسي ذات يوم وإذا إعلان قد ألصق في غير موضع من السفينة، ينبِّه فيه المسافرون
إلى أن الماء العذب سيُحجَز عنهم ساعات من النهار؛ لتستطيع السفينة أن تبلغ بيروت
دون أن تأخذ شيئًا من ماء مصر، لأن وباء الكوليرا يمنعها من ذلك.
هنالك لم نرفع الأكتاف ولم نهز الرءوس، ولم
نبتسم ابتسامات ساخرة ولا جادة، وإنما نظر بعض المسافرين إلى بعض في صمت، ثم أقبل
بعض المسافرين على بعض يتساءلون. أما أنا فأعترف بأني لم أرفع كتفي ولم أهز رأسي،
وإنما أطرقت إلى الأرض، وجعلت أتضاءل وأتضاءل، ووددت لو نظر إليَّ مَن حولي من
الناس فلم يروني، ووددت لو تحدث إليَّ مَن حولي من الناس فلم يسمعوا مني لحديثهم
رجع جواب. فلم يكن الشعور الذي وجدته في ذلك الوقت شعورَ الخوف، ولا الشعورَ
بالحاجة إلى الاحتياط، وإنما كان شعورًا غريبًا أستطيع الآن أن أقول إنه كان
مزاجًا من الحزن والخزي جميعًا.
كان فيه الحزن على هذا البلد الذي كنَّا نراه
خليقًا بالسعادة، والذي أفنينا شبابنا وكهولتنا وجهودنا وقوانا لنرقى به إلى بعض
هذه السعادة التي كنَّا نراه لها أهلًا، ثم ها نحن أولاء نرى الشقاء يُصَبُّ عليه
صبًّا، والبلاء يأخذه من جميع أقطاره، والآلام والنوائب تسعى إليه من كل وجه. نرى
البؤس البائس يغمر الكثرة الكثيرة من أهله، فيلابسهم ملابسة متصلة لا تقلع عنهم في
ليل ولا نهار، فهم جائعون عراة جهَّال، أشقياء بهذا كله، ويزيدهم شقاءً أن كثيرًا
منهم يعرفون هذا البؤس الذي هُمْ فيه، ويعرفون أن من حقهم أن ينعموا، ويريدون أن
يخلصوا من بؤسهم، وأن يحقِّقوا لأنفسهم شيئًا من نعيم، ولكنهم لا يبلغون ما
يريدون، ولا يعرفون كيف يبلغون ما يريدون، ولا يجدون مَن يُعِينهم على أن يبلغوا
ما يريدون.
وفيه الحزن على هذا البلد الذي كنَّا نراه
أهلًا للحرية والأمن، والذي أفنينا شبابنا وكهولتنا وجهودنا وقوانا لنظفر له ببعض
حقه من الحرية والأمن، ثم ها نحن أولاء ننظر فنراه مغلولًا لا يقدر على أن يتحرك،
معقود اللسان لا يقدر على أن ينطق، مقفل القلب لا يقدر على أن يجد ما تجد الشعوب
الحرة من الشعور بأيسر كرامة الإنسان. ثم ننظر إليه فنجده من أجل ذلك خائفًا
يترقب، يخشى أن يعمل فيغضب سادته، ويخشى أن يقول فيُحفِظ قادته، ويخشى أن يسكت
فيسوء به ظن المسيطرين على أمره، فهو حائر بين الحركة والسكون، وبين الكلام والصمت،
وبين الشعور والجمود.
وفيه الحزن بعد ذلك على هذا البلد الذي كنَّا
نراه أهلًا للاستقلال، والذي أفنينا شبابنا وكهولتنا وجهودنا وقوانا لنظفر له بحقه
في هذا الاستقلال، ثم نحن ننظر فإذا هو يردُّ عن حقه أعنف الرد وأقساه، وإذا
المنتصرون الذين كانوا يترضَّونه ويتملقونه في أمس القريب، قد ائتمروا به
وتنكَّروا له وكادوه كيدًا، إن صوَّر شيئًا فإنما يصور الجور والغدر والظلم
والجحود.
وفيه الحزن بعد هذا وذاك لهذا البلد الذي
صُرِفت عنه ضروب الخير في السياسة والثقافة والاقتصاد، ومنحه الله مع ذلك إقليمًا
معتدلًا وأرضًا خصبة وسماء صافية ونهرًا يفيض بالنعمة والنعيم، وكان هذا كله
خليقًا أن يكفل لأهله حياة مادية محتملة، ويصرف عن أهله الآفات والعلل والأدواء،
ولكنا ننظر فإذا هو قد حُرِم حتى هذه الحياة، وإذا الآفات والعلل والأوبئة تسعى
إليه من أقصى الشرق، ومن أقصى الجنوب، فلا تجد مَن يردها عنه أو يحميه من شرها،
وإذا الآفات والعلل والأوبئة تهبط عليه من سمائه الصافية، وتخرج له من أرضه
الخصبة، وتسعى إليه مع نهره الفيَّاض، وإذا أهله مرتع الآفات والعلل والأوبئة،
تصيب منه ما تشاء كما تشاء، ومتى تشاء، وحيث تشاء! وإذا العالم كله يتلقَّى الأنباء
في أقل من شهر بأن هذا البلد الذي خُلِق للعزة ما زال مستذَلًّا، وبأن هذا البلد
الذي خُلِق للأمن ما زال خائفًا، وبأن هذا البلد الذي خُلِق للحرية ما زال
مستعبَدًا، ثم بأن هذا البلد الذي خُلِق للصحة مريض يفتك وباء الكوليرا بمدنه
وقراه وبمَن في مدنه وقراه كما يشاء، ومتى يشاء، وحيث يشاء!
ثم في هذا الشعور الذي أطرقت له إلى الأرض
وتضاءلت له وتضاءلت، شيء عظيم كئيب من الخزي لهذا البلد الذي كنَّا نظنه قد تجاوز
هذا الطور، طور البلاد المتأخرة العتيقة الجاهلة التي تفتك بأهلها الأوبئة، فإذا
نحن نراه عرضة للوباء، بل مرتعًا للوباء، وأي وباء؟ وباء الكوليرا الذي كنَّا نظن
أنه لن يعود إلى مصر بعد أن فعل بها وبأهلها الأفاعيل في أول هذا القرن.
ليت شعري ماذا صنعت مصر؟ وماذا صنع المصريون؟
يقال إنهم قد أنشئوا في هذا القرن كثيرًا من المدارس ومعاهد العلم، ومضوا في
الحضارة الحديثة إلى أبعد حدٍّ ممكن، فلهم برلمان كما أن لغيرهم من الأمم
برلمانات، ولهم وزارات منظَّمَة كما أن لغيرهم من الأمم المتحضرة وزارات منظَّمَة،
ولهم وزارة قد خُصِّصَتْ لشئون الصحة، كما أن لغيرهم وزارة مخصَّصَة لشئون الصحة،
ولهم عاصمة تتفوَّق على كثير من عواصم البلاد المتحضرة وتقاس إلى عواصم الدول
الكبرى، يعجب بها أهل باريس، وأهل لوندرة، وأهل نيويورك إذا ألمُّوا بها وأقاموا
فيها، وهم بعد هذا كله قد نالوا من الترف ما صُرِف عن كثير من الأمم المتحضرة في
هذه الأيام، حتى أصبح ثراؤهم وترفهم وإقبالهم على اللذَّات مضرب الأمثال في أقطار
الأرض كلها … كل هذا حق، وكل هذا شيء نسمعه حين نزور باريس وغير باريس من المدن
الكبرى في أوروبا وفي أمريكا. كل هذا حق، ولكن من الحق أيضًا أن العالم كله قد
تلقَّى منذ شهر نبأً مقتضبًا، ولكنه على ذلك خطير أشد الخطورة، تلقَّى النبأ بأن
مصر التي أراد إسماعيل أن يراها جزءًا من أوروبا قد ألمَّ بها وباء الكوليرا،
وأقام فيها، وأنها تريد أن ترده فلا تستطيع له ردًّا، وأنها تستعين بالعالم
المتحضر على وقاية أبنائها من شره، وحمايتهم من فتكه البغيض.
وكنتُ أظن أن هذا الشعور بالخزي مظهر من
مظاهر الغرور والكبرياء والاعتداد بالنفس والوطن، ولكني لم أكَدْ أبلغ مصر حتى
عرفت أني لستُ مستأثرًا من دون المصريين المثقفين بهذا النوع من الغرور والكبرياء
والاعتداد بالنفس والوطن؛ فكل مصري مثقَّف يقدِّر نفسه ويقدِّر وطنه، ويستحضر ما
بذل المصريون من الجهود في العصر الحديث ليرقوا بوطنهم إلى حيث ينبغي أن يكون من
العزة والأمن والحرية والصحة في الأبدان والقلوب والعقول، كل مصر مثقف يجد هذا
الشعور المر الذي وجدته، والذي هو مزاج يأتلف من الحزن الممض، والخزي الذي تطأطَأ
له الرءوس.
وينظر إليَّ مَن كان حولي من المسافرين،
وفيهم المصري والأجنبي، فيروعهم ما يرون من هذا الوجوم الذي أغرق فيه إغراقًا
غريبًا، فيظنون بي في أعماق أنفسهم الظنون، ويسألني بعضهم محاولًا أن يهون عليَّ
الخطب، وأن يردني إلى شيء من الأمن: ماذا أجد؟ فلا أزيد على أن أذكِّره بأني أعرف
وباء الكوليرا، وبأني قد تحدَّثْتُ عنه في بعض ما قرأ لي من كتب، وبأني قد رأيت
هذا الوباء ولما أتجاوز العاشرة، فكان له في قلبي وحياتي كلها أبلغ الأثر وأعمقه
وأبغضه. وتأثُّر الأطفال حين يكون عميقًا بغيضًا إلى هذا الحد لا يفارقهم مهما
تمتد لهم أسباب الحياة.
أصدَّقوني أم لم يصدقوني؟ لا أدري! ولكن أنا
لم أصدق نفسي، فلم يكن بين هذا الوجوم الذي أغرقت فيه وبين ذكريات الصبا على
مرارتها وعلى ما تثير في النفس من الحسرات، صلة قريبة أو بعيدة في ذلك الوقت،
وإنما نشأ هذا الوجوم عن هذا الشعور الحزين المستخذي الذي يجده المصري المثقَّف
حين يرى آماله وأعماله وجهوده، وآمال كثير من نظرائه وأعمالهم وجهودهم، تنهار
كأنهم لم ينعموا بهذه الآمال، وكأنهم لم يسعدوا بما حاولوا من الأعمال، وكأنهم لم
يستمتعوا بما بذلوا من الجهود، وكأنهم لم يتحدثوا إلى أنفسهم، ولم يتحدث بعضهم إلى
بعض بأن آمالهم التي كانت بعيدةً قد أخذت تقرب وتقرب حتى توشك أن تتحقق، وبأن
أعمالهم الشاقة قد أخذت تؤتي ثمراتها، وبأن جهودهم العنيفة قد أخذت تدنيهم من
غاياتهم، وبأنهم سيستطيعون بعد حين أن يقفوا بعد طول السعي، وأن ينظروا فإذا هم لم
ينفقوا حياتهم عبثًا، ولم يبذلوا جهودهم في غير طائل، وإنما تلقوا من آبائهم وطنًا
ضعيفًا مهيضًا عليلًا، فما زالوا به حتى ردُّوا إليه شيئًا من قوة وصحة وعافية
ونشاط، ومضَوا به في طريق العزة والكرامة أشواطًا وأشواطًا، وهم يستطيعون أن
يسلموه إلى أبنائهم مطمئنين إلى أنهم قد نهضوا بالحق فأحسنوا النهوض، وأدوا الواجب
فأحسنوا الأداء.
كان هذا الشعور بخيبة الأمل وضيعة العمل
مصدرَ هذا الوجوم الذي أغرقت فيه، ولكني لم أكن أستطيع أن أتحدَّث بشيء من ذلك إلى
مَن كان حولي من الناس، فهم كانوا مشغولين بأنفسهم عن المثقفين المصريين وعن
آمالهم وأعمالهم وجهودهم، وعن هذه الفلسفة اليائسة التي تغمر قلوبهم في هذه الأيام
السود، وهم كانوا يتحدثون فيما بينهم بما ينبغي أن يتخذوا من ضروب التحفُّظ وألوان
الاحتياط، وهم على كل حال قد عرفوا أني لا أحب أن أسمع لحديث الكوليرا ولا أن
أشارك فيه، فأعفوني من هذا الحديث، ولكن الأنباء لم تعفني منه؛ فقد كانت نشرة
السفينة تعلن إلينا كل يوم عدد الإصابات وعدد الوفيات وأماكن هذه وتلك، ولم نشرف
على الإسكندرية حتى لم يكن لأهل السفينة كلهم حديث إلا هذا الوباء، وكنتُ أظن أني
سأجد إذا بلغت مصر وجومًا شائعًا، وحزنًا منتشرًا، واستخذاءً شاملًا، كما كنتُ أجد
في نفسي من الوجوم والحزن والاستخذاء، ولكني أبلغ الإسكندرية وألقى مَن شاء الله
أن ألقى من المصريين، فإذا حياتهم تجري على الوتيرة التي ألفناها، وإذا الوباء
يروعهم ولكنه لا يصرفهم عن أنفسهم ولا عن لذَّاتهم، وإذا أنباء السياسة تحزنهم،
ولكنها لا تلهيهم عن أنفسهم ولا عن لذَّاتهم، وإذا أنباء الاقتصاد تخيفهم، ولكنها
لا تشغلهم عن أنفسهم ولا عن لذَّاتهم، وأبلغ القاهرة فأرى فيها مثل ما رأيت في
الإسكندرية، وإنما الذين تشغلهم أنباء الوباء والسياسة والاقتصاد عن أنفسهم وعن
لذَّاتهم قلة ضئيلة ليس أيسر من إحصائها، فأما مَن عدا هذه القلة فماضون في حياتهم
كما تعوَّدوا أن يمضوا؛ ألسنة طوال، وعقول قصار، وقلوب قاسية كالحجارة بل أشد
قسوة، فلا أملك نفسي أن أتلو قول الله عز وجل: وَإِذَا
أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا
فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، ولا أملك نفسي أن أتلو
قول الله عز وجل: وَضَرَبَ
اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا
رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ
لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ.
ويقبل العيد فإذا المترفون مُقبِلون على
عيدهم كما أقبل عليهم عيدهم، لا يشعرون بأن مئات من الأسر في مئات من المدن والقرى
قد كانت تنتظر العيد كما كانوا ينتظرونه، وتتشوق إليه أكثر مما كانوا يتشوقون
إليه، ولكن العيد أخلفهم موعده، وأرسل إليهم الموت نائبًا عنه، وأرسل إليهم مع
الموت حسرات وعَبَرات وزفرات، وأرسل إليهم مع هذا كله شقاءً ملحًّا وبؤسًا مقيمًا.
نعم، لا يشعرون بأن أمَّهم مصر مريضة، وبأن مرضها هو النزيف المهلك، ولكنها لا
تنزف دمًا وإنما تنزف أبناءها ونباتها نزفًا. لا يشعرون بشيء من ذلك، أو يشعرون به
ولا يلتفتون إليه، أو يشعرون به ويلتفتون إليه ولكنهم لا يحفلون إلا بأنفسهم، ولا
يشفقون إلا عليها، كأنهم يستطيعون أن يعيشوا وينعموا ويستمتعوا بالحياة إذا ضرب
الحزن والبؤس والموت أطنابها على هذا البلد البائس الشقي.
هيهات! هيهات! إنما ذلك تعليل النفس بالأماني
الباطلة، وخداعها بالآمال الكاذبة، وإن المصريين بين اثنتين لا ثالثة لهما: فإما
أن يمضوا في حياتهم كما ألفوها، لا يحفلون إلا بأنفسهم ولذَّاتهم ومنافعهم، وإذن
فَلْيثقوا بأنها الكارثة الساحقة الماحقة التي لا تُبقِي ولا تذر؛ وإما أن
يستأنفوا حياةً جديدةً كتلك التي عرفوها في أعقاب الحرب العالمية الأولى، قوامها
التضامن والتعاون وإلغاء المسافات والآماد بين الأقوياء والضعفاء، وبين الأغنياء
والفقراء، وبين الأصحاء والمرضى، وإذن فهو التآزُر على الخطب حتى يزول، وعلى
الكارثة حتى تنمحي، وعلى الغمرات حتى ينجلين.
إلى أي الطريقين يريد المترفون من المصريين أن يذهبوا: إلى طريق الموت أم إلى طريق الحياة؟ سؤال ألقيه على نفسي حين أصبح، وألقيه على نفسي حين أمسي، وأضرع إلى الله بين ذلك أن يجنِّبَني اليأس، ويعصمني من القنوط، ﻓـ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ.