1984 (8)
وأخيراً حدث ما كان ونستون يترقبه، لقد جاءته
الرسالة المرتقبة والتي خيل إليه أنه أمضى كل حياته منتظراً مجيئها.
فبينما كان يسير عبر الممر الطويل بالوزارة
قرب النقطة التي وضعت فيها جوليا رسالتها خلسة في يده، شعر بأن شخصاً يفوقه في
الحجم يسير وراءه مباشرة. وقد سعل هذا الشخص سعلة خافتة توطئة لبدء حديثه. فما كان
من ونستون إلا أن توقف فجأة واستدار، فإذا به أمام أوبراين.
وأخيراً أصبح ونستون وجهاً لوجه مع أوبراين،
وبدا لونستون أن حافزاً واحداً يحركه الآن، وهو أن يلوذ بالفرار. وأخذ قلبه يخفق
خفقانا شديدا، وانعقد لسانه عن الكلام، ولكن أوبراين واصل سيره في الاتجاه نفسه
وربت على كتف ونستون بلطف حتى يتسنى لهما أن يسيرا جنباً إلى جنب. ثم استهل كلامه
بأسلوب ينم عن وقار واحترام فريدين كانا يميزانه عن غالبية أعضاء الحزب الداخلي.
وقال: «لقد كنت أتحين فرصة للحديث معك، فقد
قرأت بالأمس إحدى مقالاتك باللغة الجديدة في صحيفة التايمز، وبدا لي أنك تولي هذه
اللغة اهتماماً علمياً أكاديمياً، أليس كذلك؟»
كان ونستون قد استعاد بعضاً من رباطة جأشه،
فقال: «لا أستطيع أن أقول إنه اهتمام علمي، فأنا هاو لها فقط، كما أنها ليست موضوع
اختصاصي، ناهيك عن أنني لم أشارك من قريب أو بعيد من يدرسون تركيباتها الفعلية».
فقال أوبراين: «ولكنك تكتبها ببراعة وأسلوب
واضح، وهذا ليس رأيي وحدي، فقد كنت أتحدث مؤخراً مع أحد أصدقائك وهو لا شك من
الخبراء بها. ولكن لا تسعفني ذاكرتي باسمه في هذه اللحظة».
عاد قلب ونستون يخفق بشدة من جديد، إذ لم يكن
ذلك إلا إشارة إلى سايم، وسايم لم يكن قد مات فحسب، وإنما امّحى وكأنه لم يكن له
وجود. وباتت أي إشارة محددة إليه تنطوي على خطر قاتل. ولذلك ظن ونستون أن ملاحظة
أوبراين هي بمثابة إشارة أو شيفرة، وكونه يشترك معه في جريمة من جرائم الفكر مهما
صغرت، فإن ذلك يجعلهما شريكين. وتابعا السير ببطء عبر الممر إلى أن توقف أوبراين
لبرهة، وبحركته المعهودة الغريبة والمفعمة بود تأتلف له القلوب أعاد تثبيت نظارته
فوق عينيه. ثم استطرد:
«إن ما أردت فعلاً قوله هو أنني لاحظت أنك قد
استخدمت في مقالك كلمتين بطل استعمالهما، إلا أن ذلك لم يحدث إلا مؤخراً جداً. ترى
هل اطلعت على الطبعة العاشرة من معجم اللغة الجديدة؟»
قال ونستون: «كلا، أظن أن هذه الطبعة لم تصدر
بعد، فنحن ما زلنا نستخدم الطبعة التاسعة في قسم السجلات».
فقال أوبراين: «أعتقد أن الطبعة العاشرة لن
تظهر قبل عدة شهور إلا أن بضعة نسخ تجريبية قد وزعت ولديّ واحدة منها. ولعله يهمك
أن تطّلع عليها؟»
وعلى الفور أجاب ونستون وقد تراءى له أنه
أدرك ما يرمي إليه أوبراين: «نعم يهمني جداً».
فقال أوبراين: «إن بعض التحسينات الأخيرة
التي أجريت على اللغة الجديدة تدل على إبداع حقيقي، فتخفيض عدد الأفعال مثلاً هو
إحدى النقاط الجديدة التي ستحوز إعجابك على ما أظن. هل أرسل لك المعجم مع أحد
السعاة؟ ولكني أخشى أن أنسى شيئاً مثل هذا كعادتي، ولعله من الأفضل أن تأتي إلى
شقتي في وقت يناسبك لتأخده؟ انتظر ريثما أعطيك عنواني».
كانا يقفان أمام إحدى شاشات الرصد، وبحركة
عفويّة تحسس أوبراين جيوبه ثم أخرج مفكرة مبطنة بالجلد وقلم حبر مذهّب، ووقف أسفل
شاشة الرصد مباشرة يكتب العنوان في وضعية تتيح لمن يراقب على الطرف الآخر من
الشاشة أن يقرأ ما يكتبه، ثم نزع الورقة التي كتب عليها وسلمها لونستون.
وقال: «إنني في العادة أكون في المنزل مساء.
فإن لم تجدني، فسيعطيك خادمي المعجم».
ومضى أوبراين تاركاً ونستون ممسكاً بقصاصة
الورق التي لم يكن بحاجة إلى إخفائها هذه المرة. ومع ذلك فقد حفظ بعناية ما كان
مكتوباً فيها. وبعد بضع ساعات ألقى بها في مقبرة ثقب الذاكرة مع مجموعة من الأوراق
الأخرى.
استغرق حديثهما دقيقتين على الأكثر، ولم يكن
لهذا الحدث غير مغزى واحد محتمل. لقد حاكه أوبراين بطريقة تجعل ونستون يتعرف على
عنوانه. ولم يكن من ذلك بدّ، فبدون الاستعلام المباشر يستحيل أن يتعرف المرء على
عنوان سكن أي شخص آخر. فما من دليل لذلك من أي نوع. «إذا ما أردت مقابلتي، فهذا هو
العنوان الذي يمكنك أن تجدني فيه». كان هذا هو ما قاله أوبراين لونستون. وقال
ونستون في نفسه ربما تكون هناك رسالة مخبأة بين صفحات المعجم. ولكن مهما يكن من
أمر، هناك شيء واحد بات مؤكداً، وهو أن المؤامرة التي كان يحلم بها جارية بالفعل
وأنه يقف على أعتابها.
كان يعلم أنه سيلبي دعوة أوبراين إن عاجلاً
أو آجلاً. ربما كان ذلك غداً، أو بعد زمن أطول، فذلك ما لم يكن يعرفه على وجه
الدقّة. لكن الذي حدث في هذا اليوم لم يكن سوى حصاد لعملية بدأها منذ سنوات.
فالخطوة الأولى التي خطاها كانت مجرد فكرة سرية لا إرادية، وأما الثانية فكانت
المفكرة وكتابة المذكرات. لقد انتقل من الأفكار إلى الأقوال، والآن ها هو ينتقل من
الأقوال إلى الأفعال. وأما الخطوة الأخيرة فهي شيء ما سيحدث في وزارة الحب وعليه
أن يتقبلها. فالنهاية توجد في طيات البداية، ولكنها نهاية مخيفة أو بعبارة أدق، هي
أشبه بتذوق مسبق لطعم الموت قبل أن يجيء، وأشبه بكونك حياً ولكن لا معنى لحياتك.
وحتى عندما كان يتحدث مع أوبراين ويفطن لمعاني كلماته، كانت تعتريه رعدة يرتجف لها
جسمه، وينتابه إحساس بأن قدميه تهويان به نحو رطوبة القبر، ولم يكن هذا الإحساس
جديداً عليه لأنه كان يدرك دائماً أن القبر هنالك في انتظاره.
استيقظ ونستون وعيناه مغرورقتان بالدموع،
وكانت جوليا تتقلب بجواره وهي شبه نائمة، وغمغمت بكلمات ربما كانت «ما الخطب؟»
فقال: «لقد كنت أحلم أن...»، ثم انعقد لسانه
ولم يكمل القول، فقد كان الأمر معقداً إلى حد تعجز الكلمات عن وصفه. لقد بقي الحلم
نفسه والذكرى المرتبطة به عالقين في باله لبضع لحظات عقب استيقاظه.
بقي ونستون مضطجعاً، مغمضاً عينيه اللتين كان
ما زال يخيم عليهما أجواء الحلم. لقد كان حلماً ممتداً صافياً بدت له حياته كلها
فيه وقد انبسطت أمامه كمنظر طبيعي لا يحده إلا الأفق على جبل وقد غُسِل بماء المطر
في عصر يوم صيفي. لقد حدث كل ذلك في جوف الثقل الزجاجي والذي كان سطحه بمثابة قبة
السماء التي كان ما بداخلها مغموراً بضياء صافي ناعم يمكن للمرء أن يرى خلاله
مسافات لامتناهية. وفي الحلم تراءت له حركة ذراع أمه وهي تحتضن أخته الصغيرة،
والتي تكررت ثانية بعد ثلاثين سنة ولكن من امرأة يهودية شاهدها في إحدى الفقرات
الإخبارية وهي تحاول عبثاً أن تقي صغيرها من طلقات الرصاص، قبل أن تنقض عليهما
الهليكوبتر فتحولهما إلى أشلاء.
فقال لها: «هل تعلمين أنني كنت حتى هذه
اللحظة أعتقد أنني قتلت أمي؟»
فسألته جوليا والنعاس يغالبها: «ولماذا
قتلتها؟»
فأجابها: «أنا لم أقتلها. لم أقتلها بالمعنى
العادي للكلمة».
وكان ونستون قد استحضر في الحلم تلك النظرة
الأخيرة التي ألقاها على أمه، وما هي إلا لحظات بعد استيقاظه حتى تداعت إلى ذهنه
كافة التفاصيل التي اقترنت بالمشهد. إنها الذكرى التي حاول عن عمد طوال سنوات أن
يدفعها خارج دائرة وعيه، وإن كان ونستون لا يذكر متى حدث ذلك على وجه التحديد،
فإنه يذكر أن عمره آنذاك لم يكن يقل عن عشر سنوات أو اثنتي عشرة سنة.
كان أبوه قد اختفى قبل وقت من وقوع الحادثة.
كم من الوقت تحديداً، لا يذكر أيضاً. بيد أنه كان يتذكر الأجواء المشحونة بالقلق
والصخب التي كانت تخيم على تلك الفترة: فقد كان يذكر دوي الغارات الجوية وما يسببه
من نوبات هلع يهرع الناس على أثرها إلى محطات قطارات الأنفاق، ولذكر أكوام الأنقاض
التي ملأت كل الأماكن وسدت كل المنافذ، والإعلانات غير المفهومة والتي كانت تعلق
في كل زاوية من زوايا الشوارع وجماعات الشبيبة ذوي القمصان الموحدة اللون والأرتال
الهائلة من الناس يصطفون أمام الأفران والأصوات المتقطعة لطلقات المدافع الرشاشة
وهي تسمع من بعيد، وإضافة إلى كل ذلك يذكر أن الناس لم يكن لديهم ما يكفيهم من
الطعام. كما يذكر الساعات الطوال التي كان يمضيها مع غيره من الصبية وهم يحومون
حول أكوام القمامة بحثاً عن عروق أوراق الملفوف وقشور البطاطس بل وحتى أحيانا
يبحثون عن كسر الخبز العفنة التي يمسحون عنها الرماد بعناية، أو يمضونها في انتظار
الشاحنات التي تنقل علف المواشي عند طرقات يعرفونها على أمل أن يتساقط بعضه على
الأرض فيتناولونه.
وعندما اختفى أبوه لم تُظْهِر أمه أي أمارة
من أمارات الذهول أو الحزن الفاجع على اختفائه، لكن ثمة تغييراً فجائياً آخر قد
طرأ عليها، إذ بدت وكأن روحها قد أزهقت تماماً. لقد أصبح جلياً حتى لونستون آنذاك
أنها باتت تنتظر شيئاً تدرك أنه لا بد آت، فقد كانت تقوم بكل واجبات المنزل، فتطهو
وتغسل الملابس وترتقها وترتب الفراش وتكنس الغرفة وتمسح الغبار، وكانت تؤدي كل تلك
الواجبات ببطء قاتل وبسأم شديد حتى لكأنها تمثال يتحرك من تلقاء ذاته. وكان
بنيانها الضخم حسن الشكل يبدو كأنه يرتد إلى حالة من السكون. فكانت تمضي الساعات
جالسة فوق السرير جامدة لا تحرك ساكناً اللهم إلا العناية بأخته الصغيرة، تلك
الطفلة التي تبلغ من العمر سنتين أو ثلاث سنوات ضئيلة الجسم معتلّة الصحة ساكنة
الحركة والتي رَقّ وجهها حتى أصبح شبيهاً بوجه قرد. وفي أحيان كثيرة كانت أمه
تأخذه بين ذراعيها وتضمه إلى صدرها فترة طويلة من الوقت دون أن تنبس بكلمة. ورغم
صغر سنه وأنانيته كان ونستون يعي أن تصرفات أمه ترتبط بطريقة ما بذلك الشيء وشيك
الحدوث والذي لم تشر إليه أبداً.
وتذكّر ونستون تلك الغرفة التي كانوا يعيشون
فيها رغم عتمتها ورائحتها العفنة وضيق مساحتها، والتي يشغل نصفها سرير ذو غطاء
أبيض. كان هنالك موقد للطهي ورف لحفظ الطعام، وخارج الغرفة كان يوجد حوض بُني لغسل
الأواني والذي كانت تشترك فيه أكثر من غرفة. وكذلك تذكر ونستون أمه بجسمها الممشوق
كالتمثال وهي تنحني على الموقد لتقلب شيئاً كانت تضعه في القدر. وإضافة إلى كل ذلك
تذكر إحساسه الدائم بالجوع والمعارك الشرسة التي كانت تندلع كلما حان وقت الطعام
حينما كان يسائل أمه مراراً وتكراراً وبلهجة متذمرة عن سبب عدم وجود المزيد من
الطعام، وحينما كان يصرخ ويثور عليها، بل وحتى تذكّر نبرة صوته حينما كان يتحايل
عليها ببكاء يستدر العطف والشفقة من أجل الحصول على نصيب أكبر من حقه. وكانت أمه
مستعدة دائماً لأن تعطيه أكثر من حصته فقد كانت تسلم بذلك، فهو «الولد» وينبغي أن
يحظى بأكبر الحصص. ومع ذلك فقد كان كلما أعطي يطلب المزيد. وكانت أمه ترجوه عند كل
وجبة ألا يكون أنانيا وأن يتذكر أن أخته الصغيرة مريضة وبحاجة إلى الطعام أيضاً.
إلاّ أن رجاءها كان يذهب عبئاً. بل وكان يصرخ غاضباً إذا توقفت عن سكب الطعام له،
وكثيرا ما كان ينتزع القدر والملعقة من بين يديها أو يغتصب بعض القطع من طبق أخته.
ومع أنه كان يدرك ان أمه وأخته قد تموتان جوعاً بسببه، فإنه لم يكن يستطيع منع
نفسه عن ذلك، بل كان يرى أن من حقه أن يفعل ذلك، فقد كانت عضات الجوع التي تنهش
أحشاءه تسوِّغ له ذلك. وبين الوجبات كان من دأبه أن يسرق ما تطاله يداه من مخزون
الطعام الموضوع فوق الرف إذا سهت أمّه عن حراسته.
وذات يوم وزعت عليهم مخصصاتهم من الشوكولاتة
والتي كان قد مضى على انقطاعها أسابيع أو شهور. وكان ونستون لا يزال يذكر بوضوح
تلك القطعة الصغيرة والثمينة من الشكولاتة التي أعطيت لثلاثتهم وكانت تزن أوقيتين
(كانت الأوقية لم تزل مستخدمة في تلك الأيام). وكان بديهياً أن تقسم إلى ثلاثة
أقسام متساوية، فراح ونستون فجأة يصرخ بأعلى صوته طالبا الاستئثار بقطعة
الشوكولاتة برمتها، ولكن أمه نهرته وطلبت منه ألا يكون شرهاً، ودار بينهما جدال
طويل مزعج لم يخل من الصياح والنحيب والدموع والاحتجاجات والمساومات، ووسط كل ذلك
كانت أخته الصغيرة تتشبث بكلتا يديها بأمها، تماماً مثلما تفعل صغار القردة، وهي
تنظر إليه بعينين شاخصتين يملأهما الحزن. وفي النهاية اقتطعت أمه من الشوكولاتة
ثلاثة أرباعها وأعطتها لونستون فيما أعطت الربع الباقي لأخته. وأمسكت الطفلة
الصغيرة بقطعة الشوكولاتة وراحت تحملق فيها ربما لأنها لم تكن تعرف ما هي، أما
ونستون فقد راقبها للحظة ثم وبقفزة سريعة ومباغتة انتزع قطعة الشوكولاتة من يدها
ولاذ بالفرار.
وصاحت به أمه: «ونستون، ونستون، ارجع! أعد
قطعة الشوكولاتة لأختك!»
فتوقف ونستون عن الركض لكنه لم يرجع، وكانت
عينا أمه القلقتين تحملقان فيه. وحتى في تلك اللحظة كان يفكر في ذلك الشيء الوشيك
والذي لا يعرف كنهه. وأما أخته فما كادت تفطن إلى أن شيئاً ما قد سُلب منها حتى
انخرطت في ولولة واهنة، فراحت الأم تحيطها بذراعيها وتضمها إلى صدرها، وكان في هذه
الحركة ما يوحي لونستون بأن أخته تلفظ أنفاسها الأخيرة، لكنه استدار غير آبه بشيء
وولى هارباً في حين كانت قطعة الشوكولاتة تذوب في يده.
ولم يقدّر له أن يرى أمه ثانية، فما إن فرغ
من التهام قطعة الشوكولاتة حتى تملّكه شعور بالخزي من نفسه وراح يهيم لساعات على
وجهه في الشوارع لا يعرف له مقصداً حتى إذا شعر بالجوع ينهشه قفل راجعاً إلى
البيت. لكنّه لم يجد أمط فقد اختفت، وكانت عمليات الاختفاء أمراً مألوفاً في تلك
الآونة. وجد ونستون كل شيء في الغرفة على حاله لم يمسسه أحد عدا أمه وأخته اللتين
لم تأخذا شيئاً من ثيابهما وحتى معطف أمه كان في مكانه. وحتى اليوم هذا لا يعرف
على وجه اليقين إن كانت أمه قد لقيت حتفها أم لا، فمن الجائز جداً أن تكون قد
أرسلت إلى أحد معسكرات الأشغال الشاقة، أما أخته فربما نُقِلَت، مثلما حدث معه هو،
إلى إحدى مستعمرات الأطفال المشردين التي كان يطلق عليها «مراكز الإصلاح» والتي كانت
أعدادها قد ازدادت نتيجة للحرب الأهلية. أو لعلها في معسكر الأشغال برفقة أمها، أو
تُرِكت وحيدة في مكان ما لتموت جوعاً أو إهمالاً.
كان الحلم ما يزال حياً في ذاكرته، خصوصاً
حركة ذراعي أمه الحانية وهي تطوق بهما طفلتها وهي حركة كانت تنطوي على معان كثيرة.
وعادت به ذاكرته إلى حلم آخر كان قد حلم به قبل شهرين، عندما ظهرت له أمه في سفينة
تغرق والطفلة تتشبث بها، تماماً كما كانت جالسة على حافة السرير القذر في البيت،
وهو يراهما من علو شاهق تغرقان وتغرقان إلى أعماق سحيقة لكنها ما تزال تنظر إليه
بعينين شاخصتين عبر المياه المظلمة.
وروى ونستون لجوليا قصة اختفاء أمه، ودون أن
تفتح عينيها راحت تتحرك على الفراش حتى باتت في وضع أكثر راحة.
وقالت على نحو غامض: «أظنك كنت وغداً صغيراً
في هاتيك الأيام، ولا بأس فكل الأطفال أوغاد».
فقال لها: «أجل، ولكن النقطة الهامة في القصة
هي...».
لكنه أمسك عن الكلام حينما لاحظ من إيقاع
أنفاسها أنها عادت إلى النوم ثانية. وكان يود الاستمرار في حديثه عن أمه. فمن كل
ما يذكره عنها لم يكن يرى فيها امرأة غير عادية أو ذكية، لكنها مع ذلك ظلت تتسم
بالنبل وتتصف بالطهارة كونها كانت تتصرّف وفق معايير أخلاقية خاصة بها. فمشاعرها
كانت تنبع من داخلها ولا يمكن لأي قوى خارجية أن تؤثر عليها. ولم تعتقد أبدا أن أي
عمل مهما بدا غير مؤثّر يمكن أن يكون عديم المعنى والجدوى. وكانت تؤمن بأن المرء
إذا أحب شخصاً فيجب أن يخلص له الحب، حتى إذا لم يبق لديه شيء يمنحه إياه، بقي
لديه ذلك الحب. لذلك عندما انتزع ونستون قطعة الشوكولاتة الأخيرة من يد أخته
احتضنت الطفلة بين ذراعيها لتعوضها عنها حناناً وحباً. وبالرغم من أن ذلك كان عديم
الجدوى ولم يغير من الأمر شيئاً ولم يُعِد للطفلة قطعة الشكولاتة، كما لم يحل دون
موتها أو موت الطفلة، إلا أنها كانت ترى أن من الطبيعي أن تقوم بتلك الحركة
وتحتضنها. وهكذا فعلت المرأة التي في مركب اللاجئين، أحاطت صغيرها بذراعيها رغم
علمها أن ذلك لن يحميه من طلقات الرصاص إلا بقدر ما تقيه قصاصة من ورق. وربما كان
أشنع ما قام به الحزب أنه كان يحاول إقناع الناس بأن مجرّد الدوافع والمشاعر لم
تكن بذات قيمة، وفي الوقت نفسه كان يسعى لأن يجرد المرء من كل سلطة له على العالم
المادي. وحينما كان المرء يقع في قبضة الحزب فإن كل ما يشعر به أو لا يشعر به وما
يقدم عليه أو يحجم عنه يصبح بلا جدوى على الإطلاق. فمهما حدث سيختفي ويزول هو وكل
ما قام به ولن يسمع بذكره أحد حينما يتم رفعه من مجرى التاريخ. بيد أن الناس قبل
جيلين لم يكونوا يولون ذلك اهتماماً، لأنهم لم يكونوا يسعون إلى تغيير التاريخ.
فقد كانت لهم ولاءات خاصة. وكانت العلاقات الفردية هي ما يهمّهم، فكل حركة مهما
كانت عاجزة مثل عناق أو دمعة أو كلمة يواسى بها رجل على فراش الموت يمكن أن تنطوي
على قيمة كبرى. وفجأة تنبه إلى أن العامة ما زالوا يعيشون على هذه الحال، فولاؤهم
ليس لحزب أو دولة أو فكرة وإنما لبعضهم البعض. وكانت هذه هي المرة الأولى التي لا
ينظر فيها ونستون إلى العامة نظرة ازدراء أو يعتبرهم مجرد قوة هامدة بل قوّة
يمكنها أن تبعث إلى الحياة في يوم من الأيام فتنفخ في هذا العالم روحاً جديدة. لقد
ظل العامة بشراً ولم تتحجر أفئدتهم. إنهم يتمسكون بعواطف فطرية كان عليه حتى
يكتسبها أن يبذل جهوداً كبيرة. وفيما كانت هذه الأفكار تجول بخاطره إذا به يتذكر
وعلى نحو غير ذي صلة بالموضوع كيف أنه رأى منذ بضعة أسابيع يداً مبتورة على الرصيف
فأزاحها بقدمه كما لو كانت عرق ورقة ملفوف.
وقال بصوت عال: «إن العامة هم البشر أما نحن
فلسنا من البشر في شيء.»
وقالت جوليا التي استيقظت على صوته: «ولماذا
لسنا ببشر؟»
ففكر ونستون لبرهة من الزمن ثم أجابها: «ألم
يخطر لك أن خير ما نفعل هو أن نغادر هذه الغرفة قبل فوات الأوان ودون رجعة وألا
يرى أحدنا الآخر بعد اليوم؟»
فأجابت: «بلى يا عزيزي، لقد خطر لي ذلك مرات
عديدة، ولكني مع ذلك لن أقدم على شيء من هذا القبيل.»
فقال: «لقد كان الحظ حليفنا، لكنه لن يظل
هكذا، وأنت ما زلت شابة وتبدين غضة وبريئة، وإذا ما نأيت بنفسك عن أمثالي من الناس
فقد يكتب لك أن تعيشين خمسين سنة أخرى.»
فقالت: «لا، لقد قلبت الأمر على كافة أوجهه
وقرّ قراري على أنني سأفعل ما ستفعله أنت، فلا تبتئس، أنا أعرف جيداً سبل البقاء
على قيد الحياة.»
فقال: «ربما نظل معاً لستة أشهر أخرى أو
لسنة، فلا أحد يعلم، لكننا في النهاية سنفترق بكل تأكيد. هل تدركين كم ستكون
الوحدة موحشة؟ فعندما نقع في قبضتهم لن يكون بمقدور أي منا مساعدة الآخر بأي شيء
على الإطلاق. وإذا اعترفت أنا فسوف يعدمونك رمياً بالرصاص، وإذا رفضت الاعتراف
ستلاقين المصير نفسه وستموتين بالطريقة نفسها. وما من شيء باستطاعتي فعله أو قوله
أو الامتناع عن قوله يمكن أن يؤخر موتك ولو خمس دقائق، ولن يكون بمقدور أحدنا أن
يعرف على الإطلاق ما إذا كان الآخر حياً أو ميتاً، إذ سنسلب آنذاك كل حول أو قوة.
ولن يعنينا سوى أمر واحد وهو ألا يخون أحدنا الآخر رغم أن ذلك لن يغير من الأمر
شيئاً.»
فقالت جوليا: «إذا كنت تعني الاعتراف فهذا
أمر لا مناص لنا منه، فالكل لا بد أن يعترف ولا مناص لأحد من ذلك، وإلا ذاق أشد
صنوف العذاب.»
فقال: «لم أقصد هذا الاعتراف، فالاعتراف في
حد ذاته ليس خيانة، وما يقوله المرء أو يفعله لا أهمية له أبداً، فمشاعره فقط هي
التي تهم. فإذا تمكنوا من جعلي أكف عن حبي لك فإن هذه هي الخيانة الحقيقية التي
أقصدها.»
وفكرت جوليا في كلامه ثم قالت بشكل قاطع: «لا
يمكنهم أن يبلغوا ذلك، فذلك هو الشيء الوحيد الذي لا يستطيعونه، إذ بوسعهم أن
يكرهوك على قول أي شيء يريدونه، ولكنهم لا يستطيعون إكراهك على أن تؤمن بما تقول،
فليس لهم سلطة ينفذون بها إلى كيانك.»
فقال وقد لمع على وجهه شعاع من الأمل: «لا،
ليس لديهم. صحيح تماماً. إنهم لا يستطيعون النفاذ إلى قلبك. وإذا استطاع المرء أن
يشعر بأن بقاءه إنساناً هو أمر يستحق التضحية من أجله، حتى لو لم يؤدِّ ذلك إلى
نتيجة، فإنه يكون قد ألحق بهم الهزيمة.»
وفكر ونستون في شاشة الرصد التي لا تنام لها
عين أو تصغ لها أذن، فهم يتجسسون عليك ليل نهار ولكنك إذا احتفظت بوعيك يمكنك أن
تخدعهم. ورغم كل ما لديهم من مهارات فإنهم لم يتمكنوا من فك رموز السر الذي يفتح
لهم نافذة على ما يجول بخاطر الإنسان. وربما تقل صدقية هذا القول حينما يقع المرء
في قبضتهم، فلا أحد يعلم ما الذي يجري داخل أقبية وزارة الحب، وإن ظل بوسع المرء
أن يتكهن بذلك: صنوف من العذاب وعقاقير هلوسة وأجهزة دقيقة تحصي عليك ردود فعلك
العصبية وإنهاك تدريجي لقواك بالحرمان من النوم والوحدة والاستنطاق المتواصل. وفي
كل الأحوال لا يمكن إخفاء الحقائق عنهم لأنهم يستطيعون استخلاصها بالتحقيق معك أو
انتزاعها منك بالتعذيب. ولكن إذا كان هدفك ليس أن تظل على قيد الحياة إنما أن تظل
إنساناً فإن البون يصبح شاسعاً، فهم لا يستطيعون تبديل مشاعرك، ولا غرو فأنت نفسك
حتى إذا أردت لا تستطيع ذلك. فبإمكانهم كشف أدق التفاصيل وفضح كل أقوالك وأفعالك
وأفكارك، ولكن يظل قلبك المكنون والذي لا يمكنك أنت نفسك سبر أغواره حصناً منيعاً
عليهم.