الفرق بين كائن العرص وفيروس كورونا (1)
حدّثني الحكيم "ابن أبي صادق" .. وهو ببواطن الأمور عالمٌ حاذق، عن أسرار أقدم مهنةٍ في التاريخ .. والتي عرفها الإنسان حتى قبل أن يعرف الطبيخ، وهي باختصار العبارة .. مهنة الدعارة، وقد عرفت "مصر" هذه المهنة الحقيرة .. منذ عهودٍ وقرونٍ كثيرة، ولعل أوّل تسجيلٍ للدعارة .. كان قد أكتُشِف في "سقّارة"، حيث عُثِر في معبدٍ هناك .. على غرفةٍ كانت مُخصَّصةً آنذاك، لممارسة الجنس مقابل مقايضة السلع أو أجرٍ مادي .. يرجع تاريخها لألفيْ عام قبل التقويم الميلادي، وكانت تُسمَّى غرفة إله الخصوبة "بِس" .. المنحوتة تماثيله على هيئة رجلٍ عارٍ بلا ملابِس.
وظل الحال على ما هو عليه سنيناً وسنين .. حتى بعد أن تحوّل قدماء المصريين إلى يهودٍ ومسيحيين ومسلمين، فبرغم تحريم هذه الديانات تماماً لمهنة البغاء .. إلا أنها استطاعت الوجود والبقاء، فذكر بعض المؤرخين أنه في عصر الخليفة الفاطمي ذي الجاه .. "العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله"، كان قد اعترف رسميّاً بما يُسمَّى بـ"بيوت الخواطي أو الزواني" .. أو كانت تُدعى بـ"بيوت المغاني أو الغواني"، وقد أمر سمّوه بتحصيل ضريبةٍ معلومة تُدفع لدار الجباية .. نظير قيام الشرطة بالحراسة والحماية، كما قال المؤرخ "ابن إياس الحنفي" في كتابه "بدائع الزهور" .. أن "عزالدين أيْبك" السلطان المملوكي المشهور، كان قد أصدر قراراً بتحصيل "الحقوق السلطانيّة" .. من شاغلي هذه البيوت الإباحيّة، إلى أن جاء السلطان "ناصر الدين محمد بن قلاوون" .. فأبطل النظام وأنكر على الناس ما يفعلون، ثم ما لبث حفيده السلطان "الأشرف زين الدين شعبان" .. أن أعاد نظام الدعارة إلى ما كان، ولكنه استحدث تخصيص مكانٍ معلوم .. جمع فيه الغواني وبنات الشوم، وقد وصف "المقريزي" هذا المكان القريب من أرض "الطبّالة" .. والذي عرف سابقاً باسم "بركة الرطلي" ولاحقاً بـ"الفجّالة".
وعندما جاء العثمانيّون كانوا بهذا المجال أكثر خبرة .. جعلهم الله لعبيده عظةً وعبرة، فقاموا بعمل تنظيماتٍ ذات احترافيّةٍ ودقّة .. فكما قسّموا الأحياء إلى شوارعٍ وحواري وأزّقة، قسّموا أيضاً بيوت الدعارة إلى مناطق أو "عَرْصات" .. والتي لها أصلٌ عميقٌ في علم اللغات، فالمفرد "عَرْصة" "Arsa" هي كلمةٌ تركيّة .. تعني قطعة أرضٍ ذات استقلاليّة، وقد تم تمرير الكلمة إلى العربيّة الفصيحة .. فصارت تعني الساحة الفسيحة، أو بقعة الأرض بين الدور أو الديار .. أو فناءً يتوسّط العمار، وكما عيّنوا على كل حي أو قريةٍ شيخاً للبلد موْصوف .. وعلى كل شارعٍ شيخَ حارةٍ بين الناس معروف، وعلى الأمن والحراسة شيخاً للخفر أو الغفر .. عيّنوا أيْضاً على كل "عرصةٍ" ضابطاً أو نفر، وأسموه "شيخ العرصة" الهُمام .. وأوكلوا له عدّة مهام، فكان مسؤولاً مع مساعديه عن تحصيل الضرائب من هذه البيوت .. بجانب حمايتهم من الزبائن الذين يجب أن يدفعوا ما عليهم بالسحتوت، وكذلك حراستهم من هؤلاء المسلمين والمسيحيّين المتديّنين المتشددين .. الذين يحاربون الزنا والبغاء كما أمرهم الدين، هذا أيْضاً بخلاف مسؤوليّات "شيخ العرصة" الفرعيّة .. كتجميع الغواني شهريّاً للكشف عليهم وعلاجهم من الأمراض السريّة، كالزهري والسيلان وباقي الأمراض التناسليّة .. وكذلك من الجرب وسائر الأمراض الجلديّة، كما قام الأتراك بتصنيف القائمين على هذا الكار .. فالرجل القوّاد الذي يأتي بالزبائن ويجرّهم اسمه "سحّابٌ" أو "جرّار"، والمعلّمة التي تنظّم عمل الغواني كانت تسمّى "العايقة" المشهورة .. أما الغانية نفسها فكانوا يطلقون عليها لقب "مقطورة"، أمّا بيت الدعارة فصار اسمه "كراخانة" .. "كرى" أي نوم و"خانة" أي مكان أو محل أو دكانة، واستثقل المصريون نطق كلمتيْ "شيخ العرصة" واختصروه لـ"عَرْص" .. وصاروا ينطقّونه بكل أريحيةٍ وعفويّةٍ دون حِرص، ولِمَ لا وقد كان "العرص" رجلاً شرطيّاً في أعلى مكانةٍ ومكان .. يجمع بين المال والسلطان، وهنيئاً له مَن أُتيحت له الفرصة .. وأصبح بجلالة قدره "شيخ عرصة"، ولم تكن كلمة "عرصٍ" قد اكتسبت سمعتها السيّئة بعد .. بل كان صاحبها بين الناس محسودٌ ذو سعدٍ ووعد، وتحت هذا النظام المُحْكَم انتشرت في كل الأقاليم الكراخانات .. وصارت تقدّم لراغبي المتعة الحرام الخمور والمخدرات، وصارت الدعارة مهنةً رائجةً رابحة .. رغم أن الأنوف قد زُكِمَت من رائحتها الفائحة.