شجرة الدم (2)
وظنّت "ناريمان" أن ابنها يتصنّع
الأمر عندما فرد يده اليسرى ناحية الشجرة ممثّلاً أن أحداً يجذبه منها فمسكته من
يده اليمنى وشدّته ليذهب معها بعيداً عن الشجرة ولكنها صرخت عندما وجدت أن ابنها
لا يتحرّك معها بل ينجذب وتنجذب هي معه ناحية الشجرة بقوّة وكأنّ رجلاً قويّاً
يشدّه ويشدّها معه لئلا ينصرف فأجهشت بالبكاء من فرط رعبها وخوْفها على ابنها
وعزمت على أن تبوح بالأمر كلّه لزوْجها والد الطفل حتى يتصرّف.
وفوْر أن عاد الباشا لمنزله في موْعد الغداء
فاتحته "ناريمان" في أمر ولدهما الوحيد فانزعج الرجل ولم يتناول غداءه
بل راقب الولد عن قرب فتأكّد له ما قالت الأم وأكثر فقد أمعن في متابعة الولد
عندما كان يلعب بالكرة فيقذفها ناحية الشجرة لتصطدم بجذعها وترتد إليْه مرّةً أخرى
ولكن الأب لاحظ أن الكرة ترتد إلى ابنه قبل أن تصطدم بالشجرة أو حتّى تلامس جذعها
فاضطرب "شوْكت" باشا اضطراباً شديداً وانتوى أن يعرض ابنه على ذوي
العلم.
وفي صباح اليوم التالي رافق الولد أباه - بعد
أن ودّع أصدقاءه الوهميّين عند الشجرة - وسافرا إلى "الأسكندريّة" حيث
جابا بعض الأطبّاء وعدّة شيوخٍ وحفنة قساوسة وكثيراً من الدجّالين ليروا رأيهم في
الأمر، فشخّص الأطباء الأمر على أنّه هلاوس سمعيّة وبصريّة قد تصيب الأطفال في مثل
هذا السن ووصفوا دواءهم لعلاج الابن، وأفتى الشيوخ بأن الصبي ملبوسٌ من قِبَل أحد
أفراد الجن ويلزمه رقيةً شرعيّة تشمل قراءة آياتٍ معيّنة من القرآن الكريم، ورأى
القساوسة أنّ روحاً قد تقمّصت الابن ولن ترحل عنه قبل تخليصه بإقامة الصلوات
والأدعية وتلاوة بعض المزامير، في حين أكّد الدجّالون والمشعوذون أن الولد ممسوسٌ
من الشيْطان ويجب ضربه بشدّة أثناء إجراء مراسم زارٍ تُذبَح فيه أضحية لينصرف عنه
الشيْطان دون رجعة.
وبعد أن سار الأب وابنه على درب جميع هؤلاء
ونفّذا أوامر الأطبّاء وأذعنا لفتاوى الشيوخ وأطاعا آراء القساوسة وانقادا لطلبات
الدجّالين لم يستجد شئٌ على حال "كريم" بل زاد سوءاً واشتدّ حدة ؛ فقرّر
الأب - بناءً على نصيحة أحد الأصدقاء - أن يقطع هذه الشجرة الملعونة ويمنع ابنه
تماماً من التواجد بالحديقة حتّى يحول بيْنه وبيْن ما يؤدّي إلى هذه التصرّفات
الغريبة التي قد تدفعه إلى الجنون المبكّر.
وفي صباح أحد الأيّام الحارّة حضر العمّال
وأعملوا بلطاتهم وفؤوسهم ومناشيرهم في شجرة الرمان فاجتثّوها من فوْق الأرض قرب
جذورها وقطّعوها أجزاءً صغيرة وحمّلوها على ثلاث سيّارات نقلٍ كبيرة وبعد أن صرفوا
أجورهم وانصرفوا ذهب البستاني ليساوي الأرض مكان الشجرة المقطوعة فذُهِل ممّا رأي
وجرى "لشوْكت" باشا المتواجد داخل قصره ليخبره - وهو بالكاد يتنفّس
أنفاساً متلاحقة من شدّة ذعره وارتعابه - بأن مكان شجرة الرمّان الخالي قد امتلأ
ببركةٍ من سائلٍ أحمر لزج يشبه الدم ينبثق من تحت التربة، وهرع الباشا هناك فدُهش
وفزع من المنظر ولكن أحد الفلاحين البسطاء المتواجدين ذلك الوقت في قصره طمأنه بأن
ذلك السائل ربما يكون هو نفس السائل الذي تحتويه حبّات الرمّان خاصةً أن وقت قطع
الشجرة كان قبيل أسابيع من احمرار ثمار الرمّان ونضوجها وربما كان هذا السائل
متراكماً حول الجذور ولم يسعفه الوقت لينتقل إلى جذع الشجرة ثم فروعها ثم ثمارها،
وقَبِل الباشا هذا التفسير الساذج كي يريح نفسه المنهكة وينهي الأمر عند هذا الحد
ويغلق باب التفكير والمناقشة في تلك الشجرة المرعبة.
وبعد أن انتصف الليْل بقليل كان الباشا قد
انتهى من مراجعة حساباته مع رئيس الدائرة وبعض المستخدمين فصرفهم من سلاملك القصر
وأمر الخدم بأن يأووا إلى غرفهم في الخدملك ليناموا وتوجّه هو إلى الحرملك حيث غرف
النوْم، وأثناء صعوده على الدرج الداخلي للقصر لاحظ ظهور شروخٍ رفيعةٍ قصيرة
بالجدران تتخلّلها بعض البقع الحمراء الباهتة لم يتوقّف عندها كثيراً حين سمع
أصواتاً خافتة لصراخٍ وأنينٍ ونحيب تأتي من حيث حجرة "كريم" فأسرع إلى
هناك وفتح باب الغرفة فإذا بنسيمٍ بارد يصفع وجهه رغم أن النوافذ محكمة الغلق وإذا
"بكريم" يجلس مستيْقظاً على فراشه وهو واجمٌ مصدوم ينظر حوله في كل
اتجاهٍ في ذهول وشرود من تلك الأصوات الخافتة التي تأتي من مكانٍ سحيقٍ غير معلوم
المصدر، فاختطف الأب ابنه من فوْق الفراش وولّى الأدبار مسرعاً وأغلق الباب ورائه
فهدأت الأصوات قليلاً واتّجه به لأمّه في غرفتها فأيْقظها بعد جهدٍ جهيد نظراً
لاحتسائها عدّة كؤوسٍ من الخمر قبل أن تنام وحكى لها ما كان فدب الرعب في قلبها
وصمّمت على مغادرة القصر بمجرّد أن تشرق شمس اليوم التالي.