ورطة الملك الإغريقي
حدّثني الحكيم "ابن أبي صادق" .. وهو ببواطن الأمور عالمٌ حاذق، أن حاكم الإغريق القديم "ليونيداس".. كان يجلس على عرشه محتاس، وكان يصرخ مستغيثاً ويقول .. كمَن انتفخ من أكلةِ فول: "أغيثوني يا حكماء الإغريق السبعة .. ألا ترون مظاهرات الشعب الوالعة؟، أنا الملك العظيم ليونيداس .. ابن الملك الأعظم أناكساندريداس، أجلس هنا كالقرطاس .. هيَّ بقت كده خلاص؟، الشعب هايج من ارتفاع الأسعار .. والضرايب اللي بقت زي النار، أفتوني بالله عليكم ماذا أفعل .. ولاد الكلب دول يريدونني أن أرحل".
قال الحكيم الأسبرطي "خيلون" .. بنبرةٍ هادرةٍ كالسيفون: "أنت السبب أيها الملك .. لقد أصبحت كالزمبلك، لقد نصحتك كثيراً بأن تعرف نفسك .. وتركز كده شويّة وتاخد نَفَسك، اقعد في البلد وشوف مطالب الشعب .. أحسن دول صيّع ولاد كلب، لكنك ظللت تنط مسافراً بين الدول كفرقع لوز .. وكأنك لست ملكاً لبلادٍ محترمة بل لجمهوريّة الموز، وقد حذرتك مراراً وتكراراً .. ولكنك كنت حماراً، سامحني على هذا اللفظ الفظ .. فأنا اللي مربيك وهريتك وعظ، ولكن - زي ما بيقولوا - علّم في المتبلّم يصبح ناسي .. وانت - ما تآخذنيش سموّك - تستاهل ياخدوك ورا مصنع الكراسي".
وساد الصمت لحظات .. مرّت كأنها سنوات، حتى صاح الحكيم الأثيني "سولون" .. وقد جاب وِشّه ميت لون: "يا "ليونيداس" يا ملك الملوك .. ما انت اللي عملت فيها فركوك، غُلُبت اقول لك لا تُكْثِر من شيء .. ولكنك هريت الشعب تصريحات تجرّي الريق، ألم تعد الناس بأكل الجاتوه والبغاشة؟ .. ألم تقُل لهم سترون انتعاشة؟، لقد كنتَ معهم في غاية البشاشة .. ثم انقلبتَ عليهم وعملت معاهم الجلّاشة، ولم يروا منك سوى العيشة الضنك .. وأصبحوا يأكلون الجبنة القريش بعد الفلامنك، ونزلت فوق دماغهم كالإعصار .. غلّيت العيشة وزوّدت الأسعار، ورغم إن الشعب ساكت وراضي بقليله .. إلّا أنك نضّفت جيوبهم كالصيني بعد غسيله".
وهنا انبرى الحكيم الأيوني "طاليس" قائلاً: "لقد كاد عرشك أن يكون زائلاً، لقد بلغت روح الناس الحلقوم .. وعاديك ع اللي بيعمله الشعب لمّا يقوم، مش بعيد يقعّدونا كلنا ع الخازوق .. أبوس إيدك يا مليكنا صحصح وفوق"، وسكت بُرهةً ازدرد فيها ريقه الجاف ثم استكمل الحديث .. وقال وهو يدعو المغيث: "لقد أكّدت على جلالتك .. وقلت لك سيبك من هبالتك، واعرف إن التأكد يجلب الخراب .. واوعى لنفسك لتكون آخرتك هباب، ولمّا ساعتها قعدت متنّح مش فاهم .. شرحت لك إن العبارة دي زي المراهم، تشفي كل شخص واهم .. فاكر إنه أذكاهم، قلت لك ما تستسلمش ولا تسلِّمش تفكيرك لأفكار قديمة جاهزة .. وإنك لو اعتبرت إن الدنيا كلها حقائق مؤكّدة فايزة، لا مؤاخذة ح تاخد أكبر خازوق في حياتك .. وح يطلع من نافوخك ويبقى السبب في مماتك، لإن اللي يبحث ويجادل ويعرف إن كل حاجة جايزة .. ويلغي كلمة أكيد من قاموسه يستحق ألف جايزة، فالتأكّد أكبر غلطة ممكن نقع فيها .. ولو وقعنا نستاهل ناخد فيها، طبعاً باقول لك الكلام ده وبأكّد عليه تاني .. بعد ما جلالتك مشيت ورا الكلام الفلاني والعلّاني، وافتكرت إن الشعب ح يسكت لك أكيد .. زي ما سكت للملك السابق اللي كان عنيد، واتبعت كل السياسات المؤكّدة المعروفة .. بحجة إن فيها الشِفا وموصوفة، استحمل بقى يا سيدي اللي يجرى لك .. وسيبك من اللي مضى وشوف حالك".
وتبعه الحكيم الكورنثي "بيرياندر" .. ولام الملك أكثر وأكثر، وقال: "عندك حق يا طاليس .. لكن تقول إيه بقى لوساوس إبليس، وحياة زيوس هذا ما قلته أيضاً .. وقعدت أحزق فيه حتى كدت أن أحيض حيْضاً، وفضِلت أأكّد على التفكير المسبق في كل شيء .. وهوَّ ده اللي ح يرشده لأوّل الطريق، بس للأسف القول عند الملوك ضايع .. فاكرين الكلام ده طالع من حكيم صايع".
ولم يُرِد أن يضيع الحكيم الميتيليني "بيتاكوس" فرصته في لوم الملك "ليونيداس" .. وانضم لمّن سبقه في الحديثِ وداس: "ملكنا يا إخواني كبقية الملوك .. فاكر نفسه إنه هوَّ بس اللي فزلوك، طب ما انا ياما قلت له اغتنم فرصتك .. ما تبصّش في قُرَص الناس وخلّيك في قُرْصِتك، ده ما فيش ملك من قبلك شاف اللي انت شفته .. تأييد وإعانات وطرمخة وسكوت عمري ما عرفته، بس قِلِّة سمع الكلام غيّة .. خصوصاً لو ما كانش الواحد سليم النيّة".
وساد الوجوم المكان .. فقد كان ما كان، وسبق السيف العذل .. وحصل ما قد حصل، ثمَّ قال الحكيم اللندوسي "كليوبولوس": "يا عم بيتاكوس ما تبقاش فلحوس، كلنا بنعيش ونتعلّم من الدروس .. إنتم ليه محسّسينّي إن ملكنا موكوس، يا جماعة كل اعتدالٍ محمود .. بلاش نأَفْوَر المسائل ونعدّي الحدود، واللهِ ملكنا ده ما فيه زيّه .. ده النور اللي ف حياتنا واخدينه من ضَيّه، هوَّ احنا نقدر نعيش من غيره .. ده كل اللي احنا فيه من خيره، سيبكم من الإحباط .. وكفاية استعباط، كلّنا ف مركب واحدة .. ولو ملكنا وقع ح تبقى وقعِتنا جامدة، لازم نقف كلّنا جنبه .. واللي حصل ده ذنبنا وذنبه، ما هو كان بيمشي بكلامنا طول الوقت .. واحنا اللي شورنا عليه بقرارات زي الزِفت، عايزين نفكّر بهدوء ح نعمل إيه .. وما تخلّوش أعصابنا تبوظ من كُتر قولِة أحيه".
وأمّن على قوْل "كليوبولوس" صديقه الأنتيم الحكيم البرييني "بياس" .. وقام من فوْره وقال وهو يُصْلِح من هِندامه ويرفع اللباس: "احنا معاك يا ريّس .. بس فكّر معانا كويّس، أنا رأيي نطاطي للريح .. معلهش انا ح ابقى صريح، احنا نرخّص أسعار بعض الحاجات .. ونرجع كمان ف بعض القرارات، بس ح نحسّس الناس إننا ما خوفناش .. وإن الرجوع ده كان بعد نقاش، وإنك يا مليكنا وملكنا ومالكنا طبعك حنيّن .. وإن قلبك ع الفقير ليّن، وفي نفس الوقت تقبض على كام واحد من الكبار .. قال يعني همَّ السبب ف زيادة الأسعار، وأهي فرصة تعمل بنصيحتي لمّا قلت لك إن كثرة العمّال تُفسِد العمل .. وقلت لك كمان إن طولة العمر تبلّغ الأمل، والعرب قالوا زمان مَثَل فَرَق .. كثرة الطبّاخين تُفسِد المَرَق، والمركب اللي فيها ريّسين تغرق .. واللي يشيل فوق طاقته يعرق، إيه رأيك يا موْلانا؟ .. بالذمّة مش فكرة ربحانة؟".
وابتسم الملك "ليونيداس" بخباثة ..
وقال وهو يتصنّع الدماثة: " لقد أحسنت يا بياس أنت وكليوبولوس .. فعلاً
الملِك اللي ما عندهوش حكماء زيّكم يلوص، ولهذا قرّرت أن أخفّض الأسعار وأعدّل ما
أخذته من قرارات .. وأن أعتقل مَن يضر الشعب ويتلاعب في الأرزاق والأقوات، يا رئيس
الشرطة أطِع هذا الأمر واجعل رجالك ينفّذون .. أمري باعتقال بيتاكوس وبيرياندر
وطاليس وسولون وخيلون، منطق الاعتدال المحمود يرغمني على تقليل الحكماء .. فاثنيْن
منهم فقط يكفياني خصوصاً لو كانوا معي في السرّاء والضرّاء".
وعند هذا الحد سكت "ابن أبي صادق"
عن الكلام .. وتركني وحيداً كي أنام، رغم أن النوْم جفاني .. وأرّقني السهاد
وأضناني، فقد كنت أرجو منه أن يستكمل قصّته الشيّقة .. عن الملك وحكمائه وشعبه ذي
النظرة الضيّقة، فما أتعس ذلك الشعب الذي يكتفي ببعض الفتات .. ويستسهل أن يعيش
يومه فقط ويستغني عمّا هو آت.